نصوص أدبية
زقاق بيت العمة (2)
بعدما دخلت حمامةُ البيتَ واحكمت اغلاقَ الباب من الداخل توجَّهت نحو غرفتِها . رمت العباءةَ على السرير الخشبي وخلعت عن رأسِها شالاً لم ترَ حاجةً له بل اجباراً على ارتدائه منذ أنْ تولَّت الاحزاب الدينية مقاليد تسيير البلد ؛ ثم فكَّت ازرارَ بدلتِها الحابسة لجسدِها وتوجَّهت الى المرآة . أبعدت قرّاصة شعرها ووضعتها على قاعدة المرآة ثم نثرت الشعر على كتفيها .. راحت تتأمّل قوامَها؛ تًطالع تقاسيمَ وجهِها؛ الحاجبين المقوسين كثيفي الشعر، الانف الدقيق، الغمّازتين وهما ترتكزان وسط الخدين، الشفتين المكتنزتين، ثم انتصاب الرقبة على كتفين برمانتي ذراعين متكورتين ؛ فعادت اليها مغازلة اقرانِها الشباب حين كانت تمر في الزقاق . خارجة إلى العشّار وقد بهرتهم باستدارة وجهها وتمايل قوامها غنجاً لا تتقصده .
تعبر الجسورَ الصغيرة المحتلةَ ارصفتُها من قِبَلِ باعةٍ شباب نثروا بضاعتَهم التي بعضها امشاط ودهون شعر وعلب شامبو مُقلَّدة وصوابين متنوعة وعلب فازلين لترطيب البشرة وملاقط شعر وتباروا يهتفون بالمارّة يدعونَهم لمطالعةِ بضاعتِهم واغرائِهم بالشراء عبر كلماتِ الترحيب والاستقبال الحميمي فيما آخرون يبيعون عِدد التأسيسات الكهربائية ومصابيح ومفكّات براغي، كذلك النسوة، وكُّنَّ كثراً، يفترشن الارض يعرضن على ابسطةٍ موحلةٍ اعشاباً طبيّةً ومساويكَ ومسحوقَ الحِنَّة والتمائم والشذر المتنوع كأحجار كريمة تجلب الحظ وتكشف الطالع .
تخرجُ من زحامٍ لتدخل زحاماً .. زحامات أوجدها عدم النظام الذي اجتاح المدينة بعد الاحتلال وجعل حركة السيارات في الشوارع ضجيجةً واصحاب الدكاكين يُخرِجون بضاعتهم ليراكموها في المقدِّمة غير آبهين لضجر المارّة وتذمرِهم ؛ والباعة ينتشرون في فوضى لا خلاص منها .
" ما الذي أتى بها إلى السماوة ؟! ولماذا اختيارها هذا البيت المنزوي، وفي زقاق العمّة تحديداً ؟! " .. يتساءل حزين بحيرةٍ، ويحترقُ لوعةً .
كان حاول ايجاد المبررات للإجابة على اسئلةٍ تنبثق داخل مسارب الروح لإرضاء قلبه وتطمين مشاعره ؛ فيقول : كثيراً ما تتحكَّم المصادفةُ في مصير الانسان واضعةً إيّاه في اللاحسبان، في اللاتوقع، في اللاقصد .
ولم يكن يدور برأسه أنَّ ثمَّةَ سرّاً استمر دفيناً في نفسٍ لخمسةَ عشر عاماً، وما مجيئُها إلا لكشفِ هذا السر .
كان صديقُه الرسام يتساءل : إنَّ البصرةَ لمدينة جميلة ومبهرة، وإنَّ شطَّ العرب لساحرٍ ومثير فكيف أتت إلى السماوة تاركةً الجمال والسحر، متجاوزةً الابهار والاثارة ؟!.. " ؛ ثم " لماذا اختارت هكذا بيت منزوٍ داخل أزقة ملتوية كالأمعاء ؟! " .
تساؤلاته يخفيها في سرّه ولم يفِه بها لحزين لئلا يجرحه ويُشعره أنَّه بالسؤال يستفز قلبَه ويطعن خيالَه ويطيح بهيبةِ سموِّها في روحه إلا بعد أنْ وجده يوغِل في ايذاء نفسه . فإيذاءُ النفس فعلٌ يدخل من باب الظلم الذي يكرسه الانسان في ما غير مُجبرٌ عليه . لذا وجد ضرورة ايضاح تأثير الالم وتبعاته على جهده كشاعر موهوب يحظى بجمع هائل من المعجبين .
كان فكَّر بلوحةٍ انطباعيةٍ يضع فيها حزين مع حمامة عند جسر صغير في حديقةٍ تُغني نهاراً وتهجع ليلاً للتفرِّغ الى الاحلام وسط رومانس يجلب لهما السرور .. جسر كالذي وضعه كلود مونيه في لوحته " بحيرة زنابق الماء " . لكنَّ الانطباعيةَ مدرسةٌ فنية تخطّاها الزمن ردَّدَ الرسام في سرّه بحدسِ متابعٍ للفن وموهوبٍ في الرسم .. نعم كانت موجةً ساحرةً، وكانت مدرسةَ جنون، بل كانت ثورة في عالم الفن واللون والضوء، وهي الآن تدخل ضمنَ اطارِ الكلاسيك فلم تثر أحداً لو عرضها في معرضه القادم، وبذلك لن يكون لها وقعٌ في نظرِ زواره ... تألمَ هو الآخر كألمِ حزين ؛ وكشرودِ حمامة .. ظلَّ يردّد بلسان الحيرةِ والتساؤل : ماذا افعل، يا إلهي ؟ .. حزينٌ صديقي، وحمامةٌ مُلهمَته فكيف أُخلِّدهما في لوحة ؟ كيف أفي حقَّ صداقتنا الازلية . إنَّ الصداقةَ لصلة مودّة . تتبارى النفوسُ على ايقاعِ توافقِها لتحيا خالدةً تحكي سر مخلوقات ترى في الحميمية صفةً مُثلى .. نعم، سأنجزُها لوحةً تحكي الخلود لحبيب يرسم الخطى ألماً للوصول إلى حبيبته ؛ والحبيبة من جانبها تتضرع لقلبها أن لا يقسو ولا يظلم .
وكانت حمامة هناك في غرفتها تفكِّر هي الأخرى وقد رمت جسداً واهناً على السرير : يا إلهي ؛ هذا الشاعر مُعنّى بي، ملهوفٌ عليَّ . وأنا لا اقدر على صدّه ، كذلك لا استطيع اظهار ودادي له ... أعنّي على محنتي يا رب، واجعلني قويّة صامدةً قبل أن تنهار دفاعاتي فاعُلِن هيامي أنا الاخرى به .
نهضت .. تركت السريرَ ورفعت كتابَ روحِه .. طالعت العنوان، وتحولت الى الغلاف الخلفي لتتشرب ملامحَه في الصورة التي تكشف شابّاً اغدقت عليه الوسامة بهاءً، وامطر عليه الجمالُ الكثير من سحرِ الورود . كان شاربه اسود تهبط ذؤاباته على خط شفته العليا الهابطة على شفته السفلى الممتلئة، وكان الخدان مرتويين حرَّكا في قلبها ماءَ الوله الساكن فمررت سبابتَها عليهما ورفعتها الى عينيه .. كانت عيناه واسعتين برموش نافرة سحرتها وكادت أنْ تذيبها في بوتقة البوح فتروح تردد : لا أحد يمتلك القدرةَ على تجاوزك .
كانت تريد أنْ تقول : ليس فتيات الصالة اللاتي هتفن لك هنَّ من يُحبَّنَّك بل أنا .. أنا التي تواريتُ في تلك الجلسة، في ذلك الاحتفاء لئلا يزداد تعلّقك بي فتهيمُ كما هامَ عشاقُ القرون البعيدة بمن سحرنَهم .
ما أنْ وصل طرفُ سبابتِها الى سواد عينيه حتى طَعن القلبَ سهمٌ نافذ .. كانت الحدقتان تخفيان حزناً دفيناً وأفقاً تتلبَّد فيه غيومُ الأسى ؛ ( هكذا حَدسَت ) . وتوصَّلت بعد تفرِّسٍ طويل إلى أنَّ هناك ما يجعل الشعراء يختلفون عن العامّة فيبدون كأنَّهم يعيشون في عالمٍ آخر أو أنَّ لهم جُرماً يقضون فيه اوقاتهم حين يرتكنون إلى الوحدة ويتوارون في الانعزال ليبكوا بكاءً مريراً، ويحزنون حزن الثكالى .
تمتمت : ما لهم الشعراء يَسِعدون المستمعينَ فلا يُسعدون ؛ ويفرِحونَ القُرّاء فلا يفرَحون .. ولماذا حزين بكلِّ هذا الأسى ؟.. تراني أنا من تسبَّبَ في ذلك أم أنَّ ثمَّةَ ما يوجِعُه ؟
حزِنت، وتألَّمت، وتأسَّت . ثم عادت لتلتحف الليل وتنام على أمل النهوض مُبكراً لمواصلة مهمّة جاءت لأجل انجازِها والعودة الى مدينتها البصرة، حيثُ ستقف على تخوم شط العرب لتطلعه على اتمام وفائها بما تعهدت به .
تلك الليلة كان حزين يتلظّى على نارِ اسئلة الوصول الى قرارٍ بقطعِ طريقِ حمامة وايقافها وسؤالها عن سبب تغاضيها عنه .. وكان صديقُه الرسام يتململُ في فراشِه يبحث عن مدرسةٍ فنية يَدخلُها كي يؤرِّخ وجودَ الاثنين .
(2)
ذلك الضحى الخريفي، قبل خمسة عشر عاماً، شوهدَ مُختار المحلّة يصاحب امرأةً على مشارف الثلاثين وقد انهمكَ يحدِّثُها عن هدوءِ الزقاق وبساطة البيت ويدعوها بشيء من الحنان أنْ تتولّى هي ترتيبه وبإمكانها جعله بيتاً يجمع اركان العيش الهانئ والحياة المستقرة اضافة الى محدودية أجره الشهري، فالبيت تملكُه امرأة عجوز لا معيل لها سوى العيش على مبلغ ايجاره .
كان الكلام من نصيب المختار والانصات مقروناً بنعم، نعم من نصيب المرأة التي بدت مقتنعة جداً وراضية فهي لا تبغي شيئاً سوى العيش بهدوءٍ ودِعة .
اولج المختار المفتاح في عين القفل ووارب الباب . دخل الاثنان إلى حوش ينفتح على فضاء مشرق وغرفتين متلاصقتين وزاوية بمثابة مطبخ مكشوف يُعلنه السّخامُ المتشبث بالجدار والصاعد نحو السقف .
كانت احدى الغرف واسعة بحيث رسمت المرأة في مخيلتها اين يكون السرير واين تُنصب المرآة، وفي ايِّة زاوية تتَّخذ خزانة الملابس مكانها . خزانة لا تريدها كبيرةً انما تخصُّ شخصاً بمفرده وملابس محدودة العدد .
شكرت حنوِّه ومساعدته واستلمت المفتاح كآخر تعامل متبادَل .
وقبل أنْ يستدير خارجاً ويغلق الباب وراءه قال : لهجتُك بصرية ؛ أأنتِ من البصرة ؟".. قالت نعم .
لم يقف ليعلن حبّه للبصرة ويفضي بشيء مما تختزنه الذاكرة عن تلك المدينة الجنوبية المخضبة بحنّاء النقاء والرقّة والدِّعة، وانه قضى أعواماً هناك يشتغل في المَعقل مقاولاً يجلب الطعام لشركة توسيع محطة سكك المعقل، وإنه يكنُّ حبّاً للمدينة واهلها والطبيعة الحانية التي اغدقت عليهم البساطة فجعلتهم طيبين في كلِّ شيء ... فقط سلّمها مفتاح الباب وخرج وهو يُسمٍعها : " العيش في السماوة كالعيشِ في البصرة .. الناس هنا ايضاً طيبون " .
تحرَّكت وحيدةً وقد شعرت انها على موعد مع الاستقرار بعيداً عن مخالب العسَف .. دفقةُ مغصٍ تعتريها كلما تصورت انها ستبتعد عن البصرة ولا تدري متى تعود .
شرعت تطوف برويّةٍ تمسح خارطة البيت ابتداءً من السطح حيث الدرابزين المصنوع من الخشب واسياخ حديد كانت صدئة نزولاً إلى الجدار المفتتة بعض طابوقاته دلالة القِدم .. كان الوقت ضحى ونور الصباح في اقصى توهجه والشمس تسرِّب بعض من اشعتها على حافة الجدار المشترك مع الجيران .
دخلت الغرفة على يمينها وكانت كبيرة نوعاً ما قياساً لحاجتها ؛ غرفة تتقبل السرير والدولاب والمرآة ومنضدة تُراكِم عليها ما يزيد من حاجتها سواء كان بساطاً او وسادة او ملاءة، وهناك على الحائط الذي سيقابل السرير ستدق بعض المسامير لتعليق عباءتها وما يتطلب الحال .
تحركت للغرفة الثانية وكانت اصغر بقليل من سابقتها . لها نافذة بدرفة واحدة تنفتح على الزقاق لكنَّ حيطانها ما زالت تحتفظ ببياض الجص رغمَ اصفراره في اماكن متفاوتة . رأت أن زجاجة النافذة وإن كانت موحلة ستساهم في استقبال الضوء القادم من الزقاق .. خصَّصتها غرفة لتناول الطعام جاعلة نافذتها مثابةً للاستماع ومعرفة ما يدور في الزقاق .
تركت الغرفة فرأت أنَّ عليها الاستراحة قليلا فقد رمى بها قطار السريع القادم من البصرة في منتصف الليلة الفائتة في السماوة، وانَّها قضت الساعات المتبقية لحيان بزوغ الفجر وحلول النهار جالسة على مصطبة في الحديقة الصغيرة المجاورة لمبنى المحطة، وانّها قطعت الشوارع والطرقات طيلة فترة الصباح ومرَّت على السوق الكبير بحثاً عن بيت يناسبها قبل ان يسوقها الحظ إلى هذا البيت الهادئ والمناسب لفرد يبغي الوحدة .
نادت عليها دكّة السلم الصاعد الى السطح ودعتها للجلوس بينما تهيأت حافّةُ الدرجة التالية للاتِّكاء .. جلست مانحةً ساقيها حريةَ الامتداد الى امام والانبساط ريثما تشبع من الاسترخاء .. استعطفت اللحظة منحها حريةَ البكاء فطفقت تجهش، مُدينةً قدراً حتَّم عليها الهروب والتواري ودفعها الى الترحال والنأي عن مدينتها المستحمّة بنميرِ هناءِ الوداعة والطيب .. غذَّت باطنَ كفّيها بما استطاعت من دمع، ثم تمخَّطت بمنديل كان رفيقاً لها تولّى تشرّب ما ذرفته العينان طيلة وجودها في مقعدها بالقطار السريع وهي تعيش مع مَن خطفته اكفُّ التجني وقضت عليه ظلماً وجرماً ... تمنَّتهُ الآن معها في هذا المكان البعيد عن الغلِّ والخوف ؛ تمنَّته يعيد ادامة النظر في عينيها الوسيعتين بحدقتيهما السوداوين . وعاد اليها همسُه وهو يسبح في بحرِ السواد : مريم ! عيناك تقتلانني، يا حقيرة ." يشدد على كلمة حقيرة لا ليهينها انما ليفرغ ما في بحر روحه من أوار النار المُعتلِجة في قلبه لها كمفردة تعي معناها الخفي الباعث على الدلال والوداد الذي كالمطر مدراراً هطولُه .. في سِماعها المفردة منه لأول مرّة وهي تتمتم بوله وانتشاء " وليد .. وليد ّ..!" ظنَّته يستهينُ بها ويزدريها ؛ حسبته يمارس لون الرماد في تضئيلها . فنالها الجزعُ، وحقدت عليه لوهلة .. وهلةٌ استطاع بحدسِه ونباهتِه اكتشاف الدواخل المحتدمة . وقبل أن تدينه بسؤالٍ مُحرج احتضنَها، وقال : يا جنَّتي الغنّاء ؛ ما قلت هذه الكلمة البغيضة لديك ولدى الآخرين إلا لتقدير حبّي ولهفتي المهولتين لك ... اقولُها لابنةِ اختي الصغيرة حين تؤدي حركةً طفولية رائعة تذيبني حناناً وترهنني اسيرَ حركتِها الملائكية ...
لحظتها تراجعت ؛ ولم تقل له ما اعتلج من حقدٍ عليه في دروب اعماقِها المأسورة بحبّه .
قال : لن اكررها عليك إنْ ترينَ فيها خدشاً لمشاعرِك لكنّي سأبقى أقولها لابنةِ اختي الصغيرة كلَّما أدَّت حركةً تذهلني .
طالعت ساعةَ معصمِها فوجدت الظهيرةَ لمّا تزل بعيدة .
خرجت الى السوق لابتياع ما تجده ضرورياً : عفش للنوم ومرآة كبيرة للجدار ؛ مواد طبخ وعِدّة صحون ؛ خضار لتهيئة طعام ذلك اليوم ... وكان من اولويات اهتمامها شراءَ قفصٍ واختيار بُلبلٍ يُحسن التغريد ويجيده ليكون أنيساً لها . لكنّها اجَّلت الأمر بعدما اطمأنت لمن اخبرها عن سوق قريب لبيع الطيور والاقفاص . رأت انْ ستأتي به عصراً، بعد الغداء ؛ بعد محاولة الرقاد وقت القيلولة .
ولم تكن قد اعدَّت الغداء عندما طُرِقت الباب ووجِهت بامرأةٍ اربعينية تحمل صينيةً احتوت صحنَ رزَّ عليه نصف دجاجة مشوية وماعون مرق باميا وكاسة لبن زبادي، وباقة ريحان نَضِرة . قالت لها : هذا عربونُ صداقتِنا فنحن جيرانُك , واشارت بإصبعها الى البيت . اذا احتجتِ شيئاً فلا تتهيَّبي .
الغداء الذي تناولته كانَ شهياً ؛ وساعةُ العصر حيثُ برحت البيت وخرجت اثمرت عن قفصٍ معمولٍ من أعواد سعف النخيل وبلبلٍ نافرٍ برأسٍ اسود وابيض وجسدٍ رمادي .. بلبل ما أنْ علَّقت قفصه على الحائط المواجه لغرفتها وحرك رأسه يميناً وشمالاً لاستطلاع جغرافية المكان حتى اطلق تغريده كأنه يحتفي بالكينونة الجديدة ويسعد ؛ أو كأنه يبعث برسالة الى من ابتاعته بانه سيكون رفيقاً حميماً يعوّض فراغَ البعيد ويقلل من ثقلِ الغربةِ عليها .
سعدت لهذا الذي سيشاركها نهارَها واعلمتها مساحةُ الحوش الواسعة بضرورة تأرخة وجودِها في هذا البيت .
ولم يأت نهار اليوم الثاني إلا وفسيلةُ نخيلٍ تأتي بها وتغرسُها وسط الفناء الفسيح وتروح تسقيها يومياً مثلما تطالع تأثيرَ وجودِها كنخلة على بلبل مهنته التغريد ... ( انها تعيد اكسسوار بيتها في البصرة وترسم خارطته ليكون مقارباً للذي هنالك .. نزلت دمعتان ساخنتان على وجنتيها وهي تتذكَّر ) .
الذكرى بقدر ما هي لذيذة حين تتسلسل من دهاليز الذاكرة وتدخل بستان الوعي فإنَّها بلا شك تثيرُ الشجونَ وتقضَّ مضاجعَ الهجوع . لذلك كانت مريم تستدعي الصور والحوارات فتأتيها سريعة على جناح اللهفة .. يأتيها وليد ! .. تارة بالطلعة البهية يوم شاهدته لأول مرة بذلك الحفل البهيج ليلة تزوجت زميلتها في دائرة بريد العشار من ابن خالتها ودعتها لحضور الفرح ؛ وتارة أخرى وهو مُهشَّم الاعضاء وقد أغمض العينين كأنَّه يخفي احتجاجاً لعقوبةٍ تسببت بها أكفُّ التجنِّي .
كان تشعر أنَّ بقاءها في السماوة سيطول، وأنَّ عودتها الى البصرة صارَت من عِداد المستحيل . فوصولها إلى هناك يعني سقوطَها في براثن السلطة المحلية التي اصدرت أمراً بالقبض عليها .. وعندها ستطالها مخالبُ العَسَف هي الأخرى ... هذا الشعور جعلها تكرِّس فكرةَ البقاء والعيش والاندماج وإلا ستموت كَمَداً وحرقةً، وسيكون مآلها الانتحار كما انتحرت الكثير من بنات مدينتها إمّا اجباراً على الزواج أو لثقلِ فقرٍ مُدقع لا أمل في تجاوزه إلا بالدعارة ؛ والدعارة شيء مُشين لديهن او جرّاء ملاحقة سياسية .. لذلك قرَّرت من أول ليلة تصرفُها في البيت اتباع اسلوب التعايش وعدم الانعزال .
في الصباح اتجهت على هَدي عنوانٍ حصلت عليه من شقيقِ وليد فوجدت نفسها تقف أمام استاذ شاكر . رجلٌ ستيني تقاعدَ من سلكِ التعليم توّاً، قالت له اسمي مريم فاستقبلها بترحابٍ حالما قرأ الورقةَ وعرفَ الاسمَ المدوَّن فيها .. قال لها إذا رغبتِ انظمّي الينا في هذا المعمل المتواضع لصناعة القمصان والعاملات الخيَّاطات الخمس هنا سيكوننَّ زميلاتك ورفيقاتك في العمل .
بالعمل أُزيلَت اولُ عقبةٍ في مسارِ حياتِها القادمةِ المجهولة فانفتحَ امامَها بابُ الاستقرارِ الاقتصادي .
افتتح الاستاذ شاكر المعملَ اعتماداً على عاملاتٍ ماهراتٍ في الخياطةِ استطعنَ منافسةَ بضاعةِ السوق من القمصان . وكان المعملُ يستقبل مَن يأتي ليقدِّم اقتراحاً لقميص يبغيه حسب ذائقته ومواصفاته .. وقتُ العمل يبدأ من السابعة صباحاً حتى الرابعة عصراً ؛ تتخلله استراحتان الاولى في العاشرةِ لتناول الفطور ويأخذ نصف ساعة، والثانية في الساعة الواحدة والنصف ويأخذ ساعةً كاستراحةِ قيلولة .. ذلكَ كان لصالح مريم التي رأت فيه انصرافاً للوقت والتمازج اجتماعياً مع رفيقاتِ عملٍ وجدتهن الصديقات الحميمات .
ما تحصل عليه من دَخلٍ يعينُها على دفع ايجار الدار ومصروفات الطعام وما يفيض تصرف بعضاً منه على حلوى تبتاعها عند انتهاء العمل فتوزعه على أطفال الزقاق، ما خلق عادةً يوميةً لهم .. ينتظرون عودتَها من العمل وقد اشترت في طريقِها انواعاً من الحلوى والسكاكر .. صاروا يطلقون عليها العمّه مريم . يبهجون لمقدمِها حين يظهرُها فمُ الزقاق .. يشكرونَها بألقِ عيونِهم وبهجتِها وهم يفرّون سعداءَ بما استلموا منها .
غب زمنٍ زادَ على العامِ صارَ بيتُ العمّة دالةً واسماً لا يهرب من الذاكرات .
يطالع الاستاذ شاكر مريمَ فيجدها أصغرَ العاملات لديه .. فتاةٌ لا تتعدّى الثلاثين وتعيش وحيدةً ما جعله يُغدِق عليها حَناناً أوفر واهتماماً كبيراً اكتشفته زميلاتُها العاملات فبررَّنَ الأمر في نفوسهنَّ ولم يراودهنَّ شيطان الحَسَد . وهي في دورِها تكتشف كم هو رقيقٌ ودفيءٌ يُسهم بكل اندفاع لدعمِها ومساعدتِها .
لقد حدسَ أنَّ سرّاً يَكمُن خلفَ حضورها الى السماوة وتركِها البصرة ... ما كان ليجرؤ على استفهامها خشية احراجِها وجعلها تملّ العملَ فتهرب .. لذلك استثنى اي سؤال، جاعلاً علاقته بها كعلاقتِه بزميلاتها .
وكان ان استمرت معه ومع قريناتِها بتوادٍّ وألفة .
تُنتِج فتربَح، تُبدِع فتنالَ الثناء .
تستفيدُ من فراغِها بالتجوال في المدينة .
تعرَّفت على الفرات وكانت تقتنص وقتَ ما بعد العمل لتتَّجه إلى الجسر الخشبي كي تعبره لا لهدف الوصول الى مكان تقصده، بل لتشاهد الزوارق وهي تتهادى بانسيابيةٍ، والصيادين وهم يرمون الشباك الى الماء فتفزُّ في عينيها صورُ صيادي شط العرب يجوبون النهر في مهمّةِ صيد يومية، وتلك الزوارق المخصَّصة للرحلات النهرية .. تذكر، وهي تنتهي من عبور الجسر وتعود ادراجها، مواسمَ صيدِ سمك السبور القادم من البحر بأفواجٍ مهولةٍ فيسقط في شباك الصيادين فرائسَ سهلة يُغذّي المدينة ويُشبِع الفقراء . يومَها كانت اكبر سمكة سبور لا يتعدى سعرها الخمسين فلساً .
تستفيد من الفراغ لتتجوَّل في سوق المدينة المُسقَّف مُندسَّة بين المتفرجين والمتسوقين كي تستعيد حيويةً تحدُّ من اوارِ اعماقها المعتلجة . إنَّ الهمَّ لثقيل، وإنَّ الحزنَ لا ينضب . فلتتجوَّل إذاً، وتتجوَّل .. تدري انها ستعود الى البيت لتبدأ قصيدةَ الالم التي لا تنتهي، نادبةً اياماً ولَّت كانت تعيش فيها السعادة فأبى القدرُ إلا أن يغتالها بأيادي البشر القُساة .. تعود لتمارس فعلَ البكاء المر والحزن الذي لا تريد له الزوال، فليس بعد غياب وليد من سرور، والهناءُ مفردةٌ اخرجتها عِنوةً من قاموسِ حياتها .. صارت العودة الى البيت وصرف نصف الليل في البكاء وحيدةً عادة يومية مسبوقة برحلةٍ تأخذها عبر الازقة لتنتهي بالفرات . تنهمر الدموع من عينيها انهماراً وتنفلت من مساربَ روحِها شهقاتٌ تترى تُنبىء بحزنٍ دفين . هناك تتَّخذُ السلَّم المرمي نزولاً الى بساطِ الرمل فتدنو كثيراً من الجرف مُتسمِّعةً ومنصتة بشغف لحفيفَ الماء المار بهدوءٍ يحاكي فيه هدوءَ الطبيعة .. من الضفةِ الاخرى تأتيها اضواءُ مصابيحَ مستشفى المدينة، صفراءَ تسفحُ نورَها على عتمةٍ تتسيَّد المكانَ واشباحُ السكارى الخارجين من نادي الموظفين المجاور للمستشفى وهي تتمايل جرّاء خمرٍ عتعتهم .. اشباحٌ تخطو قليلاً ثم تتوقَّف فتسمع حواراتَهم مبتورةً وغير واضحةٍ تأتي سابحةً في الهواء . وهناك صفاراتٌ تئزُّ في اذنِ الليل يُحدثها الحرّاس المتوزعون في الاحياءِ يطلقونها لقائدِهم دلالةَ وجودِهم في قلبِ الواجب من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى تُنبِّه اللصوصَ إلى وجودِهم فتُفشِل خطَطَهم في السرقة .
وإذْ مرّت الاعوامُ وأخَذَها الشوقُ لأهلِها استبدلت حضورَها الليلي من النهرِ إلى محطةِ القطار حيث يلتقي القطاران السريعان القادمان من بغداد إلى البصرة ومن البصرة إلى بغداد منتصف الليل في محطة سكك السماوة فينزل الركابُ لفسحةٍ من الوقتِ يشترون وجبات الأكلِ السريعة او السجائر او يشربون الشاي والمشروبات الغازية .. هناك كانت تحضر فلا تنام .. تتَّخِذ مكاناً خفيّاً تطالع من خلاله وجوه الرّكّاب النازلين من القاطرات أو الذين وراءَ زجاجِ نوافذِها علّها تشاهد احد اقربائها أو من تعرفه يسكن في محلتها أو أحد موظفي البريد حيث كانت تعمل وتركته مُجبرةً حتى فُصِلت من عملها .. أخذت هذه العادة اليومية منها الاعوام . وكانت تعود خائبة، منهكة، لوعى . تدخل الأزقة الموحِشة وصولاً إلى بيتها . تدير مفتاح الباب وتدخل واغلب الجيران يسمعون صدى خطواتها في الليل البهيم فيتأسون ويتمتمون في سرهم أدعيةً تتضرَّع لله منحها مرادها ؛ فقد تحمَّلت بنظرِهم الكثير الكثير، ولاقت نتيجةَ العيش وحيدةً ما لا يُلاقيه جيشٌ من البشر همّاً وحزناً وفقداً وانتظار .
استحال استخراجُ البومِ الصور الذي جلبته معها في رحلتِها العسيرة ومطالعته صورةً فصورة من عِداد اثارةِ الشجن واستدعاءِ الغصّة .. صارت حين تخلع ثوبَها وتقف بمواجهة المرآة تشاهد قواماً ناحلاً يفترسُه الضمور، هي التي كان وليد يرجوها الوقوف أمامه كحواء عاريةً إلا من سحرِها وفتنتِها وجمالِها . فيقول لها بولعٍ : ابيعُ العالمَ كلَّه واشتريكِ .. أنتِ فينوسي، آلهتي التي أعبُد .. أنتِ ايقونتي وكتبَ هنائي .. جنَّتي اليانعة أنتِ .
تصرف الوقت حتى تنعس وتنام ... لقد نامت عديد المرات وخدّها على الألبوم المُشرَع الصفحات .. نامت ومصباحُ الغرفة في توهِّجٍ ؛ وبابَ الغرفةِ مفتوحٌ للريحِ والبرد وفي حالات للقططٍ المتسلقةِ الجدران، المتنقلة من بيتٍ لبيت بحثاً عن طعامٍ سائبٍ ؛ حتى اذا نهضت صباحاً اكتشفت أنَّها اعادت سلوكَ الليالي الفائتات .
هذا الصباح نهضت .. ايقظها تغريدُ البلبل وهاجمَ غرفتَها ضوءُ النهار .. طالعت الساعةَ المنضدية . وكان العقربان على السادسة والنصف .
تركت السرير ونظرت لوجهِها في المرآة . لم تُعِر هما للصفرةِ الظاهرة على وجنتيها ولا قالت هذه ليست فتاةً بعمرِ الثلاثين انَّما توجَّهت تغسل وجهَها وتتهيأ لإعداد الفطور .
كان فطورُها كما عوَّدَها وليد : شرائح جبنة وصحن زيتون مع رغيف خبز . صحبةُ ذلك استكانُ شايٍ ساخن .. كانا يجلسان متقابلين على منضدة يحتويهما كرسيين بلا مساند جلبها كي يغيِّرا من اسلوبِ تناولِ الطعام الذي عادة ما يكون على بساطٍ يفترش الارض . ممارسةٌ اعجبتها واحبَّتها . رأت في جلوسِهما متقابلين سلوكاً حضارياً يؤديانه بسعادةٍ ثم ينهضان هي تتوجّه إلى عملها، وهو ينشغل بالاتصال بمكتبه ومعرفة مجريات الامور .
ونهضت بعد تناولِها الفطور بغصَّةٍ ...
ارتدت ملابسَها وخرجت وقد ودَّعها البلبل بسيلٍ من الزغاريد والطيران النزق داخل القفص .
زيد الشهيد
...................
الفصل الثاني من رواية (الليل في نُعمائه)