نصوص أدبية
نسيج
عندما تجلس هي إلى منسجها، أجلس أنا إلى أوراقي. لم يكن ذلك اتفاقا معلنا بيننا ولكنّ الظروف قضت بذلك، نجتهد أنا وهي في تأثيث الحياة من حولنا .تعدّهي الطعام وتنضج الخبز في الفرن الطيني وتنثر الحبّ للحمام والحجل، وأنا أرتّب الغرف وأسقي شجيرات الست مريم وشجرة الدرّاق الوحيدة النابتة في الفناء .ينتصف النهار ونكون رتّبنا كل شيء ونجتمع على الطعام، نأكل أغلب الوقت في صمت أو نتبادل كلاما عابرا عن الأسعار الملتهبة والألغام الأخيرة التي فجّرها الارهابيون في الجبل، واضطراب الحال في الحكومة الجديدة والمواسير المتفجّرة في كل مكان، والرّياح الرملية الحارّة التي سمّمت حياتنا، والشاحنة التي أوقفوها في الحدود مع الجزائر محمّلة بمادة قابلة للاشتعال.
نأكل وهي تدعو بالستر والهداية وصلاح الحال، وتحرص على أكل الزيتون الذي في الصحن الصغير، رغم تحذيري لها دائما بخطورة الضغط العالي.لكنّها لا تأبه وتقول :لكلّ أجل كتاب .
تلقي ما بقي من الطعام للطيور السّارحة في الفناء، وتجلس إلى نولها تنسج فرّاشيتها الجديدة،تجسّ الصوف بحنان وتتفقد خيوط السّدى وتتأكد أن خلالتها في أحسن حال وأنها إذا ضربت ترنّ.وتغرق في أبّهة الصوف وفتنة الألوان، تختار اللون تلو الاخر وفق ما يقتضيه بستانها الداخلي. الألوان التي استعملها على الأغلب هي الموروثة عن أمها عن جدّتها، عن إيقاع الحياة غير المعقّد: الأسود كالليل، الابيض كالنهار، الأحمر كالدم، الأخضر كالزرع، الأزرق كالسماء،الأصفر كحجر الوادي الغربي. تضيف إليها البني والرمادي وما التقطته العين من الطبيعة.أجلس أنا غير بعيد، أستأنس بحضورها وصمتها الجميل ووشمها الأخضر وأناملها الطويلة وأساورها الملوّنة وأتوقّف عن جرح غائر في معصمها تقول دائما إنه لغم من أيّام فرنسا انفجر عندما داس الراعي عليه فبترت ساقه وطارت الشظايا فأصابتها واحدة...
أحطّ أوراقي وقلمي الأسود وأحرص على أن يكون غطاء الطاولة أمامي نقيا غير مجعّد، أدلل نفسي بدورق ماء وأعواد من " الست مريم" قطفتها غضّة،ورائحتها التي تعود بي إليّ وقد كنت طفلة، حيث بيتنا الآخر ونحن نلعب في ظل شجيرات "الست مريم" بكل تلك الرائحة النفاذة العجيبة، ولم نكن ندري مطلقا كيف تسمّت هذه الشجرة في ربوعنا باسم مريم العذراء.قدّرت أن ذلك من قلوب أسلافنا الفسيحة وتسامحهم الأبيض وإعجابهم بقصة العذراء وهي تهز بجذع النخلة فيتساقط عليها الرّطب. ولمّا لم يكن في ربوعنا نخل، أطلقوا على هذه النبتة الوافدة " الست مريم".
هكذا توهّمنا ولا ندري إن كان تأويلنا صائبا .
للكتابة كما للنسيج أحوال وألوان وتفاصيل، وللقهوة سحرها، أجرع النغبة منها وأستمرئها بين شفتيّ حتى يتصاعد بخارها إلى رأسي فتتسارع إلي الكلمات والأسطر....
تعلّمنا
سوف لن نعيد أخطاء البدايه
ولن نبوح لمن سكنوا جوانحنا
بحفيفهم إذ يشتهينا الليل
سنجتنب البكاء
ولن نقول لحمامة عبرت
هل تشعرين بحالي
ولن تصفرّ أفكار لنا من الذكرى
سنكون مثل صنوبر الوادي
عتاة بوجه الريح
.......
تزهر الكلمات أمامي على الورق، فأراها طيورا زرقاء وفراشات بيضاء وحلازين فضيّة تمخر الورق، وشجيرات من "الست مريم" تحيط بالسور من الداخل .أمدّ يدي في شبه ذهول الى الفنجان أحسو ما بقي من القهوة كي تحطّ الخطاطيف بين يديّ محمّلة بالكلمات ولا أفيق إلاّ وهي تدقّ بالخلالة على الخيوط التي تتخلّل السّدى كي تتمتّن ولا تبقى بينها فلول أو ثقب وصوتها يعلو مع رنين الخلالة
يا عيني نوحي
يا خلالة رنّي يا
ما اكثرها جروحي
يا مولاي صبّرني يا
ألقي نظرة على فراشيتها فأراها قد ازدادت ذراعا،ولاءمت فيها بين الألوان،الأبيض يعانق الذهبي والأسود الأحمر،وأستغرب كيف وصلت إلى هذا المدى في وقت قصير هكذا . تجسّ الصوف بحنوّ بالغ كأنه وليدها وتثبّت قرن الفلفل الأحمر الجاف الذي شكّته بين الخيوط ليكون حارسا من الأعين الحاسدة، وتركض برطاّبها الذي يشبه في شكله القلم،على النسيج المعلق في السّداية
ممسكة إياه بيدها اليمنى مستعينة بسبّابتها اليسرى حتى تنزل الخيط.حتى إذا راكمت الخيوط دقتها بالخلالة دقّا منتظما حتى يكون النسيج قويا متماسكا متعة للناظرين .نتبادل النظرات والابتسام وتقرأ إعجابي بعملها في عينيّ وتعود إلى نسيجها وأعود إلى أوراقي :
للريح بوحها الأخضر
وللنسيم همس الهوى المسكر
لك الأماني وللأماني المدى
لك الأغاني وللأغاني الصدى
لك البوادي ولصوتك الشادي
يا حادي
للروح معبر
يظهر وجه عقيل عن بعد، حزينا كليل شتائي وبسمته تتراءى كقمر محتجب في غيمة، تعاتبني نظراته العميقة ويقف بيننا صفّ العوسج، أحاول في غمرة الظلام أن أمدّ يدي إليه لكنّ الشوك يصدّني فأستفيق، المشهد نفسه الذي يتعاود أمامي كلّما عنّ لي أن أكتب.
أغوص في أوراقي، وتغوص في صوفها أطير بين الحروف والكلمات تتسلّق هي الخيوط وتعرج في سماء ذكرياتها، تذكر أباها عائدا بالقطيع في أصيل كالذهب وأمها وهي تغسل الصوف على حافة الشلال الجبلي وليالي السّمر في الصيف البليل .تنسج وهي تفكّر في "المرقوم" القادم وعرس بيّة على الأبواب فتزداد يدها سرعة ورطّابها ركضا وخلالتها رنينا.
أطير بين حروفي تنثال علىّ صوري عناقيد من النجوم وندفا من ثلج أزرق وخطاطيف في لون القمح، تتتالى سطوري وتتتالى خيوطها تتضح ملامح فراشيتها المقصّبة وتبدأ قصيدتي في الاكتمال، تغرب الشمس والسكينة تلفّ الحوش ويضوع الحبق فتهبّ من وراء السداية قائلة إنها لم تعد تتميّز الخيط الأبيض من الخيط الأسود وأن الصباح رباح، أتمطّى أنا أشعر بالارتياح ... سنتعشى وأبحث عن نهاية للقصيدة على قدر الحبّ.
قصة
فوزية العلوي