نصوص أدبية

يا أعدل الناس في حبي

nisrin alahkafمذ ولجت هذه القرية لم يطرق أحد باب مكتبي وكأنني بصدد قضاء مدة عقوبتي في سجن انفرادي. أعلم أنّ مجال "الطب النفسي" لم يستسغ بعد ذائقة العديدين حتى أنهم يخالون  أن "المجنون" فحسب معنيّ

بهذا الميدان  أدرك جيّدا أنني جازفت حين  اخترت قرية بسيطة كهذه  للعمل  كطبيبة نفسية

لكنني مللت من ضوضاء المدينة وسئمت  مشاكل "البرجوازيين" الساذجة "

أذكر أن  مرأة في العقد الثالث لازمت مكتبي طيلة سنة بسبب

عقدة غريبة  جعلتها لاتستطيع ارتداء التنانير القصيرة نظرا

لاعوجاج بسيط في ساقها اليمنى  مما جعلها تمقت جسدها وتحجم حتى عن الزواج

عبثا حاولت تعزيز  ثقتها بنفسها وثنيها عن تهويل الامور وحين امتنعت عن متابعة جلسات العلاج اتصلت بها  مرارا لتخبرني أنّها عزمت على السفر لاجراء عملية تجميلية  فلعنت نفسي ودراستي وأقسمت أن أغادر هذه المدينة اللّعينة وأن أسخر وقتي للبسطاء

للذين أرهقتهم مشاغل الحياة وقصمت ظهرهم  ولم  أندم على قراري أبدا فلهذه القرية  سحر خاص والطبيعة ههنا تنبض جمالا

لكن يومي كان  يمر مملا متثاقلا حتى أن ولعي بمهنتي بدء بالخفوت الا أن "ياسمين" غيرت مجرى حياتي

 كانت  تقف أمام نافذة  مكتبي في كلّ صباح وتترصدني كقاتل مأجور وتهمس "ياأعدل النّاس في حبّي" عبثا حاولت الاقتراب منها

أو الحديث معها  حتى أنّني عزمت على البحث عن بيتها  ومعرفة حكايتها  لكن حدسي الانثوي أخبرني

أنها ستأتي بمحض ارادتها وستسرد لي عن طواعيّة حكايتها  هي تنتظرفقط  الوقت المناسب

أذكر أنني ذات صباح مررت بشيخ القرية وجمعني به حديث عن أحوال الناس وتدرجنا في النّقاش حتى

لمحت في زاوية بيته صورة لها "لتلك الفتاة" وحين سألته عنها قال بحرقة "أنها ابنته واسمها ياسمين "

كان يتحدث عنها بلوعة قاتلة حتى  كأن الكلمات تخرج من قلبه لا من فمه  ..لكن الذي أثار استغرابي أنّه يتحدّث عنها بصيغة "الماضي"

استنتجت أنّ خطبا ماقد وقع  فمن الطبيعي أن تكثر المشاكل بين الاباء وابنائهم في فترة المراهقة   خصوصا وأن المجتمع هنا محافظ جدا .

وحين هممت بالمغادرة وانعطفت باتجاه مكتبي لمحت طيفا ما  فتابعت سيري ودخلت  غرفة الاستقبال تلك التي "لم تستقبل"

بعد أيّ  مريض ..فجأة  وجدت فتاة في منتصف العشرينيّات   

تلج الغرفة بشبه ابتسامة ثم تتمدد على الكرسي باسطة كل مفاتنها  انّها "هي" ياسمين  . أذكر أنني ذهلت للوهلة الاولى

و حين  هممت بالحديث قالت " أنا احتاج الى الراحة فقد أنهكني التفكير"

أجبتها في استغراب "تبدين في كامل حيويتك مما تشتكين"

تنهدت بعمق ونظرت الي بكل ثقة " أشتكي منه.. "

-ممن "

-أنا عاشقة

سحبت بهدوء  الكرسي وأمسكت دفتري الصغير..ذهلت لجرأتها  أنّى لفتاة ريفية بسيطة أن تتحدث عن الحب دون أن

تحمرّ  خجلا دون أن تتلعثم ارتباكا !

-أتدركين يا دكتورة وددت لو أستعير سفينة نوح أو بساط علاء الدين أو حتى مكنسة مشعوذة

وددت لو أن لي جناحين كي أرى حبيبي كل يوم

قاطعتها "مالمميّز فيه ..حدّثيني عنه"

-"أنه أحبني كما لم يحبني رجل قط..كلما وددت الهروب منه وجدتني أتورط فيه أكثر وكأن قوة مغناطيسية تدفعني اليه

أتدركين ذلك الاحساس أن تستيقظي وأنت مدركة تمام الادراك أن شخصا ما في هذا العالم

ينبض قلبه باسمك مع كل زخة دم تتدفق الى وتينه ..

أنا يادكتورة لم أعش مراهقة صاخبة مثل فتيات جيلي حتى أنني أذكر قد وقعت في الحب مرة

وأقسمت ألا يدق قلبي ثانية   مضت سنوات ..سنوات عديدة وأنا خارج نطاق "الحب"

حتى أتاني القدر به ..فكان قدرا "عادلا" مثله

"أكان اسمه عادل .. ?-

ضحكت  حتى اشرقت شامتها  " بل هو أعدل الناس في حبي"

امم اذا ماالخطب  لازلت لم افهم سبب زيارتك لي -

-هناك يادكتورة مسافة أمان وأخرى مسافة وجع ..ماعدت أقوى على غيابه حتى لكأني أرى الكون  بدونه عبثيا

ككرة صوف تتلاعب بها القطط أنا أدرك بأنه يستميت في العمل حتى يجمعنا بيت واحد .. لكن...

أتعلمين "يقولون أن العذاب غريزة مرتبطة بالحب"  لكنه عذاب لذيذ  سينتهي لا محالة أليس كذلك

-حاولي أني تستغلي وقت فراغك في شيء مهم كالكتابة مثلا  ستشتت انتباهك عنه

ضحكت.. لو كانت الكتابة حلا مجديا ما اقتربت شبرا من مكتبك ولا جمعني بك لقاء

ضعي ذلك الدفتر جانبا ارجوك لا تهتكي سر اللقاء اطرقي السمع الي ولا تساليني

عن اية تفاصيل شرقية مقيتة  فالحب اسمى من ذلك واياك أن تكتبي لي عقاقير مهدئة فأنا فجنون الحب يرضيني

ولا تستغربي جرأتي فأنا امراة ..أنا عاشقة ولاشيء قادر على الوقوف امامي

الحب اما ان يكون طاقة..قطار في وجه التقاليد والاعراف أو لا حاجة لي به

قالت كلماتها هذه  وفرّت مسرعة  كفراشة تتحسس لأول مرة جناحيها تتوق الى معانقة السماء

ركضت نحوها ناديت باسمها "ياااسمين عودي" فتحلّق الناس حولي في ذهول  وماهي الا لحظات حتى

اقتحم شيخ القرية مكتبي ثم سألني بلهفة غريبة  "أكانت ياسمين هنا أخبريني ماذا رأيت تحديدا"

أجبته في استغراب "نعم  قد جمعني بها حديث خاص هلاّ أخبرتها أن تأتي  يجب أن أستكمل معها الجلسة"

-لن تعود..  "أجهش  بالبكاء"  لن تعود ابنتي أبدا فقد قتلت في جريمة شرف ..

تسمّرت في مكاني في عبثا حاولت استعادت أنفاسي  أمّا  'هو' فغادر مكتبي منتحبا  أمّا أنا فهرعت الى ذلك الكرسي

أقتفي أثرها ..أشتم عطرها  أبحث عن طيف فتاة عاشقة  جذبت انتباهي بقصتها  هنا حيث  يعد الحبّ اثما ..هنا حيث "يذبل الياسمين"

كلّما تسلّلت أشعّة الشمس الى نافذتي تذكرت ضحكتها  ..كلّما  فتحت الباب ازدان مكتبي بعبير الياسمين

أقسمت على أن سرد قصّتها ورفضت أن أغادر القرية كان طيفها كفيلا أن يحقنني بمورفين الحب وكان صوتها

يردّد  في كل صباح مع زقزقة العصافير "يا أعدل النّاس في حبّي"  

                                                          

 

في نصوص اليوم