نصوص أدبية

الرسالة

hamed fadilأنت تدرين أني إذا ظعنتْ الشمس في هودج المَشْرِقْ.. انتبذتُ لخيمتي مكاناً بظل الفيضة، أفرشها بفرو الذئاب، أعطرها بالمسك والهيل والزعفران. وأنا بانتظارك أهيئ جراب الحكايات، فتعالي.. تعالي يا سيدة حكايات الليالي. هلمي إلى سيد حكايات الإصباح.. تعالي ولا تبطئي، فقد نضجت حكاية هذا الصباح المزين بكوفية طرزها الربيع، بالطل، والضوء، والنسيم، والعطر، والعشب، والزهر، والندى.. أرجوك لا تتأخري ولو لردة طرف، أقر أَنَكِ متعبة من مسامرة ملك مثلما يدلق دلو ناعوره في حدائق المحظيات، يطفئ غضبه ويقتل أرقه بسماع الحكايات،.. أعرف أنك هاربة من ليل الملك إلى صبح المرواتي.. أنت قادمةٌ إليَّ يا سيدتي.. قادمةٌ إليَّ، ونور الصباح يسير بين يديك، وعن يمينك، وعن شمالك. أراك نعم أراك.. صدقيني إذا قلتُ أني أراك مسرعة كأن قدميك لا تلمسان الرمال. أهي اللهفة في اقتناء جديد الحكايات تقودك إلى خيمتي؟ أصدقيني القول ألا تَرَيْنَّ أني أملك خزائن حكايات البادية.. الصحراء مملكتي، الخيمة قلعتي، الرمال أرضي، السماء سقفي، الصباح تاجي، الآفاق ثغوري، وجنودي الرواة.. فدونك ذاك البساط المغطى بفرو الذئاب، الذي فرشْتهُ من أجلك، فاجلسي، واستريحي، وأميطي اللثام، لا تحجبي جمال الخالق في وجه المخلوق.. هاك أحتسي أول فنجان قهوة أعددتها منذ حلتْ الشمس في واحة هذا الصباح.. خُذي فليس أطيب من قهوة تفوح بعطر الصباح، ولا أجمل من رقصة فنجانها بين أناملك الفاتنة. ليته يكون مكاني وأكون مكانه، كي تُقَبِلُني شفتاك عندما تحتسيه. أشربي رشفة وأتبعيها بأخرى.. وأخرى، فأنت أقرب للنعاس منك إلى الصحو، ومعذورة أنت فليل الملوك طويل .. طويل، وشهريارك ذاك الذي لم ينجه السيف من خيول الأرق التي تخب بين أجفانه كل ليل، فيظل يسنه بمِسَن الحكايات إلى مطلع الفجر، حيث ينهزم جند الأرق قدام أنصال ضوء الصباح، فينكفئ صاحب التاج والصولجان على فراش الحرير، تاركاً جذوة نار ليلتك الفائتة تتلظى خلل رماد  ثيابك، فقومي لنطفئها معاً بماء الحياة، وتلك كما تعلمين واحدة من أهم طقوس الحكايات.. أظنك الآن بعد إخماد ناري ونارك جاهزة لسماع الحكاية، أليس كذلك؟ حسناً: بلغني أيتها الراوية السعيدة، أن امرأة من بنات عشائر   السماوة العتيدة، أفرغ الخالق عليها صبراً، وصورها فأحسن صورتها، وأراد لها أن تكون مثلاً لذكاء نساء الصحراء.. اصطحبها زوجها هي واولادها الثلاثة إلى احدى مناطق البادية بحكم عمله مُشَغِّل مضخة بئر ارتوازي، يرد حياضها الأعراب عند تواجدهم للرعي في تلك المنطقة، والرجل يا سيدتي كثير الأسفار لإنسانيته التي عُرفتْ في المجتمع الصحراوي، وشجاعته التي ثبتت أوتاد خيمة رجولته في آفاق الصحراء، وقدرته على نول الصيد على بعد رصاصة، وشهرته في تصليح أعطال مضخات الآبار.. غالباً ما يعتلي ظهر حصانه الأدهم ويتركه يخب في رمال بادية السماوة متنقلاً بين النجوع والفيضات لأداء الواجبات الاجتماعية من أعراس وفواتح، أو للزيارة والتسوق. أو ضارباً بين الآبار، تاركاً موئل عياله في عهدة تلك اللبوة، التي تركت أهلها وعشيرتها ورافقته لتبث الدفء في الفراش، وتغمر بالسعادة حُجْرة الطين الملحقة بسقيفة المضخة، وما هي إلا أياماً معدودات حتى صُبغت بصبغة البادية، وعُرفت بالمرأة  التي  تعادل مائة رجل.. كانت تلك المرأة في غياب زوجها تستيقظ كدأبها كل يوم عند بزوغ نجمة الصباح. تحلب العنزة، تنفخ نار الموقد، تُدْني ابريق الشاي من الجمر، تخرج الخبز والتمر، تُنقع نصف رغيف في الحليب، تطعم كلبتها، ثم تنادي أولادها بأسمائهم.. حين يطل من خباء المشرق وجه شقراء البادية، يكون الأولاد قد أنهوا فطورهم، تُخرج المرأة العنزة وصغيرتيها، وتمضي الى حضن ربيع البادية بموكبها الذي تسبقه العنزتان الصغيرتان وهما تتقافزان حول أمهما، وتتبعه الكلبة وهي تشم كل أثر على الأرض.. تترك المرأة البَهْمَتان لترعيا مع أُمهما في فيضة العشب تحت أنظار أولادها، وتذهب غير بعيد لجمع الحطب، بينما تكمن الكلبة في الجوار بانتظار أن يسوق الأجل أرنباً صغيراً الى مكمنها.. ظهراً يلوذ الأولاد  بظل شجيرة سدر، يجهزون على ما تبقى من التمر في الخرج، وقريباً منهم تستريح العنزة الأم تجتر ما التهمته في الصباح، بينما تنشغل البَهْمَتان باللعب مع الكلبة.. عندما توظّب شقراء البادية مطرح نومها  وتحمرُ وجنة المغرب. تضع المرأة حزمة الحطب على رأسها، تسوق عنزتها وتعود بأولادها قبل أن يغرس المساء أوتاد خيمته بالبادية. تقوم بتشغيل المضخة لتملأ الأحواض، حيث يعود الرعاة بقطعانهم لترد الماء.. الربيع كما تعرفين يا سيدتي هو أمير الفصول الذي يغدق العطايا على رعاياه في البادية. حين يأتي تدب الحياة بكل عرق يابس وتلد كل حبة جنينها، فتخرج الأرض لاستقباله بثيابٍ خضرٍ مطرزةٍ بالأزاهير، وتسدل أشجار السدر جدائلها، وحين يخطو الربيع، نور الشمس يسبقه والدفء يطرق أبواب الجحور ليوقظ الزواحف من سبات الشتاء.. عندها تنهض الجنان من الرمال ويطفح وجه الأرض بالنور والعافية، فيؤذن مؤذن أيتها العشائر هلمي الى ربيع بادية السماوة حيث الماء والكلأ، فتأتي قوافل الغنامة من كل مكان قريب أو قصي، تسري  بالليل أو تسرب بالنهار، فتغص بالقطعان على سعتها البادية، فلا تبصر العين أنى نظرت الا نَعَمَ الخالق على المخلوق، وحتى الذئاب تُطعم من موائد خير الربيع، وحين تشبع فإنها لا تهاجم أهل القرى والنجوع وبيوت الشعر المنتشرة كالشامات على صفحات خد البادية، والذئب إذا كنت لا تعرفين ينفرد ويصيد لوحده في وقت الربيع لوفرة الصيد والطرائد ، وقد يطلب المعونة من الذئاب الأخرى بالعواء، لكنه إذا جاع في زمن القحط تآخى مع بقية الذئاب التي إذا جاعت اجتمعت، وراحت تقطع البراري بحثاً عن غذائها، وربما تتقوت بمن يسقط منها ولا تتردد بمهاجمة القرى واقتحام الحظائر داخل البيوت.. وأنت تدرين أن حياة الصحارى لا تقارن بحياة المدن، فالحياة تصعب في خريف البادية، وتكون أصعب عند ارتحال الأعراب، ولكن امرأة حكايتنا تكيفت مع العيش في المنطقة. تقبلت غياب زوجها، أمسكت بزمام العائلة، وتعودت التكرار. تسوق عنزاتها، تجمع الحطب، وتقوم بتشغيل المضخة.. في الليل الخريفي الموحش حين تسمع عواء الذئاب الجائعة، توصد باب حجرتها، تحضن أولادها وتنام.. الزمن يحدو قافلة الأيام، يحل ويرحل بين السعادة وبين الشقاء. وحدث الذي أحكيه لك الآن في ذلك اليوم النحس الذي اصطحبت فيه المرأة أولادها على مسافة من المضخة كعادتها للرعي وجمع الحطب، وعند عودتها في المساء.. فوجئت بذئب يقطع عليها طريق العودة نحو مسكنها. لاذ الأولاد بأمهم التي وقفت منتصبة قدام الذئب، ألقت حزمة الحطب عن رأسها، ثم زعقت بوجه الذئب. تراجع الذئب الجائع قليلاً وعيناه لا تفارقان العنزات الثلاثة.. وبين بكاء الأولاد، وثغاء العنزات، ونباح الكلبة. تناست المرأة الخوف والهلع الذي سرى في أوصالها، تحسست بندقية الصيد التي اصطحبتها ولم يسبق لها أن استخدمتها ولا لمرة واحدة، ساعدها أكبر أولادها بوضع الخرطوشة في حُجرة البندقية. تقدمت المرأة قليلا وبأصبعٍ مرتجفٍ ضغطت على الزناد، ولكنها نسيت  عتلة الأمان.. ازداد الذئب الجائع شراسة، عوى وتهيأ للانقضاض. أطمعته الرمية الكاذبة وكأنه شك بمقدرة المرأة، وما كاد يخطو بتُؤَدَة باتجاهها حتى انطلقت الرمية وجندلت الذئب، الذي نكث نفسه مرارا قبل ان تبرد حركته.. قادت المرأة اولادها مسرعة الى المسكن دون أن تنتبه الى الذئاب التي أغارت تلبية لنداء الذئب وساقت عنزاتها. لا تدري المرأة أين كنَّ ومن أين أتينَّ وكيف خطفن العنزات.. في صباح اليوم التالي حين استعادت تلك المرأة ما وصفت به ، تحاملت على ألم فقدها لعنزاتها، أحضرت ورقة بيضاء، صبغتها بسخام الموقد، طوتها وربطتها بخيط من الصوف، ثم بعثتها مع أول طارش الى أبي عيالها.. ما أن وقعت عين الزوج على الورقة السوداء، حتى قفل راجعاً، اعتلى ظهر حصانه، أرخى زمامه، لكده وزعق بين أُذنيه.. فهم الأدهم غضب صاحبه عض لجامه وأغار على أفق الصحراء فراح يطوي سجاجيد الرمال طياً كأنه لفرط سرعة ركضه يرتفع من الأرض ليطير.. ليلة ونصف ليلة ولاحت سقيفة المضخة لعين الأدهم السابح في عرقه فخفف خطوه ثم توقف محمحماَ لاهثاً، تركه الزوج غير بعيد وتسلل الى السقيفة بخطوات لص، شمت الكلبة رائحته فهرعت اليه تتمسح بثوبه وتهز ذيلها.. تأكد من نوم زوجته وأولاده، نظر مرة أخرى الى المكان الخالي من  العنزات. ثم خرج من السقيفة قبل أن تفضحه نجمة الصباح.. عاود الأدهم ضرب الأرض تاركا وشم حوافره على سجادة الخريف.. عندما تنفس الصباح، تنفس الأدهم وهو ينهي رحلته المتعبة قدام بيت شَعْرٍ متطرف في البادية. خلع الزوج سرج حصانه وأفلت لجامه وتركه ليرعى ويرتوي، ثم عانق مضيفه وهو صديق قديم ودش الى بيت الشعر. تساءل بعد الفنجان الثالث فيما إذا كانت هناك ذئاب قد حلت في المنطقة؟ فرد صديقه: إنَّ الناس يتكلمون عن مجموعة ذئاب، يقولون أنها تقطن الكهوف، استفسر عن عددها، فأجاب الصديق: قيل أنها ثلاثة ذئاب، وقيل أنها أربعة، ثم قيل أنها خمسة ذئاب، وأضاف متسائلاً عن سبب اهتمامه بها؟ أخرج الرجل رسالة زوجته وفتحها قدام عيني صديقه، فهم الصديق معنى الرسالة، وأبدى استعداده للمساعدة في قتل الذئاب، قال: أترك حصانك هنا ليرتاح سآخذك بسيارتي الى الكهوف.. عند وصولهما الى المنطقة أعدا سلاحاهما وتقدما باتجاه الكهوف، كمنا في منطقة مشرفة قريبة وانتظرا خروج الذئاب.. حين مالت الشمس بتجاه أفق المغرب، ابصرت أعين الرجلين ذئباً، خرج من أحد الكهوف، حبس الرجلان أنفاسهما.. تمطى الذئب ونظر في كل الاتجاهات، ثم عاد الى الكهف، استغرق ذئب آخر فترة وجيزة مرت كأنها دهرٌ على الرجلين ليخرج من الكهف ويكرر ما قام به الذئب الأول من النظر وتفقد المنطقة قبل التراجع والدخول الى الكهف. ويبدو أنه نقل رسالة مطمئنة الى من في الكهف. فخرجت ثلاثة ذئاب مرة واحدة وتقدمت الى مسافة باتجاه مكمن الرجلين لتكون في منطقة قتل جيدة.. أطلق زوج المرأة رصاصته الأولى فقتل واحداً من الذئاب وأطلق الثانية فجرح آخر.. صدم صوت الاطلاقات الذئب الثالث فاتجه يميناً ثم يساراً ثم انطلق كالسهم باتجاه الرجلين فلم يطلق الصديق ولا اطلاقة واحدة تصرف زوج المرأة بسرعة واستطاع ان يميل عن اتجاه الذئب ويرميه رمية قاتلة ثم اتبعها اخرى اجهز فيها على الذئب الجريح  وعندما تفقد  صديقه وجده قد فقد الوعي رش على وجهه قليلا من الماء وحمله الى سيارته حين استعاد وعيه قال معتذراً هالني منظر الذئب المهاجم وخشيت ان تخطئه فادركني رعب شديد وكاد قلبي أن يتوقف من الفزع انا أصلح لقيادة السيارة لا لقتل الذئاب ثم أنطلق بسيارته في طريق العودة.. حين استيقظت المرأة  كعدتها مع نجمة الصباح فوجأت بزوجها يقف في السقيفة وقبل أن تلقي براسها على كتفه وتبكي، اخرج زوجها ورقة مطوية ومربوطة بخيط من الصوف، حين فتحت المرأة الورقة وجدتها بيضاء ناصعة البياض              

 

في نصوص اليوم