نصوص أدبية

من ذاكرة السجن

almothaqafnewspaperمضت شهور على توقيفي في سجن ماركا، وما زال ثمة ألم خفي يعتصر الروح، وحس بالأحباط يراود النفس، فقد مرت الأحداث سريعة دراماتيكية، تمضي إلى نهايات غير واردة، ومآلات لم تكن متوافقة أو متوقعة . السجين عادة يفقد شيئا من وهج روحه، شيئا من إنسانيته، شيئا يبقي وراء القضبان الصلدة، وفي الزوايا الرطبة، ويظل يبحث عنه طول عمره، ولن يجده إلا بتعويض غير أصيل، يحتضنه على عجل، ومرغما، كي تمضي عجلة الأيام والحياة . يدخل  شيئا ويخرج شيئا، عاطفة وإحساسا وفكرا .

يومها وقفت أمام متصرف سحاب محمد الحراحشة، كان الرجل هادئا وصامتا ومترددا، ثم أعلنها عن اضطراره لتوقيفي، وكان صادقا، فهو مضطر لسبب ما زلت أجهله حتى الآن .

بعد نهار متعب طويل، وعند مسائه، تجمع عشرات السجناء في مهجع فارغ لتوزيعهم على بقية المهاجع، كان مكتظا، يفتقر إلى تهوية مناسبة، وأرضيته قذرة يخالطها ماء آسن . هناك تعرفت على إبراهيم، ثلاثيني، شكا من شعوره بالجوع وأنه لم يأكل منذ الصباح، لم يكن باليد حيلة ونقدته دراهم معدودة .

جاء توزيعي على مهجع ب 12، لحظة دخولي حدق بي عشرات السجناء، مختلف الأعمار، والبيئات الاجتماعية، والقضايا، سألني الشايش، وهو سبعيني، نجدي الأنف، واسع الجبهة عن جذوري العشائرية، والسبب الذي اتى بي، . ثمة حلقة واسعة من السجناء تجمعت حولنا، الجميع في حالة إصغاء، وتناوب معه بالسؤال فوزان العدوان . على عجل تم تحضير البلاك كوفي، ومنحي سريرا علويا .

كنت مرهقا، التصقت عيناي بسقف الغرفة، وتناهبتني أفكار كثيرة، السجن ذل، وفقدان الحرية قتل، والسجناء لا يملكون من امرهم أمرا. . استعرضت محطات حياتي، ما كان وما يجب، إلى أن غرقت في نوم عميق .

في الصباح، ولا قيمة للزمن هناك، ولا فرق بين ليل او نهار، وجدت شحدة يتسلق السرير  بخفة، خمسيني قصير البنية، رياضي القوام، منصور، استمعت أمس إلي كل حرف، ظللت صامتا طول حديثك، منذ الآن أنت عضو في مجموعتنا، مطرحك معنا ولا خيار . شحدة هذا سريع الانفعال، حاد الطباع، بعد ايام تشاجر مع أحدهم في غيبة المجموعة، وقررت إدارة السجن وضعه بالانفرادي . خلا مركز الزعامة في المجموعة، ولا بد من كبير، ووقع الاختيار علي، في الحقيقة فرض الأمر ، ولا بد من رأس !!

في المهجع المكتظ _حيث ينام كثيرون على الأرضية_ قصص كثيرة، تحتاج من يشذبها ويعيد تسطيرها لعل فيها بعض الفائدة والعبرة .

واحدة منها قصة الشاب … حل على مجموعتنا بالخطأ، وبالمناسبة المجموعات هناك ذات صبغة عشائرية بحتة . يبدو ان الشاب فسر دماثتي، وحسن منطقي بطريقة خاطئة .كان موقوفا إداريا، ومدمنا . وذنبه يستدعي التوقيف . والدته مديرة مكتب وزير ال….، ووالده موظف كبير في إحدى كبريات الشركات . ذهب تقديري أنه لن يطول به المكوث، مضى نهار اليوم التالي، ووهمت أن خانني العقل، قبيل العشاء كانت السماعة الداخلية ترطن باسمه : إفراج . دهش الجميع، وغصت حلوقهم بالمرارة والشكوى، والشعور العميق بالظلم . حتى الوساطة والمحسوبية تهزأ بالمساجين الفقراء، غير المتعلمين، الأغرار، من وراء الجدران السميكة المعتمة

 

 منصور ضيف الله

 

في نصوص اليوم