نصوص أدبية

الزقورة

hamed fadilبعد تكرار حكايات الأصباح، أكاد أجزم يا سيدتي الخالدة انك مثلي أدمنت على النهوض المبكر، سأضيف الى اسمك الخالد اسماً آخراً فأسميك نجمة الحكايات، لتُصبحي النجمة الثالثة بعد نجمتي الصباح.. الأولى تلك الشجيرة الجميلة المكللة بتاج من الزهور القمعية الملونة بألوان الطيف الشمسي، والتي سرعان ما تنعس وتلم زهورها عندما يتقهقر النهار، والثانية تلك التي تحل في السماء في الهزيع الأخير من الليل لتشهده وهو يضب خيمته ويتهيَّأ للرحيل، ثم ما تلبث بعده إلا قليلا لتُهرع في أثَرَه مبشرة بحلول الصباح، الا أنت يا سيدة الحكايات كافة، فأنت  النجمة الدائمة البزوغ في سماء الليالي والدائمة الشروق في سماء الأصباح، كم أنا محظوظ يا سيدتي، بل أنا شيخ المحظوظين، وإلا مَنْ قاد خطاك الى دربي ودلك على خيمتي، فأنا لست أول حكائي البدو ولا أنا آخرهم، وحكاياتي ليست هي أولى ولا هي أُخَرٌّ الحكايات المتواترة في البادية، كأني أسمعك تقولي: صدفة كانت وقادتني خطاي دونما أدري فسرت على هواي، كنت كالسائرة في النوم ولا أدري لأين، ثم كانت خيمة منصوبة تقطع دربي، ونداء ساحر لا أدري من أين أتى يطرق سمعي، دشي يا حكاءة الليل الى خيمة حكاء الصباح، أتظلين طوال العمر تحكين الحكايات لتُرضي الآخرين، فمتى يحكي إليك الآخرون وأنت صاغية اليهم تسمعين، وأنا وقد كلَّ لساني من حكايات الليالي، قلت في نفسي يا امرأة ما الذي يمنعك من سماع حكايا الآخرين.. إذا كان هذا الذي تقولين هو ما أسمعه الآن عبر الخيال، فاني أرحب فيك يا سيدتي كل حين، أفرش القلب لا خيمتي وأدعوك كي تجلسين،  لأحكي، وأحكي، وأحكي، وتسمعين ما دام  يومك يستهل بصبح مبين فأقول: بلغني أيتها الراوية السعيدة أن زقورة كانت في بادية السماوة العتيدة تتلفع تراب تل محدودب مثل سنام بعير خرافي، قيل أن مصاطبها ما تزال الى اليوم تحضن آثار أقدام كهانها الحافية.. إذا ما أناخ المساء ناقته الدهماء وران الصمت على البادية،  تركت أرواح الأجداد آثاراً شفيفة وهي تطوف حول الزقورة للاطمئنان على التراث السومري الغافي على هدهدة الزمن المؤرجح لمهد الأرض.. الغريب الأبلق الذي راقبته أرواح الأجداد وهو يترجل من سيارة الجيب المكشوفة تحت سقف الليل، مدَّ يده الى سلك أسفل المقود، فختمت الجيب رغاءها بتجشوء بتور. ثم اغمضت عينيها واستغشت ثوباً أسود.. حاملاً  حقيبة حطت على ظهره مثل سنام بعير أدهم خطا الغريب باتجاه الزقورة فاقداً لونه الأبلق فباركته شياطين الظلام.. اسفل سلم الزقورة جثا الغريب الذي لم يعد واضحاً لعين الصحراء. خلفه فوق بشرة الرمال الناعمة، ترك حذاءه  الثقيل بصمات بدت غريبة لأرواح الأجداد، فانخرطت بصلاة للآلهة علها تطرد دنس المتطفل على حرمة الزقورة.. جاست أصابع الغريب في جوف حقيبته وأخرجت أحشاءها فانبعثت عين صفراء مشعة، أفزعت أرواح الأجداد فأكثروا من الدعاء والابتهال وهم يرون تلك العين لبازغة من كف الغريب وهي تمزق بنصال وميضها ثياب الزقورة.. لحظات ظل فيها الغريب يتملى الجزء المكشوف من جسد الزقورة قبل أن تنحدر العين المشعة نازلة إلى الأسفل لتكشف لعين الغريب رموزاً وخطوطاً وأشكالاً هندسية مختلفة اضطجعت على سطح ورقة بسطها الغريب أمامه.. الآن أصبح نفوذ الفضول اقوى من نفوذ الآلهة.. تركت أرواح الأجداد صلاتها وانسلت لتختلس النظر إلى ورقة  الغريب. لكنها سرعان ما عادت الى صلاة أكثر خشوعاً وابتهالاً بعد ما أبصرت الزقورة بكامل هيئتها عارية على الورقة وقد كشفت عن مفاتنها لعيني الغريب الذي ثبت مصباحه الكشاف حاصراً قبضته بين صخرتين بحيث يتسنى لضوئه كشف أكبر مساحة من المنطقة التي حددها على الخارطة ثم قرر العمل.. جس بأنامله الغضون التي خلفتها القرون على جبين الجدار. ثم أخرج مسطرة راح يقيس بها أبعاد المساحات المضاءة ويحددها بالطباشير ودوائر ورموزا وكتابات ظلت أرواح الأجداد تقرأها بحيادية. حتى إذا أمسك الغريب  معولاً صغيراً وراح يضرب به مركز الدوائر منصتاً الى الرنين الذي يطلقه الحجر ومعفراً بغبار الزمن المتساقط، قررت التدخل واخبار الملك عن تلكأ حراس الزقورة الذين ما يزالون يغطون في النوم العميق مفترشين الصلصال وملتحفين الرمال.. لكنها أصيبت بخيبة أمل كبيرة عندما وجدت ان الملك برغم كل هذه القرون لم يغير من طباعه في عدم الاستماع إلى رأي الرعية. فلم يتبق لها إلا خيار الاعتصام في المعبد وعدم الخروج منه إلا بعد أن تستجيب الآلهة وتُنزل عقابها الصارم بذلك الغريب الذي يدق اسفينه في جدار الزقورة مخترقاً عذريتها.. كان الغريب منشغلاً بعمله غير آبه بالآلهة وعبادها ولا بالملوك وعروشها ولا بالزقورة وحراسها، يحفر وينبش ويرفع ويدقق، يزيل التراب بفرشاة دقيقة الشعيرات عن وجه كل طوبة متسلحاً بخبرة سنوات في سرقة الآثار. كان محظوظاً منذ فتح عينيه على الدنيا والحظ قرينه. نال الشهادة العليا في هندسة النفط وتزوج بمن خفق لها قلبه واختير ليكون ضمن بعثة التنقيب عن النفط التي استقرت هنا على بعد كيلومترات من الزقورة.. ولكن يبدو يا سيدتي أن الآلهة استجابت أخيراً لمطاليب أرواح الأجداد المعتصمة في المعبد، فقد فزَّ الغريب على قشعريرة مفاجئة انتصب لها شعر يده، شىء ما كالشعر مس ظهره العاري بخفة وسرعة.. التفت الغريب مرعوباً. لا شىء غير أنفاس الصحراء وصمت الليل وهمس المخيلة وامتداد الظلال. اكتشف أن القمر قد حلق فوق الزقورة وهو يراقبه بعين غاضبة معرياً سيارة الجيب من وشاح الليل وكاشفاً موقع الغريب ومعداته.. لعن الغريب وسواس نفسه وعاد إلى عمله. وما هي إلا لمحة بصر حتى شعر بلفحة القشعريرة التي خلفتها اللمسة الخفيفة السريعة الثانية. هنا سقط قناع شجاعة الغريب كاشفاً عن وجه ينطق بالخوف وعينين جاحظتين تحدقان في اللاشىء ولم ينتبه لخلو يده التي افلتت المعول لحظة جس شعره المنفوش كشعر قط يتهيأ للعراك، همست نفسه الخائفة: أهي الأرواح التي تسكن الزقورة.. أم هم الجن الذين يعبثون معي.؟ جلس يتربص.. لا شىء.. لا أحد.. ليل صحراوي وقمر يفرش غلالته فوق الرمال، عاد يطمئن نفسه المرتعبة: ما هذا الهراء.. عالم مثلي يفكر بالجن والأرواح!؟ في ليل الصحراء، صدقيني يا سيدتي لا أحد غير البدوي يعرف التعامل مع ذئب ماكر.. فما أن  هدأ الغريب وعاد الى عمله، حتى استدار مرعوباً في اللحظة نفسها التي شعر بها بتلك اللمسة الخاطفة المرعبة، ليلمح شبحاً ما يمرق بسرعة فائقة الى الجهة الأخرى من مدرج الزقورة.. تخيلي حال الغريب في تلك اللحظة.. تخيلها معي، لنقل أنه سلط ضوء مصباحه رغم أنه لم يعد يحتاجه بعد هيمنة القمر على ليل الصحراء، ولنفترض أن عيناه جاستا في جهة المدرج الأخرى، سأترك لك تخمين ما الذي يمكن أن يراه في الجهة الأخرى. تقولين أنه من الممكن أن يرى خياله.. نعم أحسنت، وهذا هو ما حصل يا سيدتي. لقد جاست عيناه في الجهة الأخرى فأبصر على مرآة الرمل رجلاً مرعوباً يحمل مصباحاً.. ركض ليسبق ظل رجل المصباح، صعد إلى قمة الزقورة: ( لعله أراد استطلاع ما حول الزقورة) الله على فطنتك يا سيدتي، ذلك هو ما أراده بالضبط. لكن عيناه لم يبصرا غير الرمل المسفوح، ثم تطلع الى سقف الصحراء، ليس ثمة غير القمر يروي حكاية الضوء لثلة من النجوم.. أشرف من مكانه في القمة على اطار الزقورة المنقوش بالحصى والحجارة والطلح المحروق بشواظ ظهيرات الصيف.. ماذا تتوقعين؟ أتقولين: ( الاحباط والخوف والقلق)، نعم وهو ما حدث فقد عاد الغريب الذي استعاد لونه الأبلق، محبطاً منكسراً يهبط السلّم خلف ظله المتدحرج.. وفجأة انبثق من مكانه الذي كان يحفر فيه نور لمصباحين بزغا في النابت في بئر السلّم.. جمد الغريب في مكانه لحظة كتلك اللحظة التي يشق بها سيف البرق خباء ليلة غائمة. تقاطع الضوء الصاعد من أسفل السلّم مع الضوء النازل من أعلى السلّم قبل أن تلف الحلكة لثامها في بئر السلّم.. مقشعر الجلد مرتجفاً كمقرور تحرك الغريب نحو متاعه، تناول مسدسه من الحقيبة وسلط من يده المرتعشة ضوءاً  مترجرجاً نحو الأفواه الفاغرة في حيطان الزقورة والتي بدت حجارتها المسنونة مثل أنياب مستعدة لتمزيقه.. ربما تقولين لِمَ لا يلوذ بالفرار، فأقول: راودته فكرة الركض نحو سيارة الجيب والعودة الى المخيم، لكن ساقيه فقدتا القدرة على تنفيذ أفكاره. قرر الاستعانة بالشراب. أخرج زجاجة الويسكي وعب منها ما يكفي لتسخين الدم في شراينه ومنحه الشجاعة على مواصلة عمله.. وفي لحظة انتهائه من الشرب وتفكيره بغلق الزجاجة واعادتها إلى الحقيبة.. في تلك اللحظة يا سيدتي سمع اللهاث خلفه تماماً فاستدار بسرعة ورآه وجهاً لوجه.. عيناه نجمتان حطتا على الأرض، أذناه منتصبتان وذيله مرفوع ويداه ممدودتان برشاقة وقد برزت عضلات فخذيه لعين القمر الذي لون بلون سنابل القمح الناضجة. ظلا متقابلين. حافظا على المسافة التي تفصل بينهما.. واقفين الواحد قبالة الآخر، متأهبين متحفزين للانقضاض على بعضهما وحولهما ظل نهر الزمن مستمراً في جريانه.. راز كل منهما غريمه،  أربعة  أعين تتراشق بالنظرات.. عينا الذئب اللتان أنكرتا لون الغريب الذي لا يشبه لون البدو.. وعينا الغريب اللتان أنكرتا لون الذئب الذي لا يشبه ألوان الذئاب التي تعيش في غابات بلده، ولكي يخفي قشعريرة الفزع التي غزت أطرافه، كذب على نفسه: ( سأقتله حتماً وأحنطه وأحمله معي هدية من الصحراء الى زوجتي ) ضغطت سبابته على زناد المسدس فردت جدران الزقورة بصوت أقوى من صوت الاطلاقات مفزعة أرواح الأجداد التي أنهت اعتصامها وخرجت من المعبد لتشهد الصراع بين الغريب الأبلق الذي يمتلك السلاح وذئب الصحراء الذي لا يملك الا أنيابه.. عاد التوتر الى الغريب بعدما ضاعت اطلاقاته في جوف الصحراء.. ألقته الخيبة في بئر الشك، لا شىء أمامه غير ظل رجل يمسك بمسدس ويصوبه نحو  لا شىء.. همس الغريب لنفسه: ( ربما صنعه خيالي ) لكن ما إن ابتدأ لعنه للأهالي الذين غذوا مخيلته بحكايات خرافية عن  ذئاب الصحراء، حتى أبصره منتصباً في أعلى الزقورة وعيناه تومضان كمصباحي السيارة.. ومرة أخرى ضجت جدران الزقورة بأصوات الاطلاقات، وهللت أرواح الأجداد مرة أخرى وهي تبصر الذئب يقفز سليماً نحو منحدر الزقورة ويختفي هناك.. الآن يا سيدتي تأكد الغريب أنه وقع فريسة ذئب ذكي من تلك الذئاب التي سمع البدو يتحدثون عنها في قصائدهم المغناة بمصاحبة عزف الربابة. يومها أخبره المترجم ان ذئاب البادية لا تتراجع فهي أما أن تَقْتِلْ أو تُقْتَلْ.. سمع اللهاث يأتي من خلفه فاستدار وأطلق النار ثم سمعه يأتي من أمامه فاستدار وأطلق النار ثم سمعه يأتي من الجهات كافة فدار حول نفسه وهو يطلق النار، وغرق ثانية في غيهب الصمت الموحش.. الليل الصحراوي ثقيل يا سيدتي ثقيل ومخيف، مسرح للجن والأرواح والضواري وأشباح المخيلة.. شعر الغريب بعزلته وأحس بضعفه بعد نفاد مخزن المسدس، ولأول مرة سمع ضربات قلبه واضحة متتابعة سريعة، تضرب أضلاعه كمطرقة تهوي على سندان، لم يعد يفكر في البحث عما جاء من أجله، انحسر تفكيره الآن بالنجاة بحياته، ترك كل شىء وتحرك بخطوات متعثرة نحو سيارته، لكنه سرعان ما توقف وقد شلّ الفزع رجليه. كان الذئب مقعياً هناك قدام السيارة، وتابعته أرواح الأجداد وهو يقف قاطعا الطريق على الغريب ثم يعوي عواء شرساً ويتقدم ببطء وحذر نحو الغريب الذي تراجع منسحباً ببطء أيضاً.. كانت عينا الذئب لا تطرفان لا تفرقان المسدس الذي حرس الغريب على تصويبه نحو الذئب برغم علمه بعدم جدواه. وعلى نقيض خطواته المتراجعة ببطء كانت خطوات الزمن الماضي تتقدم مسرعة في ذاكرته.. شموع حياته التي توشك على الانطفاء سنين دراسته ومرهقته ومغامراته وكتبه وابحاثه، طوافه حول مدن العالم وقبل أن يطيل النظر الى وجه زوجته اصطدم ظهره بشىء صلب.. تخيلي موقفه ألان، ذئب مرعب يوشك على افتراسه وعمود حديد يمنع تراجعه. دونما تفكير رمى المسدس الفارغ بوجه الذئب، وبخفة قرد تسلق العمود وجلس فوق مستطيل السهم الذي يشير الى مخيم شركة  التنقيب عن النفط.. دار الذئب عدة مرات حول العمود، خربشه بمخالبه وحين أيقن بصعوبة تسلقه أدار ظهره ورفع رجله وبال على العمود قبل أن يتركه وينسحب، وبدا لأرواح الأجداد وكأنه قرر مغادرة المكان فعادت تبتهل إلى الآلهة كي تلهم الذئب طريقة ما للانقضاض على الغريب الذي حاول سرقة تاريخ الأجداد، وكانت استجابة الآلهة أسرع مما تصورت الأرواح فقد عاد الذئب مسرعاً مقتحماً مثل (الردم1) عندما يداهم البادية.. كان منتصب الشعر، منتصب الأذنين، منتصب الذيل، مشرعاً مخالبه، مكشراً عن أنيابه، انقض على التراب أسفل العمود وابتدأ يحفر بسرعة والتراب يتطاير من حول قاعدة العمود  

           

.................                                    

هامش  

1 ــ الردم: السيل المفاجىء                                              

 

في نصوص اليوم