نصوص أدبية
زقاق بيت العمّة
رآها تقطع الدرب، مخلفةً الزقاق الذي أطلقوا عليه قبل خمسة عشر عاماً "زقاق بيت العمّة" وظل مقروناً بالاسم، لا أحد من المدينة يتنكَّر له فيستبدله .
رآها تتعثَّر في مشيها كما لو كانت تمرض أو تعاني من نزلةٍ تهزُّ كيانَها فتجعلها بلا اتزان .. كان قد رآها لأول مرّةً قبل شهرٍ فحارَ بوصفِها لمّا تبارى في ذهنه مِن تقديرِ جمالٍ أو تخمينِ رهافة ... قال إنَّها فتاةٌ مُموَّهةٌ بألوانِ الطيف، فهي الالقُ . وقال هي غيمةٌ بيضاءَ تعومُ في بهاء شذري ناصع فهي بسمة من بسمات الله في لحظة رضائه . وايضاً قال مستدركاً يبغي الغاء القولين الآنفين: لا !.. لا !؛ هذه غزالة الوله تبحث عن فيضٍ لتحاوره بلغة الجمال، فهي من مخلوقات الله الحِسان ... ومن جديد استدرك فقال: هي غزالةُ الوجع طعنها صيادٌ بسهمٍ نافذ وجَّههُ صوب قلبها فأبكاها وآلمها وعذبها ثم تركها لوعى تترجّى ضماد الايام كي تُشفى لكنَّها لم تتخلَّ عن البهاء .. المُهِم كان صُدم بجمالِها فشحذ المخيلةَ واستعطف العقلَ واطلقَ الكلمات؛ ولم يكتشف إلا غب ايامٍ ألماً دفيناً تواريه خلفَ حُجِب رموشِها النافرة، وأرته أنَّ الجمالَ الفوّارَ تُنقصُه لافتةً فصيحةَ الكلمات، وأنَّ هذا الجمالَ جريحٌ ولا من يُطبّبه ويشفيه .
تذكَّر يومَ وقفَ وراء منصَّةِ الالقاءِ قبل أسابيع ليُفضي بشِعرٍ هتفت له النساءُ وامتعضَ الرجال . شعرٌ حَشدَ له الصورَ واجَّج المفردات ثم تركه ينثال مطراً استخلصَه من مُهجِ وردِ الجوري المتوزِّع في حديقة بيته وقد فضَّله أحمرَ قرمزي لا ورديّاً شفّافاً يُهديه لملاكِهِ الساحر .. صوَّر بين ثنايا اسطرهِ المرأةَ ملاكاً ؛ ورسمها فتاةً تحملَ مواصفاتِ الجمالِ الأيقوني .. يدعوها للتوهِّج، للتألق، للظهور، لتمزيق حُجب الخوف، لاعتلاء ناصيّة الرحيق .. يعطيها صفةَ القوارير التي ينبغي صناعة الرفق في التعامل معها والتحدّث اليها، مثلما يمنحها بيرقَ اشهارِ وجودِها قوةً فاعلة لا يكتمل بيتُ السعادة إنْ لم تكن هي دعائمُه واساسُه وواجهتُه الجميلة .
نهضت التي في المقدمة فصفَّقت بحرارةٍ ومودَّةٍ واعجاب وكانت بتنورة زرقاء وقميص ابيض يتهادى عليه شعر بلون القهوة طويل وكثيف . قالت في سرها: انه يقصدني .. ومن الصف الثالث وراءها كان جمعٌ من فتياتٍ مراهقاتٍ يلبسن البنطلونات الجينز والقمصان المشجَّرة صرخن بصوتٍ واحدٍ دهِشةً: الله ! ثلاث مرات وقد أعقبت كلمةَ الله عشراتٌ من علامات التعجّب، ردَّدنَ مع انفسِهنَّ: انه يتوجّه بخطابِه الينا فيما هتفت مِن آخر الصالة فتاةٌ تجاوزت الثلاثين وقد تخلَّت عن وقارِها المتمثل بشالٍ تلفُّه على رأسِها بإحكامٍ وكوستم يخفي قوامَها حتى الكعبين الواطئين لحذائها الجلدي الخالي من بهرجة الطرازات الحديثة: يا هذا ؛ ما الذي تفعله بنا .. ستقودُنا الى الجنون .".. لا يدري الجالسون أنَّ القصيدة توجَّهت للغارقةِ في كرسيّها في زاويةِ القاعة وقد اتَّخذت مكاناً تخفتُ فيه الاضاءةُ وترى في التواري ابجديةً للتطلِّع دون بهرجةٍ أو صراخ . وكان هو بين الموقنِ بأنَّها هي والمشكِّكِ بغيرها .
نهوضُ النساء جعلَ وجوهَ الرجال تحمَر وتحتقن فينتفضون صارخين: ما هذا يا شاعر الحماقات .. انتَ تؤلِّب علينا نساءنا .. نساؤنا حرثٌّ لنا انّى شئنا .
كان بإمكانه حثَّ الخطى وايقافَها للاستفسارِ عمّا بها وفي ما إذا كانت هي الجالسة في أمسية الشِّعر وسمعت قصيدتَه التي تخصُّها، لكنه آثرَ المتابعة عن بعدٍ خشيةَّ صدّه بما لا يرضيه .. هي التي انتفضت مراراً فأسمعت غيره ممن كانوا يقدّمون العونَ لها اقتراحاً أو يسعون لقطعِ دابر ما سيؤذيها أو يتسبَّب لها بجرحٍ ستلقيه فوقَ ركامِ جراحِها التي كالجبل .. وحين استدارت وهي تدرك أنَّ وقعَ خُطى تلاحقُها وجدته يتحاملَ على نفسِه في البقاءِ بعيداً عنها . فقط سمعته يهمس: " حمامة .. حمامة، توقفي ارجوك " .
تدري حمامة أنَّ قلبَه قصيدةُ ألمٍ .. وتُدرك أنَّ دواخلَه الآن مرجلٌ في أوجِ احتدامه .
-عُد ايها الشاعر .. عُد !.. ليس هناك ما تُعينَني عليه .
وانطلقت سهامُ الأسى من عينيها المشفقتين فأصابت قلبَه .. سمعته يصرخ آه فطأطأت رأسَها واطبقت أجفانَها.. عرفت أنَّها طعنته . فالشعراء يُجرحون برفيفِ رمش، والقصيدةُ جريحةٌ تهطلُ من شرفاتِ عيونهم . إنَّ الشعرً بوحُ الروحِ، وإنَّ الشاعرَ لسانُ الألم مهما بدا سعيداً يترنَّم بالسرور .
-عُد أرجوك ..
استدارت صوب بيتِها الذي على بعد انعطافتين .
استدارت تسحب ذيلَ عباءتِها ليلتحق بالجسد ؛ وتركته، وقد فشِلَ، في بحرِ الاسئلة يحاول النجاةَ بطوقِ اجابةٍ شافية يحمله إلى شاطئ الطمأنينة .. يتساءل: أأعاودُ اللحاقَ بها أم أستديرُ وأعودُ من حيثُ أـتيت ؟ .. ماذا لو أسرعتُ واوقفتُها وهتفتُ بوجهها: ليس عدلاً أنْ تؤذينَ نفسَكِ بما لا وجوب له ؛ وليس حقَّاً أنْ تتركينني دونَ ايضاحِ السبب؟
ماذا لو هتف من بعيد يُسمِعُها: لا جدوى مما تتصورينه حلاً .. الحلول انتهت بنهايةِ الغياب ؟ وكان يظن انَّها تحتفظ بحبٍّ لحبيبٍ رحلَ ولم يعد .. حبيبٌ من اولئك الذين يعطون وعداً ويتوارون عن احبّاء اصدقوهمُ القولَ فلا يعودون .
كانت قد استأجرت الدار بمفردِها وظنَّ الجيران أنْ ستلتحق بها العائلة . لكنَّ ذلك لم يحصل .. الذي حصل انَّها كانت تخرج وحيدةً وتعودُ وحيدة . تلقي السلامَ الحميم على الجارات وتغدق على اطفال الزقاق ما تأتي به من حلوى تبتاعها عند التسوِّق . تماماً كما كانت العمّة قبل خمسةَ عشر عاماً تلقي السلام الحميم وتداري الاطفال في الزقاق فحقَّ تسميته بزقاقِ بيت العمّة .
توقَّفَ الشاعر !
توقَّفَ في سعيٍ لاتخاذِ قرارٍ قطعيٍ .. ما لبث أنْ استدار خائباً يُكرر الرجاءات فلا يَحظى بسماحةِ وجهِها وهدوءِ عينيها ؛ لا.. ولا اشبع قلبَه الجائعَ بجوابٍ يجمع من الكلماتِ ما يعادل عسلَ الرِّضا ونميرَ ماءِ اليقين .. وكانت ثلّة فتياتٍ من وراء النوافذ العليا لبيوتهن تابعن ما حصل فتأسَّين وهنَّ يقبضنَ بشدَّةٍ على القضبانِ المعدنية العمودية التي تقطّعُ وجوهَهنَّ والانصاف العليا من اجسادهن .
- أرأيتِن ؟ قالت فتاةُ احدى النوافذ تخاطبُ فتياتِ النوافذ الاخرى .. أرأيتنَّ كيف وكم من المرات يتابعها فتصدَّه ويلحقها فترجوه العودة ؛ هذا الذي نريده فيأنف لمراداتنا وينهرنا لمجرد رغبة النظر اليه واستجداء بيتاً من شعره في وصفنا ؟
كسيراً عادَ الشاعرُ، خارجاً من الزقاق يراجع اجيالاً من المرارات .. يستعيدُ حُقباً من الوجع فلا يُبصر بستاناً للفرح . لكأن الحياةَ قصيدةُ ألمٍ لا تنتهي ؛ أو هي الدنيا دارُ آخرةٍ تنتفي فيها كفّة الحق .
وكانت حمامة تخطو متظاهرةً بقوَّتِها ؛ ضاغطةً بتجبّرٍ على خاصرتِها اليمنى .
" حمامة .. حمامة ! ".. وتردَّدَ الصوتُ صدى يجوبُ رأسَه .
استدار مُحبَطاً، جريحاً، متوجِّعاً . لكأنَّ قلبَه امتصَّ حزنّ قلبِها فأُشبِع به .. استدار وهاتفٌ يجولُ في دروبِ الروح يولولُ بترنيمةِ جزعٍ: هكذا هُم الشعراء ؛ ألمٌ في ألمٍ، وجزعٌ يليه جزع . وليست للسعادةِ رقعةً في خارطة حياتهم .
تعرفه يتنغَّم بترديد اسمِها كعلاجٍ نفسي لموجوع بهمٍّ لا ينزاح .. تعرفه ما ازدادَ في كتابةِ القصائد هذه الايام إلا لأنّه وسطَ لواعجٍ تتناسل، وحريقَ قلبٍ يتعالى، وتتعالى على ايقاعه ألسنةُ اللهب وقعقعةُ ألمِ الجراح .
وكان صديقُهُ الرسامُ الذي قضى وايّاه عمراً من الصحبةِ ينتظرُه عندَ فمِ الزقاق وقد جرحت قلبَهُ شفرةُ حزنٍ حادَّةٍ على صديقه المُعنّى .
كانا شبّا سوياً في الزقاق الخارج الى الفرات . هناك اعتادا النزول الى النهر ؛ يعومان مع جوقةِ الصِّحاب في ظهاري النهارات وعصرياتها ثم يعودان في حبورٍ يتبادلان اللقمة مُشتركةً ... ولقد صعدا سوياً الى المرحلة المتوسطة يسوقهما حب الطبيعة (- انسكب في ذائقة صديقه ) ولذة الليل (- صار ديدنا له يستعذبه ولا يفرِّط بعليائه- ) .. وفي الثانوية كانا في مرحلة واحدة ( وقد تعرت الموهبة على كلمات تتراصف لتكون بواكير قصائد لديه، وفتيات ألوان تستحم بالضوء فتستحيل لوحات فنية لدى الصديق- ) لكن في صفين مختلفين، ومتجاورين .. أما بعدَ الاعداديةِ فوجدَ الشاعرُ نفسَه يطرق ابوابَ كليةِ الآداب بينما اختار الرسامُ اكاديمية الفنون الجميلة .. هو يقرأ ألفية ابن مالك ويحفظها عن ظهرِ قلبٍ أمام استاذة الادب العربي عاتكة الخزرجي كاختبارٍ لاجتياز الكورس الاول من المرحلة الاولى بينما الرسام يدخل قاعة الرسم فيتوزَّع مع الطلبة على مصاطبَ يمزجون الالوان منتجين الجديدَ منها ومتوجهين الى استاذهم فائق حسن ليمنحهم انطباعَه رِضاً أو همسات بهيئة ملاحظات .
قال له مندهشاً: كيف تَصدُّك وانا شاهدتُها بعينيَّ هاتين تحمل مجموعتَك الشعرية الاخيرة وتضمّها الى صدرِها، تحنو عليها مثلَ طفل، وتتيه شاردة كأنها تعيش الوله مع كل صفحة من صفحاته .
- أنا موجعٌ !.. " تنهد الشاعر يُسمِعُ صديقَه الرسام" . ما الذي يجعلها بهذا الجفاء إذاً ؟!
تلك اللحظة خًيِّلَ اليه أنّه يبصر حمامة تشتعل فتضجُّ بالنور ثم تتعالى نيراناً ترتقي الى السماء .. خيل اليه انه يسمع اصواتاً رخيمةً تلحقها في ارتقائها وعلوِّها.. هنالك .. حيث الملائكة تعيش وارفة في رحاب الله وجلاله، فتساءل: تراها الملائكةُ تحتفي بالكلمات التي القيتها على الجمهور وتحتفل بالقصيدة التي كرَّستها لها ؛ أم هي ترتيلة عزاء لعدم تجاوبِها معي ! ....آآآآآآآآ حمامة .
تلظَى وهو يرددُّ اسمَها !
تحسَّر وهو يستعيد نفورَها !
توقَّف يجمع الكلمات من شَتات فكرِه المُبَعثر ويقول لصديقه بما لا يُصدِّقُه:
" هل تعرف انني رأيت حمامة ؟ "
" أين ؟ "
" هنالك مع الملائكة .. اتكون حمامةُ ملاكاً هبطَ الى الارض متنكراً بمهمّة سماوية ؟ "
يطأطئ الرسّام راسَه لوعةً على صديقِه فيحسب انه يضع الخطوةَ الاولى على دربِ فقدان العقل .. يطأطئُ رأسَه بحزن، ويتململُ مرارةً .. يقولُ في سِّره: الشعراءُ لا يستمتعون بالحياةِ الا حين يطرقون ابوابَ الجنون، ولا يهنئون في مملكتهِ إلا اذا فقدوا العقلَ واضاعوه في دروبِ التيه .
يرفع رأسَه ويقترح:
- صديقي حزين .. دعني أُساهم في حملِ بعض من ألمِك، فأنتَ رفيقي وسميّي في الابداع .
تململَ حزين . طأطأ رأسَه هو الآخر قليلاً ثم رفعه .
هالَ الرسامُ رؤيتهُ يرتعش وقد ترقرق الدمعُ في عينيه، وخمَّنَ سيحَهُ نهراً، فانبرى يرجوه:
- يا صديقي .. دَع حمامةَ لسرِّها واتركَها لما هي فيه . لماذا تسعى لالتقاط السَّكاكين من جراحِها لتودِعَها قلبَك حتى تمزقه ؛ وما هذا الجزع الذي يطوقك فيأسرك ... التضحيةُ لا تكون هكذا، والجزع لا يجب أن يستولي على بستان الروح ليحيله صحراء تشكو الظمأ ... ثم أننا لا نعيش القرون الوسطى حيث الحبُّ حزنٌ وبكاءُ ولوعة . لن تكونا قيساً وليلى، ولا روميو وجوليت .
غرق الاثنان في الصمت .
حزين يفكِّر بحمامة، وصديقُه الرسام آثر جمعَ الاثنين (هو وهي) معاً في لوحة سيضمِّنَها معرضه القادم خلال اسبوعين .
مقطع من رواية (الليلُ في نُعمائه) لزيد الشهيد