نصوص أدبية

درس في الحرية

mohamadtaqi jonحين أعددتُ المصيدة كنت في أقسى درجات الحنق عليه (انه الجرذ..أقذر المخلوقات.. عنوان الخسة ورمز السرقة). كنت أود لو قضيت على كل جرذ في الدنيا، لو أني أفرغتُ الأرض منها. نعم إنها تزاحمني على كل شيء؛ أكلي وراحتي..اني اشعر أن قذارة تلاحقني به عنوة وتريد أن تضمني إلى نادي القذارة!!.

لقد وضعت جبنة ممتازة لأجلبه إليها وجعلتها متدلية وسط المصيدة، وجعلت الباب مشرعة إليها..ووقفت بعيداً أتربص بالضحية..كانت عيناي الحمراوان تتمزقان من الانتظار وهما مفتوحتان بشدة!. واطبقت المصيدة!!..سمعت صوت بابها يطبق بعنف كما يسحب كرسي المشنقة بلا تردد.. غير اني بقيت اسمع خشخشة أرجل لا تنقطع وما فتئت لحظة كأنها صوت ثائر!.

حين وصلت إلى المصيدة وجدته (.. انه الجرذ أقذر المخلوقات، عنوان الخسة ورمز السرقة) آه ليشفَ قلبي..سأقتله..سأمزقه..بل سأحرقه..لا لا سأسكب عليه الماء الساخن كما يفعلون.. انه لا يفتر جيئة وذهاباً، ولا يمل بحثاً عن مخرج..حينما نظرت إليه وجدت في عينيه جبلا من الوعي والهيجان لقد هالني انه كان اكبر من جرذ، لقد ترك الأكل ولم يفكر به بتاتاً..أدركتُ بثقة إحساسه بفقد عظيم، انه لم يصدق ولا يريد أن يصدق بأنه فقد حريته التي كانت ملكه بالكامل قبل دقائق، بل انه آمنَ بأنه من الممكن استرجاعها..

ونظرت إلى قطعة الجبن فوجدتها (لم تمس)، بل هو لم يتوقف عندها البتة..كان جسمه وهو يجيء ويذهب داخل المصيدة ،في هيجانه الجنوني، يدفع بقطعة الجبن إلى أمامه بعنف..وبعد نصف ساعة وقفتها عنده كانت هستيريا الجرذ تزداد عنفا في تصاعد مستمر كمن يتدرج إلى الجنون المطلق.

قررت تركه إلى العصر ..وفي العصر جئت إلى المصيدة فوجدت الحال لم تتغير؛ قطعة الجبن مدلاة والجرذ يعدو بعنف داخل المصيدة جيئة وذهاباً.. لم يكل ولم يتعب!!.. فعجبت كيف لم ييأس أو يسترح في ظل استسلامة قصيرة يأكل فيها من الجبنة الممتازة اللذيذة وهو الجائع الخائر القوى..ولكني راهنت على استسلامه وقلت لابد انه سيأكل الجبنة ويتوقف يأساً أو تعباً ..سيدرك لا جدوى المحاولة ويسلم أمره إلى القدر الذي لا يغالب.. أليس القدر يجبر كل الخلائق على تقبله مذعنين؟!.. ثم إن ساعات الليل أطول من أمله المتضائل وعزمه المتلاشي ولكنني..وضعت الجرذ أمام رهان فرفعته عن مستوى جرذ قذر لا قيمة له ولا رأي.

حين بزغ الفجر نهضت من فراشي وقبل مباشرة أي شيء ذهبت إلى المصيدة فراعني وأدهشني أن الجرذ لا يزال ماضياً في البحث عن مخرج، ومراهناً على الخلاص ومستبسلاً في سبيل الحرية التي تغلو على المأكل والمشرب، لأنها هي السعادة الحقيقية حيث يتضاءل قربها كل شيء حتى الحياة نفسها، ويصبح العدم أجدى من الوجود لان الذليل عبء على الحياة وعلى نفسه أيضاً.. لأول مرة أجد نفسي متعاطفاً مع هذا الجرذ ربما لأنه أعطاني درساً وعلمني شيئاً، فرجعت وأنا بين أن أطلقه أو اقتله..

كان أصدقائي مولعين بصيد الجرذان إذا صادوا واحدا منها يلوّحون به تشفياً واحتقاراً ..انه يعني بالنسبة لهم عدواً حقيقياً!!.. وعلت ضجة منهم وهم يلوّحون بجرذ مقتول..قالوا إنهم وجدوه في المصيدة.. حين نظرت إليه وإلى قطعة الجبن أدركتُ بأنه كان ازهد فيها حياً منه ميتاً.. كانت قطعة الجبن على حالها منذ أطبقتْ المصيدة فأعدتُ النظر إلى الجرذ ولكنها هذه المرة نظرة تخلو من الاحتقار والتشفي. وأحسستُ بأن الكون يضيق بي لأنني ضيقته على الآخرين وهو رحب يتسع للجميع، (يا لأنانيتي ما يضرني لو عاش فيه غيري؟!).

 

د. محمد تقي جون

 

 

في نصوص اليوم