نصوص أدبية

قادمة من الضجيج

dikra laybieقبل أن يغلق والدي عينيه إلى الأبد، أشار محذراً..

ذلك العصر، كان الغبار يملأ السماء.. وبدت البيوت ككهوف الشياطين، لا أسمع في الشوارع سوى صدى المارة، طوال آونة العزاء وأنا أقلّب الأمور في ذهني، ربما كان يقصد الرجل " الرويتر".

كما كان يطلق عليه أبناء المحلة – فهو ثرثار وناقل أخبار، يتلصص على البيوت ليعرف أسرارها!

كل يوم يُبكّر بكنس فسحة بيته، يرشّها بالماء، ويضع كرسيه ليتصيد الأخبار بمتابعة  لجوج لخطى من يدخل هذا البيت أو ذاك ويخرج منه، إنها عادته اليومية، خبزه وماء حياته!

تجرأتُ يوماً وسألته عن بيتٍ شاغرٍ للإيجار، ليس بعيداً عن جلسته العسسية، فنظر بعين حمراء، وصرخ بوجهي بزئير مبحوح:

-من تظنيني؟! سمسار أبيك؟!

خجلتُ كثيراً وكرهته أكثر!

نعم، يلقبونه " الرويتر" انزلقتُ بتفكيري أكثر حين ألتقيت أمرأتهُ، فعرفتُ أنه عانى من عثرة في لسانه، لم تُحل إلا قبل سنوات بتداخل جراحي.

إذاً لم يكن هو،، شطبتُ اسمه من قائمتي ( الأبوية) المفترضة!

ربما تكون ( إقبال)...

-أعرفها.. إن عائلتي لا تحبها، كانت تجبرني نهاية كل شهر على إصطحابي إلى ( أم غائب) ، وكنا نتندر في الطريق على ( الغيب) وقراءة المستور بشيء من الخوف، مع قلقنا من عقوبة محتملة لهذه الشيطنة!

نعرج على سوق العطارين أولاً لتشتري البخور، وحمامتين من سوق الطيور.

في إيوان " أم غائب" كنا نرى إلى النسوة المجتمعات من كل صنف ولون، لتقرأ لهن بخوتهن، وتكشف عن طالعهن الغامض!

همّت إحداهن بالخروج، وهي تتمتم:

-أستغفر الله، إنها تتكلم كالجن الذي في رأسها! خيراً لي أن أشتري بالمال الذي أدفعه لها حلوى وخبزاً لأطفالي!

كانت إقبال تستمتع بما تقوله أم غائب لها، بخاصة عن الشباب المعجبين وحبيبها الذي هجرها ليعشق امرأة أخرى! .. وكيف ستقوده لها خانعاً بإرادة الجان الذين تغريهم بالبخور والإكراميات، كحمامتي إقبال و ( صرر) السيدات الأخريات!

مرةً إلتفتت ( أم غائب) إليّ، وهمست: طالع شؤم!

فابتعدتُ عن ( إيوانها) وحكايات جانها، ونبوءاتها المخيفة، لم آبه بدموع ( إقبال).. حتى اُكتشِفَتْ ذات نهار جثتها أمام الدار!

لحظتها أدركتُ مقدارَ سوء تقديري لأهمية تلك الزيارات لدى صديقتي المنتحرة الراحلة.

وعلى مضض، شطبتُ اسمها من قائمة شكوك أبي! لم تكن هي، ربما كان " ستار" ابن المختار.

نعم، أبي كان يمقته، لأنه عنيف وشرس وهوايته قطف الزهور من الحدائق العامة والخاصة!

يؤمن بمقولة (خالف تُعرف) كأنها مبدأ حياة ومنهج درب، زوجته "جميلة" كانت تحبه كثيراً، لكنه كان يضربها حد الإعياء، وحين تذهب إلى بيت أهلها لتحتمي بهم، يلوذ بالبكاء والندم!

ذات يوم وبينما هي غائبة، اقسم ستار أن يتزوج بأخرى ليعاقب ذاته وذاتها في آن!

فجمع بعضاً من رجال عشيرته ليخطب، وقبل أن تعلن عائلة الفتاة موافقتها، تصدى رفيق من زمرته ليسأله أمام الجمع عن السبب الذي جعله بدون خِلفة؟!

إذاً.. لم يكن أبي يقصده.

ونقصت القائمة اسماً آخر، فبدأ الأمر يقلقُني ، كلما حاولت تجاهلها، يتلبسني ضجر وضيق ودوخة!

وحينما ثقل علي الهمُ، أبحتُ لأختي الكبرى بالسر، رمقتني بنظرةٍ لن أنساها أبداً، وقالت:

-لا تقلقي.. والدنا كان يحبكِ كثيراً، ويخاف عليكِ لأنكِ حنوناً وعطوفاً أكثر من المعتاد.

حاولتُ أن أقنعُ بكلامها، لكن مخاوفي تغلبت وبتُ أتساءل:

(تُرى، هل كان أبي يعرف بعلاقتي ومن أحب!؟)

-هل عرف حين أتى واستصرخ الألم من أعماقه، لعله يستمطر مني التأجيل؟

لأني لا أستطيع أن أنفي ذاكرتي أو أطرد الخوف والشك، بعد أن زرعهما في الزوايا البائسة من قلبي، وقتها أرغمتُ نفسي أن أودّع زمنه المتآكل..

ولما عدتُ ثانية لأختي، وقد علا الشحوب وجهي وغمر النحول جسدي، همستُ:

-كان يستعمر كياني وروحي!

وضعتْ يدها على جبيني، ثم أرغمتني على الذهاب إلى السرير، ولا أغادره حتى زوال الحمى.. وراحت تكمدني بالشاش والماء البارد.

تخيلتُ بأن الذين (ظننتهم) المقصودين بحسب وصية أبي زاروني جميعاً، وراحوا يتهمونني بأني ظلمتهم، ويهددون بنيلهم مني، الواحد تلو الآخر، ادهشتُ لأن أبي معهم!

كلما اقترب مني تضخمّتْ ملامحه، حتى أحسست بأني سأسقط في جب عينيه، فصرختُ فزعةً:

-لا..لا.. لا أريد أن أموت الآن

وبدأ العرق يتصبب من جسدي، فتبرد أطرافي، سمعتُ أختي تبسمل وهي تضع رأسي في حجرها مرددة :

-راح الشر، اشربي.. اشربي هذا العصير ستنامين، لقد (قرأت) عليه!

نظرتُ في المرآة الملتثصقة بخزانة الملابس، المواجهة لسريري، فبدأ وجهي حزيناً، عيناي منتفختين، وشفتاي مطبقتين بالكاد، ورأسي يكبر ويكبر مثل "بالونة"، كاد أن ينفصل عن جسدي.

تخيلتُ أني أنظر إلى القائمة.. وجدتُ اسمي مضافاً عليها!

 

من مجموعة/ ثامن بنات نعش

 

 

في نصوص اليوم