نصوص أدبية

عداة البين

alhusan bshodانتهى الخط الطويل الشيق، هكذا أحسست ..!

انتهيتُ إلى عالَم حسِبتُه جديدا ورحبا...!!

لا شيء يَبعث على الاستغراب أو الإعجاب، الفوضى نفسُها، العبث نفسُه، والكلام نفسُه تتردد أصداؤه هنا، كما هناك...

...

عينان ترمقانني في خُبث، توجستُ منهما، انحنتْ الرقبة التي كانت تحمل تلك الرأس..، ملأَ بعض الأوراق وسلّمني المفتاح.

سريران أصمان مُدثَّران بالبياض، بياضا يبعث على الخوف، على النفور. يتعثر البصر  بشح الألوان، ....

مِصباحٌ خجول متوارٍ خلف مُجسم رديء الصنع، صوانٌ خشبيٌّ متداعٍ؛ مجبورٌ على الصمود أكثرَ وقتٍ ممكن. معدن الصنبور قد تخلص من قبضة الإسمنت، وصار يترنح كلما استَجْدَتْه أناملٌ بِدفقة مـاء.

...

تدور العجلاتُ السِّت، تقضِم الإسفلت في جنون، وتعبر بي بعيدا...

خلفي، أرى البوابة تصغُرُ شيئا فشيئا إلى أن تختفي.

لم يرنّ الهاتف يومَها، أَحسّ بالدموع تَخنُقُه، تذكر أُناسا بعينِهم..، تذكر أمّـَـه، وتذكر آخرين ..

مع كل انحناءة للشمس خلف الأفق، يزداد خفقان الوحدة والضياع

...

يتحسس قِطع العملة في جيبه، يطوي ما استطاع من المسافة ماشيا، أو مهرولا ..

لا شيء مما سمِع، .. لا شيء مما كان يُقال له، .. لا شيء، .. !!

عيناه تُكذّبان أذنيْه .. لا شيء مما قيل، سوى القليل، القليل فقط ...

...

مع ساعات المغيب الكئيبة...

الطيور المهاجرة كأسراب الجراد الأحمر، تأوي إلى وُكُناتها، هناك في الأقاصي، وتحج إلينا بعد ربيـع ...،

تمضي مُجتمعةً، وتؤوبُ مجتمعة.

...

يأتي الليل .. ليستيقظ الحنيـــن

....!!!

بيَده، يطبق على رواية، غلافُ عنوانِها إلى خصره، يحجبُه عن الأعين التي تمسح البشر والحجر، بحثا عن أي شيء يُشبع الفضول.

يقرأ : "هنا كل شيء مباح، .. ستتعود سريعا، وتنسى سريعا كذلك، تنسى ارتباكَك، تنسى ثقافة الخوف والخضوع، تنسى سذاجتَك، تنسى الضعف الذي تسمونه حيـاءً ...

تنسى.. وتنسى وتنـ....

هنا تستطيع البوح بكل تلك الكلمات التي تجثم على صدرك منذ زمن، ..  هنا تستطيع أن تصرخ، أن ترقص، أن تُحبَّ أيضا .. !

الحب هنا متاح، الحب هنا أشكال وأذواق، أقل درجات الحب هنا، أن تَجد من يصغي إليك، أن تجد أنيسا لوحدتِك،.. السكون هنا لا يطاق...، الحب هنا كلَّ لحظة..

اللحظة التي تخسر فيها كل شيء، تكون فيها حرا لتفعل كل شيء...،

هنا، كما في كل مكان، لكل قومٍ سُنّةٌ وإمـامُـهـا ...

...

سِريَّ القديم !!

أسرارُه التي أودعَها في أجوافِهِم، بعد أن خالها آبارا صماء، صرخ ليوصلها إلى القاع، وبعد أن تولى، تردد الصوت في الأحشاء، ثم ارتفع صدىً مضاعفا ومكررا في الفضاء الخالي، إلا من أولئك، ... ومن هؤلاء أيضا..!

لقد تعلم كيف يحفظ أسرارَه .. سيبُوح بها للجميع، كي لا تبقَ أسرارا،

لا شيء سوى العبث.

أيامٌ طُويَت على عَجلٍ .. كما تتوارى الأشجار في لمح البصر، لناظرٍ من نافدة قطار منطلق

...

أسبوع كامل ويزيد، قضاه وحيدا كما قضى الأيام المنصرمة.

...

خرج من تلك البناية المهيبة، من ذلك الصرح، وضحكاتُهم تضج في أذنيْه.. سُخريتهم الوقحة، تتردد في رأسِه وهو آيب إلى مسكنِه

شيء ما يضغط على صدره، يُحس بأنه يتنفس بصعوبة، من حين لآخر يُرسل زفرةً مسترسلة، كأنه يحاول أن يتخلص من شيء ما، .. من شيء يخنُقُه...

المحطة قبل الأخيرة، نزل .. اجتاز الشارع  وانعطف جهة اليسار...

حملق بوجهِهِ في السماء،.. في وجوه الناس... ثم شرَد .. ثم انتبَه... كان يحاول أن يستحضر شيئا من ذهنه يشرحُ حالَه..

إلى أنْ  تَحَامَتْه العشيرة كلُّها، وأُفرِدَ إفرادَ البعير المعبَّد

....

مساءَ أحد تلك الأيـام .. وصلته رسالة قصيرة .. تصفحها على عجل .!، رقم المرسل غير مسجل على قائمة الهاتف،  والرسالة فارغة !!

...

في صبيحة اليوم التالي، ... اكتشف أنها الرسالة التي كان ينتظر منذ مدة، وعلى أحرّ من الجمر .

...

يُذكي المحرك فورة العجلات، فتدور في جنون مبتعدة به أميالا أخرى ..

يلتفت، .. ليرى البوابة تصغر في عينيه شيئا فشيئا إلى أن تختفي ...

لا شيء مما سمع ..، لا شيء مما قيلَ، العبث نفسُه، و الوجوه نفسُها... والـ...

...

غصة محبوسة في حلقه، وصدرُه مطبق على قلبه

انفجر عمود السارية، وهوى الشراع

دارت الحافلةُ نصف دورة..

نصف دورة كاملة، أنجزتْها العجلات في لمح البصر، وانطلقتْ عكس الوجهة

اهتزّ كيانُه داخل الحافلة وطفِق !!

أحس بالوهم يسقط عن كتفيه كمعطف شتوي سميك..

أحس بالهواء يسري إلى رئتيْه عذبا سلسا..

أحسَّ بفضاء الحافلة وقد أصبح مُضاءً بشكل مفرط، كأنما كان ينظر من خلف نظارة سوداء قاتمة.

أحس بجسمِه خفيفا، ورشيقا..

كل شيء في جسمه قد انتبه، أيقن أن شيئا ما قد تغير ..

من النافذة، المعالِم التي مرَّ عليها في غدوه، .. هي نفسُها في طريق الأوبة..!

هي نفسُها، .. نفس الـ....، نفس...، نفـ.....!!

تلك المعالِم، .. لم تتغير، لما تنافق،

بَدَتْ له البوابة مَدَّ البصر، صغيرةً كقطرات الندى، تتلألأ في البعيد، كما تتلألأ قطراتٌ من الدمع في جفنيْه..

تلك الدموع، .. سيأتي عليها المساء فتغدوا

كأن لم ترقرق، ولم تلمع

تلك الكلمات، .. سيأتي عليها السكون فتُمسي

كأن لم تَمُرّ على مسمعي

تلك الحافلة .. منطلقةٌ، راكضةٌ، مسرعة

مع الزمانِ الراكضِ المسرعِ

هذه الحافلة، .. ستتوقف عمَّا قليل

كأنْ لمْ تحرَّكْ ولَمْ تُدْفَعِ

تلك البوابـــــــــــة

تكبر شيئا فشيئا، ... إلى أن اقتحمَتها الحافلة

كان في انتظاره أُناس كثر ...

يعرفهم جميعا، .. لا شيء تغيـر ؟!

...

هرولوا نحوه،

ضمَّه أولُ الواصلين إليه،

حملقَ في وجهِه لحظة، ثم قال كلاما أحسبُني سمعتُه من قبل ...، ثم ابتسم.

ابتسمَ ابتسامة صافية

ابتسـامة، مازالت مطبوعة في خاطـري....

 

الحسين بشــوظ- من مجموعة ظل في العتمة.

 

 

في نصوص اليوم