نصوص أدبية

شياطين الغابة

heyam fershishبدون إنذار، كان الحريق على عجلة تستعر ألسنته، ولظاه يبلغ النائمين، وطقطقة أشجار الصنوبر والفلين والفواكه الجافة تطرق دهشتهم، كان عليهم أن يستيقظوا.. لا أسرة تحوي أحلامهم، كل ما سخره لهم الإلاه حرق، أشجار ظليلة سامقة تربوا بين أحضانها، واستنشقوا روائحها العطرة، نباتات الجبل، الاكليل، الزعتر، الخزامى، الهواء الذي يسري كماء الحياة بين الشرايين، قطعان الغنم والبقر والماعز أعدمت، حتى خنازير الغابة وضباعها التي كانت تعيش هناك متخفية عن شرور البشر، لم تنل غير الموت حرقا، لا رعي بعد اليوم، صيد الخنازير حرم عليهم، أشجار الحياة تتفحم تشوي حرقتهم، أما منازلهم التي شيدوها حجرة حجرة وجلبوا أحجارها من مقاطع الجبل، ستكون غذاء لنار تفتح فوهتها الغائرة.

 تستعر النار في لوحات الحروب، تقدح وهجها من أشعة الشمس الحارقة، تنهض عبدتها القدامى من غفوتهم بعدما التهمت محاصيلهم والتهمت الغابة التي يستظلون بها إلى أبد الآبدين، زحفت على ديارهم لتحول هياكلها المحترقة الى معابد مظلمة، تستنير بنور الشموع الضئيل، وشعلات اللهب، علهم يقدمون ابناءهم وبهائمهم ليستلذوا شويها، كما الآن، ويرقصون حولها متجردين من كل يقين، ليسوا أرفع من قابيل صاحب الجريمة الأولى وهو يبني بيتا للنار لينعكس نورها في لون النجوم وأقمار السماء.

لقد خالف سكان الغابة تراتيل النار، لم يتركوا لها أمتعتهم هدايا، بل حزموا ما أزمعوا حزمه، ورفعوا ما يمكن رفعه، أدباش في صرر على ظهورهم، أثاث على عرباتهم، وأكتافهم، أوراق هويتهم. لن يقدموا لها القرابين، لن يصدقوا هلوسات "زرادشت"، لم تهذب توحشهم كما زعمت، والنار تمضغ ما تفحم في عزوف عن مواصلة النشيج، وهم يمضغونها كاللحوم النيئة تصارع أنينها إلى أن تهمد وتخمد وتدفن جثتها في الرماد.

يقول شيخ يتكئ على عصاه وهو يغادر الغابة التي أنس اليها منذ سبعرعقود:

"نحن لانحلف بالنار والملح بل بماء شجر أكرمنا، سنعود ونحيي عروقه لنعيش معا".. ويردد ابنه وهو يساعده على المشي، ومن حين لآخر يريد حمله ولكنه يأبى ويثبت يده على العصا، "أي لعنة تنزل على من تبرك بحرق الدواب؟! لقد رأيت البقر والغنم متفحما والشباب المقنعين يتمتمون بكلمات غامضة وهم يهمون بإشعال النار فيه ويتوعدون بإبادتنا،

وتصرخ امرأة متغضنة الملامح تلبس الملية البربرية، وهي تشيع بنظرها كتل الدخان التي تلاحقهم: "لقد أحرقوا قطعاننا وحشوا الحطب المشتعل بين الأشجار، وهجموا علينا بسيوفهم وسكاكينهم وطلبوا منا ترك الغابة وأجبرونا على الخروج من ديارنا".

يرد الشيخ بلغة من خبر الحياة والأشياء من حوله، الريح التي تؤجج النار ستذرو الرماد على وجوههم وأنفاسهم..لقد سودوا الأرض والسماء سود الله وجوههم..".

تعترضهم شاحنة ويطلب منهم السائق الصعود لنقلهم إلى المأوى. الشاحنة التي تغص بسكان الغابة تمتلئ صدورهم بالغازات السامة ولا تصدر عنهم زفرات التنهد..

عارية الغابة من أشجار تستر عزلة ساكنيها، عارية من ذلك السر الخفي الذي يراود من تستر بوحشة الظلام، ليتأمل بوارق ضوء من وراء الأغصان المتشابكة، من جداول وعيون تنفجر بين صخور الجبل، كان يستحم فيها بعيدا عن الأعين المتلصصة، وينتشي في خلوة على صخرة تنبت حولها ونباتات وأزهار شوكية.

 تناهت إليه كلمات صديقته الفرنسية "فيستا" التي عرفها ذات سهرة ماجنة في علبة ليلية، حدثها عن انحداره من منطقة غابية، لتحدثه عن قرفها من الشجرة تلتحف ببياض الثلج كعروس باردة لا تستقبل الضيوف بل تصفع من يزورها، وترمي زائرها للصقيع، تنتصب مع أشجار الغابة كأعمدة صلبة تهندس فضاءها، وتفصله، وفي الصيف تخدع بظلالها مرتاديها. تبدو حاجزا أمامها وهي التي تريد أن تركض في فضاء شاسع، وتنظر للسماء وتحتضن أشعة الشمس المنتشرة. لم يكن أقل قرفا منها، الغابة كآبة لا تثير نفسه المتلونة الباحثة عن مكان تحت الشمس وعن بريق. الرومنسيون يلعقون فيها خيباتهم وتدفنهم. أقلع إلى المدينة بدخانها ولغتها السمجة على أرصفة الحانات، ليتحول إلى عربيد بوهيمي يتقيأ ويتبول في أركان الزقاق ثم يحمل كل هذه النتونة إلى أعماقه.

 لم تمض أسابيع على هذا اللقاء حتى وجد نفسه مقيما في إحدى شقق أروبا، عضوا منتسبا إلى جماعة تقيم طقوسا غريبة، غامضة، يتوه أثناءها في عالم غامض محموم كصخور صلبة تحولت إلى شظايا. تنبري صورة الشجرة تلمع بالجمر الأحمر، يتدفأ بها أيام الصقيع ويغذيها بأفكاره الجافة، الخشب المتفحم يراه في مخيلته رمادا، يكومه في دلاء ويجره الى مستنقع ملوث... يتلمس انعكاس الظلال في العتمة وهو يرقص حول النار كدرويش فقد نشوته.

 والحقيقة أن إخوته كما سموا أنفسهم بدوا رفيقين به، وأوجدوا له عملا بمصنع لتوليد الكهرباء عبر الفحم، هناك بات يرى الشجرة جمرا يتوقد ضوءا أيام الزمهرير وقد تحولت إلى ابنة الشمس المدللة،  يجب أن تبقى مشتعلة، مصدرا دائما للطاقة. النار لا تضمر شرا للشجر تقول صديقته "فيستا" بل تتحول وتتصنع وتنفع الناس، النار لا تحرق بل تضيء يقول مدير المصنع الذي يواظب على حضور طقوس النار، تلتهم الشجر لتصنع منه طاقة حرارية وكهربائية، ولكن أسعار الفحم باهضة في بلده، ولا بد من غابات تزودهم به وبكميات كبيرة، "سنعرف كيف نجلبها، فقط دعنا نزور معك غابات بلدتك".

الغابة عارية ونار الشياطين تمسح عن الأنفس المستكينة، القانعة بما جاد عليهم الرب من نعم قليلة ولكن النار تراها كبيرة، شجرة واحدة تكفي لمد أملهم في الحياة في هذه الأدغال الآمنة، حيث الحياة ممتدة الى لحظة أزلية تعانق اليقين، والنار تسكنها رغبة قديمة في رفع القداسة عن مناجاة الرعاة للشجر.

يغمغم رجال الإطفاء وهم يمضغون حنقهم وقد قضوا ليال متتالية  في مواجهة النيران الهستيرية، بينما قص الرجل المرتبك للإعلام حكاية مفتعلي الحرائق المدبرة المتزامنة، كان يسرد دروسا قديمة عن حرائق الغابات، ويخمن أن ضحايا قطعت أرزاقهم قد أشعلوها. فالجناة دائما تضيئهم النار التي أضرموها لتحرق الجثث الهزيلة و الأسمال المتهرئة.

ولم يجد السياسي اليساري غير ذريعة تجار الفحم ليقدم صورة الجناة الذين أسالوا لعاب الناس بحفلات شواء في عيد الأضحى القريب، ووعدوا أصحاب المشاوي بالفحم العطر الذي يغري المسافرين في الطرق  السيارة، كما وعدوا الصيادين الذين يبيعون السمك المشوي في الشواطئ الصخرية بكميات كبيرة من الفحم في انتظارهم وبأسعار معقولة.

 وفي خيال البرجوازي حفلات "البارباكيو" التي تقام في حدائق المنازل. و في ضيعته التي اشتراها من تجارة السياسة. 

النار لا تحرق بل تضيء، قال السيد تومي عندما تجول بين أنحاء الغابة، تلتهم الشجر لتصنع منه طاقة ضوئية وحرارية، لا يكفي أن ترقص أغصانها وتنشر ظلالها كشخوص تخدع البصر، لا بد أن يلتهب شوق القلب على أنين الشموع، الشجر ينمو ليمدنا بزيت النور، ما أجل صوت النار وقرع الرعد يتمثل وميض البرق، أليس للنار صوت عند هطول المطر؟، هل ترتوي الأرض بغيث السماء الرمادية دون بروق ورعود وأضواء ألا تروي النبات والزرع وتنبت الخشب ليتحول إلى فحم؟

يواجه الجميع  نار الحطم، رجال الإطفاء بخراطيم المياه،  مروحيات الجيش، النساء والرجال بجلب الماء في أسطل، نائب الجهة يركب على دابة  في اتجاه الغابة المستعرة ويلتفت للمصورين، المسئولون تركوا مكاتبهم لمساعدة الحماية المدنية وأعوان الحرس والجيش، ممثل حزب كبير في الدولة شارك البسطاء  في عملية الإطفاء  لاقى تعليقات ساخرة من طرف أتباع انصار المعارضة في شبكات التواصل الاجتماعي. رئيس الحكومة يمضي الى مكان الحريق، يلتقي بمتضررين لسعهم التهميش .

 الناس في هذه البقاع المنسية، لا تعنيهم مطامع رعاة الحرب والسلام، ولا نار الإبادة، ولا غوايتها المتوهجة بالألوان سرعان ما تفقد ضوءها وتتحول الى دخان. ورواد "الفايسبوك" ينشرون صور الحرائق نهارا، وينقدون السياسيين، ويعرضون صورهم في المهرجانات  ليلا، يصفقون ويرقصون على بقايا الشجر المحترق في تخميرة المنتشي بعبثه،  يصفقون لزنجي أنزل سرواله، يقدم أقداح الفودكا لسيده الأبيض  طيلة العرض، لصهيوني يسخر من بلاهة الجمهور، لمغنية الحواري الخلفية تشوه إسم  البلاد، وتهزأ من لونها الأخضر.

 يحترق شجر الغاب ويقدم قربانا. . . حرائق في القلب، حرائق في الروح، حرائق في غاب دعى إليه إخوته كما سموا أنفسهم. اصطادوا الخنازير، وذبحوها، وأقاموا حفل شواء، ورقصوا حول النار، وسكروا على نخبها.

 تستعر النار في أحشائه كبقايا الأخشاب، صور المتضررين تغزو شبكات التواصل الاجتماعي، أمه تضرب كفا بكف، أبوه العاجز يجره الشباب على كرسيه المتحرك، كل حواسه انقطعت، لا روائح النبات والشجر العبق ولا نسائم الغابة ستنفذ اليه عطرة، لن يرى شكل الغابة ولا أشجارها المتعانقة ولا قصص ظلالها المتحركة، لن يسمع ثغاء الخرفان، ولا نقنقة الدجاج، ولا صياح الديكة، ولا خوار البقر، ولا حفيف الشجر، و انصفاقه، ولا هزيزه حين تحاوره ريح ثائرة حد الزعزعة، لن يسمع صوت تشقق الورق والأغصان حين تهم الشجرة بكشف سر كونها، لكنه يرى نار الحرب، تصنع طاقة الآخرين، حياتهم، نماءهم.

 كانت النار شديدة، نام على جمرها كدرويش فقد يقينه، واستسلم لها.. كان قد ترك رسالة قبل انتحاره، حرق أطرافها بدخان سيجارة مستوردة، لقد سلم الغابة لشياطين النار وعاهدهم على الوفاء لتراتيل النار.

 

هيام الفرشيشي

 

 

في نصوص اليوم