نصوص أدبية

طابوقٌ أسود .. قصتان

hend alamidرويدة

ضجرٌ ورتابةّ وعدمُ ورودِ جديد.. كانَ هذا حدسُها قبل أن تضغط زر الحاسوب لتدخل الى العالم الافتراضي. رفل ابنة السابعة والعشرين من العمرِ. مُتزوجة وأم لطفلين. تُشارك أَهلَ زوجِها كُل تفاصيل حياتِها حتى الخصوصية منها، التي كانت تنال من احترامها ولو بالشيء القليل حين كانت ابنة ببيت أبيها.

نافذة محادثة تنبثق من بين منشورات الفيس بوك. رسالة ترحيب وشُكر على قبول طلب الإضافة لقائمة الأصدقاء الافتراضيين.

- مرحباً.. شُكراً على الإضافة. رويدة.

تذيل نهاية الرسالة بهذا الاسم.

أكملت رفل غوصها بثنايا الوهم الرقمي كأنها تبحثُ عن ضالةٍ ما. أغلقت الحاسوب وكأنها تستأنف الضجر قائلةً:

- عن ماذا أبحث؟! عن الصدق، أم عن صديق، أو عن الحب مثلاً (هه)؟

ابتسمت بسخرية وأردفت قائلةً:

- نُعاشر أصدقاءً ليصبحوا أقرب من الأهل. وبموقفٍ ما نكتشف مدى غباء ثقتنا بالناس. وأنا أبحث في عالمٍ رقمي عن صديقٍ صدُوق.. اي جنون هذا؟!

واصلت التواصل الواقعي في بيت أهل الزوج الذي كان يضيقُ عليها كلما رأت سبابة التقصير والتنكيل تتجه نحوها وكأنَّ لا أحد في البيت يقوم بأعمالهِ غيرها.

في يومٍ ما وكأن القدر أبى إلّا أنْ يتركَ المعتاد من الأمور في حياة الفتاة، ليدخل أهل زوجِها وأهلها في شجارٍ كبير، لسببٍ ما.. وتضيع هي ضحية طرفين كلٌ منهما يُلقي اللائمة عليها. وهي ما بين نارين: إنْ وقفتْ مع زوجها فكفَّة الأهل قد خفَّتْ، وإنْ وقفتْ مع أهلِها فكفَّة زوجِها وأهلهِ قد تنفيها.

حين رجَّحَتْ كفَّة زوجها لاقتناعها بأنَّ الحق معه، ضاقت الأرضُ عليها بما رحُبت حين انقلب الكلُ عدواً كاسراً لها حتى الذين اختارتهم.

انزوتْ بين شجرتين صغيرتين عند زاوية حديقة المنزل تُناجي من يُكلمُها أو يفهمها أو حتى يسمعها.

بعد وحدةٍ بين الأهل وبعد بُكاءٍ مرير تناولتْ هاتفها الذكي بين كفيها لعلَّها تُبصر مهرباً من واقعها المرير.

إشعار ينزلُ من أعلى الشاشة يعلن عن كلماتٍ تملأ مُحادثةً ما:

- مرحباً. كيف حالُكِ؟ أردتُ الاطمئنان عليكِ. فَغيابُكِ ملحوظ منذُ مدة عن (الفيس بوك). أتمنى أنْ تكوني بخير.. رويدة.

شعرتْ رفل بأنها بحاجة إلى أن تتكلم مع أحد حتى وإنْ كانت رويدة، التي لا ترتجي منها صداقة حقيقية كما هم الأغلب في حياتها.

- أهلاً رويدة. أنا هُنا. غبتُ لأنني متعبة، ولدي من المشاكل ما يكفي لسد شهية طفلٍ للحياة.

- ما بكِ؟ لما كل هذا التشاؤم؟ هل استطيع مساعدتك ولو بكلمة؟؟

- لا أعتقد يا عزيزتي. فلقد سمعتُ، الذي لا يخطرُ على بالكِ من وعود وكلام جميل، لم يفِ بهِ الذين طالهم عطاؤنا ووقتنا. هل ستقولين شيئاً يقلب الميزان؟! لا أعتقد ذلك. لكن إنْ أردتِ أنْ تترُكي ذكرى جميلة لمن لا ثقة لديها بكل شيء، فاسمعيني.

وراحت رويدة تسمعُ شكوى رفل إلى يومنا هذا.

....................

 

طابوقٌ أسود

يحرص شهاب الأربعيني على أنْ يملأ صندوق دراجتهِ النارية بعض الحلويات والبطاطا المقلية المعبأة بأكياسٍ ملوَّنة لأبنائه وبناته الثمانية، عَقُب نهاية عملهِ الرسمي في إحدى دوائر دولتهِ التابعة لوزارة الداخلية.

كان يزهدُ بمُغريات الدُنيا بالرضا والاكتفاء بالموجود. ولعلَّهُ تلحَّفَ بالرضا عُذراً له كي لا يتحمَّل أكثر من طاقته بالعمل على النهوض بحال أسرتهِ الكبيرة إلى واقعٍ افضل.

كبرَ الأبناء وزادتْ مطالبهم واحتياجاتهم. ولم تكن زوجته تحتكر ما تكسبه من دنانير قليلة لقاء بيعها الخبز بعد خبزه بتنورها الحديد اللاهب تحت توهُّج الشمس الحارق.

لم يُطرق باب بيتهِ منذُ زمنٍ بعيد. ولعل فقر حالهم أبعدَ الزائرين متفهمين او متضجِّرين من زيارتهم. إلّا أنَّ الطَرَقات سُمعتْ على الباب وكأنَّ هناك مُبشراً لأهل البيت بقدومه حين راح ينادي بصوتٍ عالٍ قائلاً:

- (يا أهل البيت! شنو متضيفون؟!).

تهلَّلتْ أسارير وجه شهاب وزوجته وراح أبناؤهم يتسابقون إلى التحية بقدوم عمِّهم، الذي غاب عنهم ما يقارب التسع سنين منذُ وفاة الجدة أم (شهاب).

بعد وجبةٍ دسمة قد أغدق عليها صاحب البيت ما يملك من خزينتهِ الفقيرة تحسباً لهكذا موقف، أفصح الأخ الزائر عن سبب قدومهِ. وبعد أنْ سرد المقدمات، التي لا تخلو من المبالغة والكذب قال:

- أنا وأخي وأختي الآخران نُريد حصصنا من بيت أبينا، الذي تسكنون فيه.

طأطأ شهاب رأسه خائباً مُشفقاً على نفسهِ من فرحتهِ، التي لم تكتمل بزيارة أخيه الذي كان يشتاقه بجنون.

شهاب:

- وأين نذهب أنا وزوجتي وأطفالي؟!

الاخ:

- أنتَ تعلم يا أخي أنَّ لنا حقاً في البيت. وقد تركناك وأسرتك لتِسعِ سنين من دون أنْ نطلب منك حقنا. ولولا اضطرارنا وصعوبة العيش لما فكَّرنا به أساساً.

رفع شهاب طرف شفتهِ العليا مُبتسماً باستهزاء من كلام أخيه، الذي يعلم حق العلم بأنه وأخويه الآخرَين أحسن منه حالاً بعشرات المرَّات. وما زاد من غُصَّة قلبه أن بيت العائلة لا يساوي إلّا القليل من المال نظراً لبنائه القديم وقلة مساحتهِ مُقارنةً ببيوت إخوته العملاقة. لكن الطمع يلبس ثوب الحق أحياناً في عيون الباطلين.

بعدَ شدٍ وجذب بين الإخوة الأربعة عقبَ كل اجتماعٍ عائلي مقصدهُ واحد، اتفقَ الثلاثة على أنْ تُباع حصصهم من البيت القديم لأخيهم الكبير شهاب على أنْ يسددها بشكلٍ جُزئي ادعاءً منهم نية مساعدتهِ،

لم يكن أجر العمل كافياً لسد رمق الأسرة وتسديد الدين لإخوتهِ فقرر أنْ يعمل عملاً إضافياً عسى أنْ يستطيع إمساك زمام الأمور. لكنه أنفقَ من صحة بدنهِ في العمل طيلة سنين ما جعله يعجز عن محاولة إيجاد باب رزقٍ آخر. وراحتْ تجرُّهُ أيادي الكسب الأسود وتلطِّخهُ بمكسبٍ وفير نسبيياً مقاونةً بما كان يكسبه سابقاً.

امتلكَ شهاب البيت، وفقدَ من سكون الضمير الكثير. وتبريراً لضلالهِ السبيل جعل حجة ملكية البيت باسم زوجتهِ، التي لم تنعم هي الأخرى بنعمة الاستقرار ليوافيها الأجل بنوبةٍ قلبية تركتْ بعدها أبناءً شباباً وشابات وزوجاً حزيناً على فراقها.

وفي تجمُّع أسريٍّ طلب أبناؤه الثلاثة من الشباب أنْ يأخذوا حصصهم من البيت ليبدأوا بمشروعٍ ما أو يسكنوا تحت سقف خاص بهم.

ابتسم الأب ابتسامة حزينة لما عادتْ الأيام به إلى نفس المشهد بوجوهٍ مُختلفةٍ، قائلاً:

- البيتُ قديمٌ ودماءُ الطمعِ مُتجدِّدة.

 

هند العميد

 

 

في نصوص اليوم