نصوص أدبية

اللعينـة

jamal bothaljaأعترف أنني أحدثت المفاجأة التي كنت أعتقد أنني سأحدثها .. ليس بدخولي غير المعلن .. ولكن بإعلاني نعم (إعلاني) عن قراري هكذا ودون مقدمات ..

هكذا أحب أن أجعل الآخرين يهتمون بي دائما، وذلك بقذفهم بأخبار لا يتوقعونها على الأقل في البداية .

كانت غارقة في الرسم، حيث أنها لم تنتبه لوجودي رغم أنني تعمدت إغلاق الباب بشكل سبب بعض الفوضى .. لم أتعود أن أقتحم عليها عزلتها، فمن جهتها كانت تسعى دوما أن توفر لي ما أحتاجه قبل أن تحتضن عزلتها .. أما أنا، فقد حاولت أن أكون دائما ذلك الرجل المثقف الذي يحترم طموحات الآخرين .

أعترف في البداية أن زوجتي لم تكن كبقية النساء .. لم تكن تقف أمام المرآة إلا لضرورة ما .. منطوية بعض الشيء .. تتعامل مع الأشياء بشكل جدي للغاية . هوايتها المفضلة الرقص على أنغام الموسيقى الهادرة . لم تكن تزعجني في شيء، كانت تقضي معظم الوقت في ورشتها) وهي عبارة عن غرفة خصصتها للرسم (وربما ساعدها في ذلك أسفاري المتعددة .

لست أدري لماذا اخترت هذه اللحظة بالذات لتفجير قراري دفعة واحدة .. ربما أردت أن أفاجئها أنا دائما أحب إحداث المفاجآت، لقد ظلت الفكرة تلح وتلح، ولكن .. ترددي ظل يطاردني إلى حين ينفذُ تلذذي ..

بالأمس دعوتها للعشاء خارج المنزل، كان المطعم عبارة عن زورق تصارع إحدى جنباته أمواج البحر العاتية .. تحدثنا كثيرا عن الماضي .. عن الأوقات الجميلة التي ظللنا نجمع من خلالها أصداف المستقبل.. كانت من حين لآخر ترفع رأسها لترسم في ذاكرتي أجمل الابتسامات وتزيد لذتي تسلقا .. بعد عودتنا سألتها وأنا أهم بغلق الباب :

ــ كم لوحة جميلة ستنجب سهرتنا؟

ابتسمت .. ارتمت بين أحضاني، وانخرطت في البكاء .. ارتبكت .. هل علمت بقراري؟! سارعت لتذكر كل ما فعلت .. كل ما قلت .. أجمل النكت .. أبرع الابتسامات والتي اكتسبتها من رحلاتي المتعددة .. ما الذي يدفعها للبكــــــــــاء؟!

و أخيرا طمأنت نفسي أنها مجرد نشوة عابرة .. هل أفاجئها الآن؟ لذتي لم تكتمل .. بكاءها أطفأ توهجها رغم أنها في أخر ذوبانها ..

عندما استيقظت هذا الصباح، لم أجدها بجانبي .. لم أفكر أين تكون .. سأجد كل شيء محضرا ومرتبا بصورة دقيقة . أول ما فاجأني وأنا أقتحم وحدتها . لباسها .. لم أرها يوما بهذا الشكل .. الشعر ملفوف في عصابة قاتمة اللون .. ترتدي تبانا .. كانت حافية القدمين .. عارية الصدر .. هل علمت بقراري؟ هل هي محاولة لاستدراج نزواتي المتدفقة باتجاه هذه المعالم الساحرة؟ .. هل أبصق قراري دفعة واحدة ؟ لذتي لم تقض بعد على جرثومة التردد الذائبة بين ركام شتى الانفعالات وفجأة انتبهت لتلك الخطوط التي كانت تضعها بعناية فائقة وسط دائرة صغيرة .. لا شك أنها تحاول رسم صورة طفل !! هل بدأت تفكر في الإنجاب؟! حقيقة إننا لم نطرح القضية يوما، رغم مرور خمس سنوات على زواجنا .. كانت منشغلة بالرسم، وكنت منشغلا بعالمي اللامتناهي .. وبقينا بأحلام أول لقاء، والذي كان خلال معرض أقامته بإحدى مدننا الجميلة .. لم أكن أهتم بالرسم، لكن .. وضعيتي تفرض علي ارتيادَ مثل هذه الأماكن، وأن أجبر نفسي على الاستماع إلى كل التفاصيل المقدمة، وأن أتظاهر بالاهتمام إلى حد القرف .. دعوتها لتناول فنجان قهوة .. لم تمانع وكنت أمامها الرجل المثقف الذي يحترم طموحات الآخرين . ابتلعت كرات الهواء الخانق .. ارتعشت شفتاي لحظة لأجد نفسي أتمتم: " لقد قررت الرحيل " ..

نظراتها مثبتة على اللوحة .. يدها تضيف خطوطا أخرى أقل دقة .. أحسست بالغليان .. برعشة تعصر نبضاتي المتلاحقة .. لا شك أنها تسخر مني .. تحاول أن تبهرني بصمتها وغصة لذتي تخنقني .. الأشياء تتعرى .. تتحول إلى تماثيل تتهاوى في صمت .. زممت شفتي .. ضغطت على قبضتي لتنطلق الكلمات كالأحرف الأبجدية في الذاكرة الآلية " أنا لا أفكر في العودة سأستقر هناك " توقف كل شيء .. أحسست بدوار شديد يعصف بي .. لم أقاوم .. اندفعت للخارج في وقت كانت تحاول فيه جر نظراتها إلى وجهي ..

هكذا أنا، أحب أن أجعل الآخرين يهتمون بي، وذلك بقذفهم بأخبار مزعجة، لا يتوقعونها .. الشوارع بلا ذاكرة .. الأجساد تتحرك كالدمى في صمت .. السيارات بلا اتجاه .. بلا هدير .. أحس أن كل العيون تلتهمني .. كل الأصابع تشير إلي لتقول كلمات تطفئها الشفاه .. لو كنت أحمل مسدسا لفجرت كل هذه الرؤوس اللعينة، لتنتشر الأفكار على الأرض، وتزحف كالديدان .. حينها سأسحقها بحذائي وبدون ألم ..

أحس بيدي ترتفع قليلا .. إحدى السيارات تقف أمامي لتبتلعني في صمت وتنطلق كالسهم السائق لم يسألني عن وجهتي .. أو ربما أجبته دون أن أدري .. بعد لحظات سأجد نفسي خارج هذه المدينة باتجاه مدينة أخرى .. الأفكار بلا فواصل .. بلا ترتيب .. بلا انتماء .. سيجارة تسلم شرارتها لأخرى وكأنها تتناقل سر انطفاء لذتي، والتي طالما سلمتني إلى نوبات من الضحك الجنوني .. لم أكن أحلم .. لم أكن أفكر في مساحات الغد .. كنت فقط أجاري لذتي، اندهشت لوجودي في هذا المكان العابق برائحة التبغ والغارق في موجات من الألوان المنبعثة من أماكن مختلفة لم أستطع أن أتكلم.. وبقيت دون حراك رغم محاولاتها العديدة لاستدراجي .. لم تعد ابتساماتها سوىَ طيف يبعث على التقزز .. ولم يعد شعرها يستدرجني .. ولا جسدها المبلل بعرق الرغبة الملتهبة يعيد نظراتي التائهة، بعد أن افترسني الصمت وتعاظم إحساسي بأنني بلا مأوى .. أتراني كنت عاشقا ذاويا في فتنتها السرمدية؟أم أنه الإحساس بالسقوط في فراغات المجهول التي ظللت أفر منها. أنا لا أخجل من الاعتراف بعد أن أصبحت رهين لذتي اللعينة .. رهين قرار أعلنه لنفسي، لكن .. بمقدمات هي عصارة آلامي وأفكاري المشوشة، التي صنعت الأحداث الكبرى في حياتي .. لقد حاولت دوما أن أكون ذلك الرجل المثقف الذي يحترم طموحات الآخرين .. وربما استطعت أن أقنعها بجدوى بعض أفكاري الفوضوية لكنني لم استطع أن أقنعها بجدوى العيش بأفكار غير واضحة كانت منشغلة بالرسم .. وكنت منشغلا بعالمي اللامتناهي .. تحتضنني مدن أخرى وكل مدينة تحدثني عن عدد عشاقها وأحدثها عن عدد خياناتي ولما أعود إليها اهمس لها بكلمات الحب لترتمي بين أحضاني وتجهش بالبكاء .. وكانت دموعها تصنع أسعد لحظات حياتي .. ثم تبدأ حديثها عن آخر لوحة رسمتها .. ويبدأ تفكيري في آخر جسد أطفأت فيه جنوني .. وعن مدينة أخرى ترسمها لذتي .

الأنوار المتدفقة .. رائحة التبغ .. وهذه الموسيقى العابثة بمشاعري .. أحس برغبة كبيرة في تقيؤ جميع خياناتي .. في الصراخ بكل أشلائي الدفينة .. الانطلاق إلى حيث يشدني حنيني .. لا شك أن أناملها الرقيقة تضع الآن آخر اللمسات لطفل يفترض أن يعلن عن وجوده في لحظة ما، هي لن تستسلم للبكاء .. هي أقوى من الاعتراف بالهزيمة .. أما أنا، فأعترف أنني تقيأت كامل جنوني وطيشي، لحظة إعلاني نعم) إعلاني (عن قرار حاولت أن أثبت من خلاله أنني مازلت قادرا على مجاراة لذتي ..

عانقتني .. تشبثت بقدمي .. استعانت بثمالتي لتحول بيني وبين الباب .. ولكنني هذه المرة قررت، دفعتها بقوة، وانطلقت إلى الشارع متلمسا طريقي عبر الأفكار .. سأقتحم عليها عزلتها .. ستغفر لي جميع أخطائي ودون دموع، لأنني سأكون الوحيد المعبأ بكل الانفجارات . فتحت الباب .. اندفعت إلى الداخل واسمها ملء صوتي، ما كدت أفتح باب ورشتها حتى تسمرت في مكاني .

" حدثت الوفاة نتيجة نزيف داخلي حاد ... وهذه الحالة تنتج عن أسباب نفسية، والقلق الزائد عن الحد، ونظرا لعدم تزود الجنين ... وبالتالي يكون ذو العشرين أسبوعا قد توفي اختناقا .. ويتضح ذلك جليا من خلال اللون الأزرق .. "الأشياء تتعرى تتحول إلى مجرد تماثيل تتهاوى في صمت

 

قصة قصيرة بقلم : جمال بوثلجة

قسنطينة /الجزائر

 

في نصوص اليوم