نصوص أدبية

زهرة مراهِقة

almothaqafnewspaperللتوّ تفتحت أزهارها، باسمة لعامها الثالث عشر، للتوّ تبسمت لها الحياة، بدأت تتضح ملامحها، كانت تخطو خطواتها في سن المراهقة، جسمها يئن خجلاً تحت وطأة التحولات الفسيولوجية، مشاعرها تتقد كجمرة كانت تحت رماد مختبئة، حتى تلك المضغة القابعة في يسار صدرها الصغير ويكأنه ينبض لأول مرة .

في يوم ربيعي جميل قررت عائلتها الخروج في نزهة في الحديقة العامة في مدينتها، اه نسيت اخبركم ان عائلتها لم تكن عائلتها بالمعنى الذي تعرفونه، كانت تعيش معهم، كانت تعدُّ عائلتها، ربما لم تكن عائلتها لكنها كانت كذلك فهي يتيمة الاب والام، لقد استمتعوا، ولعبوا، وضحكوا جميعاً، بينما انشغلت هي باستكشاف هذا العالم الجميل حيث الازهار الملونة المختلفة تتراقص مع الريح، وهذه الأشجار الحانية تزيح عن وجهها الجميل حرارة الشمس، كانت تتنقل كالفراشة بين بتلات الزهور، تداعبها، تتلمسها، تميز عطورها بحواسها الفتية المتقدة، وتجمع كل ما أوتيت من تركيز؛ لاختزان كل ذلك في ذاكرتها البضة تلك الذاكرة التي سئمت ذكريات الحزن التي احتشدت بها تنغص عليها حياتها، لأول مرة تشعر بالسعادة، كانت تجربة ولا أروع، أخذت تهدئ روع الأشجار التي اندهشت من انسجامها مع الازهار حتى ظنت انها من نسلهن، هكذا بدت وهي تحتضن باقة صغيرة من الأزهار الملونة لتحتفظ بها كذكرى (ماديّة، حسية) جميلة وأثراً ليوم سعيد لعلها تستمر هذه السعادة وتقبض عليها كما قبضت على باقة الورد هذه، وبينما هي كذلك لاحظت عينيه تراقبها من بعيد، تتبعها حيثما تنقلت، وهي ترفرف بأجنحتها البريئة الرقيقة، تبتسم اذا تبسمت وتسكن اذا سكنت، اربكتها تلك النظرات الحنونة الناطقة بصمت صارخ، فتلجلجت بخجلها وكفت عن الدوران والقفز، كم تساءلت منْ هذا الشاب؟ لماذا يراقبها من بين البنات؟ ولمَ هي؟

مهلاً صغيرتي، مهلاً، لا تخافي، هكذا طمأنها قلبها لا شيء يخيف كل ما في الامر انكِ كبرتي وما عادت تلك الضفائر تناسبك، انها مرحلة عمرية جديدة يسميها العلماء (المراهقة) وأسميها بداية الحياة .

ما سِرّ هذا الانجذاب لنظرات هذا القادم من المجهول الجاثم خلف الأشجار، ولماذا يتبعها وعائلتها طوال طريق العودة للبيت؟ كلما التفتت وجدته هناك بابتسامته، ونظراته الحنونة، بقلبهِ الذ بدا دالقاً مشاعره بفضائحية غير مسبوقة، كان طويل القامة نحيلاً، ينسدل على عينية غرة طويلة من شعر اسود ناعم، أشفقت عليه من رحلة التعقب الطويلة تلك، فأرادت تجنيبه العناء فرمت لهُ زهرة على جانب الطريق ؛ ليكف عن ملاحقتها ويعود ادراجه، التقطها وضمها بين يديه ثم خبأها في ظل قلبهِ، لكنه ظل مستمراً على حالتهِ، وتستمر الرحلة حتى عتبة منزل العائلة، وكلما التفتت رأته مصراً على اكمال الطريق، هنا ادركت انه كان يريد معرفة عنوانها بالضبط، وبينما يدخل افراد العائلة واحداً تلو الاخر تأخرت عنهم، والتفتت، ثم وضعت زهرة ثانية على زجاجة سيارة عمها الامامية كانت تلقي بجسدها قرب جدار المنزل مع ابتسامة صغيرة، مشفقة عليه، لتريحه من عناء رحلة التعقب الطويلة، لقد أسرها بلطف نظراته ورقة مشيته، تيقنت من استلامه رسالتها (الوردة)، فتبسمت وودعته بنظرة دافئة ودَّعت بها طفولتها البريئة، دخلت منزلها، بل دخلت قلبه فلا منزل لديها سواه الآن، بينما كان هو هناك فرحاً برسالتها وابتسامتها وكأنه امتلك العالم باسره، إنه حب في زمن الصدق، حب صادق بلا زيف، لم تلوثهُ مسلسلات التلفاز الهابطة، المحطمة للأخلاق التي تربى عليها الفرد والمجتمع، كان الحب صعباً ووصل الحبيب شاقاً، وليس مجانياً كما هو الآن ببركة شبكات الانترنت .

اهتدى لبيتها ----- فأضاعه القدر، وتلاشت نظرات ذلك الغريب على تلك الدروب البعيدة، وها هو عطر الزهر مازال عالقاً --- بذاكرتها، ذاكرة زهرة مراهِقة .

 

حليمة خليل الجبوري

 

في نصوص اليوم