نصوص أدبية

الذئبان

hamed fadilأتدرين يا سيدتي أن شاعراً عراقياً اسمه مظفر النواب، كان مسجوناً في سجن نقرة السلمان. قال في واحدة من قصائده (ما دام هنالك ليل ذئب فالخمرة مأواي) وكان ذلك المأوى نديم معظم ولاة أمرنا، الذين كانوا يعاقرون الخمرة في الليل، ويأمون الناس في صلاة الفجر.. أنتِ أدرى مني بهذا الأمر، فأنتِ التي سهرت لألف ليلة وليلة، تروين الحكايات لملك لا أظن أنه كان يستمع إليك وهو يشرب الماء.. أولو الأمر يا سيدتي ذئاب تسكرهم رائحة الدم مثلما تسكرهم كؤوس الصهباء.. يقول العرَّافُ البدوي (إنَّ تَمِيمَةَ عين الذئب تساعد حاملها على قتل الليل بالسهر)، فهل كنت تعلقينها في عنقك لتسايري معاقرة الملك للأرق.. بيني وبينك أقر أن الليل ذئب أمعط، وغرائزنا خراف ضعيفة، إذ غَطَا الليلُ دَاخَلَتْ بعضها بعضاً، ليستيقظ في دواخلنا ملمس المطارح، رائحة النساء، ودفء الأنفاس، ولهذا فأني أحمد الله لأنك لا تحلي بخيمتي إلا بعد أن تحلق حمامة الصباح، الذي إذا أدرك حكايتك قطعها بصياح ديك فأسكتك عن الكلام المباح.. وهذا الصباح الذي أنا بانتظارك فيه صباح غير عادي، ما أن فتحتُ عيني على أفقه، حتى دهمتني ذئاب رؤيا الليلة الفائتة، فقلت لنفسي إذا لم تكن قادراً على تفسير رؤياك يا رجل، استفت سيدة الحكايات لعلها تفتي بما قد رأيت.. اعلمي يا سيدتي أني رأيت الشمس خجلى تتعثر فوق الرمال كأنها طالعة لأول مرة في الصحراء، ورأيت الذئاب، نعم الذئاب، ما لك مستغربة، صديقني رأيت الذئاب تخالط كلاب المراعي، وجراءها تلعب مع جراء الكلاب، ثم رأيت ويا ليتني ما رأيت رغم أن الوقت في الحلم كان الربيع، ولا شك أن عينيك قد تكحلا مراراً بمرأى الربيع، ولعلك افترشت سجاجيد عشب ربيع البادية، وارتشفت من الفيضات ما جادت به السُحُبُ البيض، والذي أعرفه وتعرفينه أن الأكباش تسمن والنعاج تلد في الربيع، ولكني رأيت هزال الأكباش المرعوبة، وارتجاف النعاج الهزيلة التي كلما جاعت الذئاب، افترستها قدام أعين الرعاة المنشغلين بأكل الطعام، ولف اللفائف، واحتساء الفناجين، واستعادة أيامهم الخالية، ورأيت بعران الصحراء تركل الشمس بخِفافها، فاختلط الظل بالضوء، وضاعت عليَّ مواقيت صلاتي، ثم رأيت رجالاً طلعوا من بين ركام بقايا سجن النقرة. رجالُ شداد كانوا ينشدون نشيداً ما أن سمعته الذئاب حتى توارت بلمح البصر.. أفتني يا سيدتي في رؤياي ان كنتِ للرؤيا تعبرين. ماذا!؟ إذا لم تكن هذه رؤيا ولا هي أضغاث أحلام، فما هي يا سيدتي، صدقيني بدأت أسمع وقع حوافر خيل القلق، أرجوك استلي سهم رأيك من كنانته وأطلقيه نحو قلب الهدف.. ها ماذا تقولين؟ إنها ليست رؤيا تراءت لي في المنام، وانما هي واقع حال الناس الذين هم عليه هذه الأيام التي تناسلت فيها الثعالب وبنات آوى والذئاب.. ربما كان ما تقولينه حقيقة ماثلة أمام الأعين يرها الناس ويلمسونها كل يوم، ولكن دوام الحال يا سيدتي من المحال، فدعينا نعود الى طقس حكاية هذا الصباح التي افتتحها بالاستهلال الذي تعلمته منك فأقول: بلغني أيتها الراوية السعيدة أنَّ بدوياً عاش في بادية السماوة العتيدة.. رجل لا تطرف عينه، ولا يقشعر بدنه، ولا تصطك أسنانه، ولا ترتعش ركبه، ولا يرتجف قلبه.. فصَّل الجرأة ثوباً وارتداها، وحاك الشجاعة فروة وتلفع بها،. ولأنه كثير الترحال، خاط ليل الصحراء بنهارها، فهو لا يمكث في مكان إلا لينتقل إلى آخر، ولأنه يشترك والذئب بصفات عدة، خلعت عليه الصحراء لقب ذئب الشلو.. كان فارع القامة، عريض الصدر، واسع الجبين، مفتول الزند، ذو صوت أجش، يقال ان الخيل تئن من ثقله، إذا اعتلى صهوة جواده حرثت أصابع قدميه الأرض، يعتبره الرواة الثقاة ملح مجالس السُمّار على بسط الرمال النديانة صيفاً، وحديث كبار السن في بيوت الشَعْرِ الدافئة شتاء، فهو حاكٍ ساحر لا يجاريه الآخرون في سرد الأحداث التي عاشها، فإذا حكى حكاية عن رحلة من رحلاته الصحراوية العجيبة الغريبة، سرعان ما يطير بها الرواة الى جهات الصحراء الأربع.. ومما يتناقله الأحفاد عن الأجداد تلك الرحلة التي قام بها أسطورة البادية هذا من منطقة الدراجي قاصداً منطقة بصية، ليقترض من شقيقه خمسة دنانير، والتي كانت يا سيدتي تعتبر مبلغاً كبيراً في ثلاثينيات القرن العشرين.. لذا توجه ذئب الشلو نحو وادي بصية مشياً على الأقدام في يوم ما من ذلك العام الذي اتحدت به جيوش الجراد الزعيري والجراد المكن، وقررت الاغارة على بادية السماوة، لتجوس خلال حقول الآبار الارتوازية، وتجهز على كل عود أخضر.. عند عودة بطل حكايتنا من بصية، اختار أن يسلك طريق السلمان، كان الطريق في زمن حكايتنا هذه طويلاً موحشاً، لكن ذئب الشلو الذي ألِفَ الوحشة، وآخى الصحراء في السراء والضراء، قرر أن يطوي ذلك الطريق، ولم يكن معه من سلاح غير الخنجر وعصا غليظة، وما أن سحب الغبش أذيال ثوبه في مستهل مسير يومه الأول، حتى شم رائحته ذئب أطلس، فانحدر إليه من غار في (ظهرة1) قريبه محاولا افتراسه، حرن الذئب قدامه منتصب الأذنين، طويل الأنف، مفتوح الفم ولسانه المبتل يتدلى بين أنيابه الحادة، وهو يضرب الأرض بذيله الغزير الشعر متهيأً للانقضاض، فكان لصوت ذئب الشلو، وهمته، وعصاه، ورباطة جأشه، ما جعل الذئب يعيد النظر في الرجل السائر لوحده في البرية، وأنت تدرين يا سيدتي أن الذئب يروز الرجل ليعرف إنْ كان شجاعاً أم جباناً، ولما كان ذئب الشلو قد استمر في مشيه غير خائف ولا هياب وهو يتقدم باتجاه الذئب.. فكر الذئب بالتنحي عن طريقه ومهاجمته من الجانب، ليلف ذيله حول ساقه ويسقطه أرضاً كي يتمكن من غرز انيابه في عنقه، لكنه عدل عن محاولته وولى تاركاً مكانه حين لَوَّحَ ذئب الشلو بعصاه ونقب أذن الذئب بصرخته، فراح الذئب يركض جيئة وذهاباً في محاولة لتشتيت تركيز ذئب الشلو ومن ثم مهاجمته، إلا أن محاولته هذه سرعان ما لحقت بأختيها اللتين سبقتاها بالفشل.. عندها لجأ الذئب إلى مسايرته دون أن يرف لذئب الشلو جفن، أو يطرق قلبه الخوف، وكلما كرر الذئب محاولة الغدر ومباغتة ذئب الشلو، باءت محاولته كما في كل مرة بالفشل، عندها أدرك الذئب أنه وقع على رجل يضاهيه في الذكاء والدهاء، واقتنع بعجزه عن النيل منه، ويبدو انه فضل الاستئناس بالصحبة على تكرار الهجوم، فكان يسير بموازاة ذئب الشلو على مسافة ظله على الأرض، يقترب منه عندما يتقلس الظل ويبتعد عنه عندما يتمدد، يتقدمه حيناً ويتأخر حيناً آخر، يقصد رؤوس التلال والآكام كأنه يستطلع الطريق، ثم ينزل ليواصل المسير، ويبدو أن هذه اللعبة قد أعجبت الذئب كثيرا، فاستمر بلعبها حتى ألقى الليل عباءته على كتفي الطريق، فأجبرته النار التي أضرمها صاحبه في كومة من الأغصان والأعشاب اليابسة على التوقف ومراقبة ذئب الشلو الذي جلس قرب النار يأكل حبات تمر جاف وكسرات خبز.. أومض الذئب بعينيه وأقعى على مسافة من صاحبه، فخاطبه ذئب الشلو قائلا: انت جائع مثلي أيها الذئب، وليس عندي سوى التمر والخبز، فهاك منه نصيبا، ثم راح ينشد:

(يا ذيب انا بوصـيك لا تاكل الذيب

كم ليلة عشاك عكــــب المجاعه

كم ليـــلة عشــاك حرش العراقيب

وكم شيــخ قوم كزته لك ذراعـه

كـفه بعدوانه شـنيع المضـاريب

ويسقي عدوه بالوغى سم ساعه

ويضحك ليا صكت عليه المغاليب(2)

ويبدو أن الذئب قد طرب للصوت الأجش، فبسط ذراعيه بالوصيد قدام صاحبنا الذي بات ليلته قرب النار، ولم يحاول الذئب مهاجمته تلك الليلة.. كان ذئب الشلو يحدث الناس بانه نام دون قلق أو خوف من الذئب، وعندما يرى العجب في اعين السائلين يجيبهم: كنا ذئبين كلانا ينام بعين واحدة.. في الصباح الباكر عوى الذئب كأنه يريد ايقاظ صاحبه، واستمرا في سيرهما، وبعد أن تقاسما آخر رغيف خبز، تكرر المبيت في الليلة الثانية مع احتفاظهما بمسافة البعد التي كانت بينهما في الليلة الأولى.. في اليوم الثالث كان الماء والزاد قد نضب الا من بقايا تمرات جافة، وقبيل الظهيرة انتبه ذئب الشلو الى الذئب الذي اخذ يصدر همهمة واصواتاً غريبة، ثم اتجه مسرعاً إلى جهة متعامدة مع خط سيرهما، وهو ينظر الى ذئب الشلو ويهمهم كأنه يدعوه الى أن يسرع خلفه.. غَيَّرَ ذئب الشلو اتجاهه وصعد تلة قريبة، فرأى الذئب يسرع نحو سدرات متفرقة في وادٍ، فاتجه نحوه ليتسربل بالدهشة وهو يرى الذئب يقف عند غدير ماء، فخاطبه قائلاً:

(يا ذيب مَنْ خاواك ما هاب الأخطار

دامـــك يمينــه ما يعـــرف المـذلة)

وبدا كأن لغة التفاهم قد تطورت بينهما رغم التوجس، والريبة، والحذر... بعدما أطفآ نار كبديها بالماء، التفت ذئب الشلو الى الذئب ووعده بانه سينال غداءه عندما يصبحان الى أي بيت عرب قريب.. في اليوم الرابع أعاد الذئب همهمته وحركته باتجاه تلة تقع على يسارهما، وعندما اعتلى ذئب الشلو التلة، لاح له بيتُ شَعْرٍ على بعد شمرة عصا، فاتجه نحوه والتفت الى الذئب قائلا: ابشر يا ابو سرحان بالشبع.. استقبله الأعراب وتعرفوا عليه وهو الرجل غير المجهول بين القبائل ورحبوا بوفادته وحين قدموا خروفا لذبحه، قال: أهذه الذبيحة لي؟، قالوا: وتستحق اكثر. فاتجه نحو الخروف، وأمام دهشة مضيفيه، حمله على كتفيه وسار به باتجاه الأكمة، وجد الذئب مقعياً هناك في انتظاره.. نظر أحدهما الى الآخر، نزل الذئب من الأكمة، تقدم ذئب الشلو نحوه، استل خنجره، ذبح الخروف وتركه يشخب في دمه.

 

قصة

حامد فاضل

.....................

هامش:

1 - الظهرة: مكان مرتفع

2 -الشعر للشيخ شالح بن هدلان

 

 

في نصوص اليوم