نصوص أدبية

أحلام

saleh alrazuk2هذه فترة الاستراحة والألم من النهار. أمس استيقظت على هذه الكلمات. وهي  أجزاء من تمثال بذلت جهدي طوال الليل في إعادة  تركيبه. ولم تكن الكلمات  في ذهني فقط ولكنها  قفزت على شفتي أيضا.

لقد همست بها. إنه وقت الاستراحة والألم من النهار. ولكن من الظروف المعقدة التي مرت بها كل ساعات رقادي كانت مجرد أجزاء صغيرة، والآن لاأتذكر منها شيئا.

 وهي كلمات وليست أخيلة،  هذا ما أحلم به حصرا. وطوال عمري، لم أكن إلا صانع كلمات. من صفاتي الحميدة الأخرى التي اختفت أو تختفي، لا زلت متمسكا بهذه الصفة.

ومن عواقب ذلك، ها أنا أقترب من التشابه مع ذلك العجوز، الصائغ المشهور، والذي كان جاري في اليابان، من حوالي أربعين عاما مضت.

لم يكن يتذكر أسماء أولاده أو زوجته، ولا حتى اسمه. ولا يستطيع أن يتذكر كيف يعقد ربطة عنق، أو يربط حذاءه، أو يسكب كوبا من الشاي المثلج أو أن يجد طريقه إلى معتزله في كوخ خشبي في أسفل حديقته الضيقة المزدحمة بالنباتات.

 ولكنه يجلس يوميا على طاولته بشكل تجريدي منفصل عن العالم وأيضا عن ذكريات ثلاثة وثمانين عاما تراكمت فوقه، وهي الآن غير متاحة له، مع أنه لا يزال في حضرة مهنته، مع ما صنعته يداه، من أطواق وقلادات وأساور وحلي.

 وكنت أراقبه مفتونا ومعجبا به.

أحيانا، ينظر إلى الأعلى وباتجاهي ويمنحني ابتسامة سطحية وسعيدة.

ولكن هذا الصباح كل شيء مختلف، لم أحلم بالكلام وإنما بالصور. وواحدة من تلك الصور استمرت معي، حية جدا ولا أزال أشاهدها في كل تفاصيلها الدقيقة بعد أن شعرت بدقات الساعة وفتحت عيني. إنها صورة لموجة- مثل قوس في شرفة، منحوتة من ألواح الخشب، ومعظمها أصابه التفسخ. كانت تشرف على منحدر مثل مخبأ، حيث أن قمم الأشجار متهدلة وتلمس الأرض. وحاجز الحديد له لون أزرق مخضر، ولكن الدهان كان متشققا ويقشر.

ووراءه ملحق لبيت المزرعة، بغرفه المتشابهة ونوافذه الفرنسية. وكان النزلاء في الملحق يحتفظون بستائرهم مسدلة حتى في النهار، باعتبار أن أي شخص على الشرفة يمكنه أن يراهم.

ببعض المجهود نفضت الصورة من خيالي، كانت فخا ولها محاذير ومخاطر كامنة. ثم سقطت، ولم أغادر السرير بالمجالدة، واستندت بيدي لأتوازن، وكانت الأرض تئن تحت أقدامي حتى المطبخ لإعداد شاي الصباح لزوجتي. من شهور انتقلت إلى غرفة النوم في الطابق الأسفل، حتى لا تحرمها هلوساتي الليلية من النوم، فقد كنت أهمس بتلك الكلمات اللامتناهية طوال الليل وألفت الانتباه إلى ذهني المهزوز والمتعب بحثا عن الصمت الضروري. سألتها: "كيف الحال لديك؟".

نظرت إلى الأعلى كأن غريبا يتطفل عليها وقالت:"أنت تعلم كيف هو".

بلى، أعلم كيف الحال. فقد سمعت مرارا كيف هو. ساقان متعبتان. ألم يزحف في الظهر. وبعوضة تطن في أذنها اليسرى. وعوضا عن أن أحلق ذقني وأستحم فورا، أعود إلى السرير وأتمدد عليه. ولا أكلف نفسي عناء جر الأغطية. فأنا لا أهتم بالبرد. وأغلق عيني. وأعكف على ذاكرتي الباهتة عن حلم الشرفة كي أستعيدها....

على الشرفة جلس صبي في الثالثة عشرة على كرسي قابل للطي ومصنوع من القماش. الوقت بعد الظهر. ومن بعيد يمكنه أن يسمع صوت والدته وهي تلعب ببيانو بلييل الطويل في مزرعة أردينيز. وغالبا ما كانت تشكو، حتى للمزارع البلجيكي وزوجته، أن البيانو غير جاهز. كانا ينظران بحيرة، كأنهما لا يفهمان كلامها، مع أنها تتكلم بلغة فرنسية فصيحة، لكن تتخللها لكنة إنكليزية ثقيلة. ثم يهز أحدهما كتفيه، ويبتسم ويقول شيئا مثل "حسنا مدام..". ولكنهما لا يفعلان شيئا للبيانو، مثلما لا يفعلان شيئا للصنبور الذي ينقط في المغسلة أو للستائر، التي يتقصها مشبك، ولذلك كانت في الفجر تستيقظ قبل موعدها ولا سيما في الصيف حتى لو أنه وقت العطلة والاستراحة. كان أخ الولد الأكبر قد خرج، وبيده البندقية، ومعه المزارع الملتحي المتحفظ. وعادة يعودان وبيد كل منهما على الأقل مجموعة من الأرانب. ولكن الولد يكره لحم الأرانب الذي يحبه الآخرون.

تناول مقدار لقمة ملء الفم، ثم نحاها إلى أحد الجانبين- وقال لأمه أنا لست جائعا وتكلم بصوت حانق حينما سألته أمه لماذا لا يأكل، والآن وهو على الشرفة وصل لنصف الأعمال المختارة لتينيسون، والمجلد بجلد أنيق، وكان قد ترك والده الذي وافاه الأجل مؤخرا هذه النسخة. لو أنه حي، سيمضيان وقتهما في فندق مرتب لا في بيت المزرعة، بتوصية من أحد أصدقاء الوالدة المدمنين على لعبة البريدج، باعتبار أنه بيت مرتفع القيمة. ولاحظ في تينيسون أنه شخص مهووس بالكلمات. بظهورها على الصفحة، والتدرج الحاد في معانيها، وعلاوة على ذلك رنينها ثم الصدى الذي تخلفه بعد ذلك، كان بينهما تضامن في الهوس بالكلمات. أما أخوه البالغ من العمر سبعة عشر عاما والمشارف على أن يكون ضابطا من خريجي ساند هيرست، والمرشح للموت على شواطئ النورماندي، كان يسخر من ولعه بتينيسون. ويقول بلهجة عامية وميلودرامية وساخرة:" تعال إلى الحديقة يا مود". هناك شيء تهكمي في اسم مود، حتى الصغار يمكنهم ملاحظة ذلك.

كانت شمس المساء في عينيه. وسمع رصاصة بعيدة، فغضن وجهه وهو يتخيل الأرنب يقفز في الهواء ثم ينهار على الأرض الصلبة للحقل الجاف الذي تشويه حرارة المساء اللاهب. وسمع صوتا يتكلم وراءه. كان عميقا ومرتجفا، بلكنة ألمانية. ولم يسمع الصبي خطوات تقترب، لأن الرجل برتدي حذاء بالمطاط.

 "ماذا تقرأ؟".

حرك الصبي رأسه. ولاحظ الرجل المفتول العضلات، بوجهه المسطح الغريب الملامح ويديه الكبيرتين الملوحتين بالشمس، والأظافر التي قضمها هذا الصباح عند الإفطار. وبعد أن دخل الغرفة الضيقة والطويلة، انحنى الرجل وقال بصوت ساخر وثقيل:"مرحبا، يا سادة، مرحبا يا سيدات". ولاحقا، مرت من الباب زوجته بمظهرها القلق والرقيق وبثوبها القطني الأزرق الشاحب. ولم تنطق بكلمة لتحيي الموجودين المجتمعين، وإنما بانحناءة طفيفة ومترددة بالمقارنة مع تحية زوجها.

مد يده لها. وتناولتها بنظرة امتنان وتأمل. ثم فجأة غمر الوجه المضطرب شيء من الحبور. وفيما بعد علمت الأم من زوجة المزارع أن الزوجين في شهر العسل. وأضافت زوجة المزارع:"جاءا من دوسيلدورف، وكلاهما يعمل بالتدريس". انحنى الرجل على الصبي. ونظر إلى الكتاب.

"شعر؟". قال ولا بد أن الرجل أدرك أنه شعر من طريقة ترتيب السطور على الصفحة.

هز الصبي رأسه.

"من هو الشاعر؟".

وكانت الكلمات تخرج من تحت شارب الرجل بلهجة رسمية مستغربة.

رد الصبي:"تينيسون". كان صوته متوترا. ربما تصور أنه يرد على سؤال صعب في امتحان المدرسة. وكانت الإثارة تتعاظم لديه، كأن سربا من النحل يطن في داخله.  وأردف:"هل تعرف شعره؟".

نفى الرجل برأسه وقال:"آسف، أعرف هايني، هل سمعت بهايني؟".

"لم أسمع به، كلا".

"شاعر جيد، جيد جدا، عبقري، يجب أن تقرأه".

"ولكن لا أتقن الألمانية".

"اقرأه بالإنكليزية، متأكد له ترجمات".

وزاد انحناء الرجل على الكرسي. ثم انتبه الصبي ليد الرجل وهي في جيب سرواله. ولم يستطع أن يصرف نظره عنها. كانت قريبة جدا من كوعه. وكان الرجل قد انتبه أن الصبي ينظر إلى يده وما تحاول أن تفعله، فانتقل بخطواته إلى كرسي بعيد ثم عاد وهو يحمله. وضعه بقرب الصبي وجلس عليه، ووضع ساقا فوق ساق. وشرعا بالكلام.

سأل الرجل الصبي عن عائلته، ورد الصبي أن والده، ذكي، ومتماسك، ولم يمرض أبدا حتى وفاته فجأة، كان موته قبل الأوان، بسبب نوبة قلبية، ثم تكلم عن أمه، كانت نصف أمريكية ولعبت لفترة قصيرة أدوارا على خشبة المسرح. وتحدث الرجل عن حياته وذكر أنه مدير مدرسة ولديه هوايات رياضية. فقد درّس الجمباز، وعنده أمل أن يدخل فريق الجمباز الألماني ويشترك بأولمبياد عام 1936، ثم ضحك وتهدل كتفاه، في آخر لحظة...

قال الولد:"أنا لست بارعا في الرياضة، ميؤوس منه، لكن أخي هو الرقم 15 في لعبة الروكبي في المدرسة. ولديه مهارات رائعة".

ضحك الرجل وقال:" نعم، نعم!. أرنب للغداء".

لاحقا أنبأ الرجل الصبي أنه في شهر العسل. ولم يفصح الولد أنه يعرف ذلك مسبقا. وأخبره الرجل أن زوجته نائمة في الفرفة فوق والتفت برأسه إلى الأعلى ونحو إحدى الجهتين.

فهي لا تنام جيدا في الليل.

هل هي بحاجة ، كيف نقولها، لجوها.

هي معلمة، وابنة مدير المدرسة أيضا. تقوم بتدريس الرسم. وهي فنانة جيدة، ولا سيما بالألوان المائية.

ثم انحنى الرجل إلى الأمام، وعقد يديه بين ركبتيه، وسأل: ما اسمك؟.

"إيفلين".

"اسم غريب! لم أسمع بمثل هذا الاسم من قبل".

"يوجد كاتب مذكرات إنكليزي، عاش من فترة طويلة. اسمه إيفلين. جون إيفلين. كان والدي يكتب كتابا حوله حينما ولدت".

"اسمي غوتز".

"غوتز". ارتاح الولد لهذا الاسم. كان له تماسك متجانس وصلابة تراهما على ملامح هذا الإنسان الغريب.

"تبدو كأنك ألماني".

غمرت الدهشة الولد وقال:" أنا؟ ألماني؟".

عينان زرقاوان. مثل البحر. مثل المحيط الأطلسي. وشعره أشقر. أشقر!. وبتمهل مد يده. ولامس الشعر لفترة وجيزة. ولمسه مجددا. وربت عليه.

"عينان زرقاوان، عينان زرقاوان، عينان زرقاوان".

وصاح صوت مرتفع ومشحون:"غوتز!". وكرر النداء. وتبعه كلام بالألمانية. ابتسم وقال:"Meine Frau، زوجتي. اعذرني". ووضع يده قليلا على كتف الولد. ثم عبث مجددا بشعره، وهذه المرة بقوة، تقريبا بعنف. وتحركت جمجمة الولد تحت أصابعه الغريبة. كأن موجة كهربائية مرت فيها. ابتسم وقال:"إيفلين. يا له من اسم غريب. اسم جيد. أعجبني".

ثم ذهب بخطواته إلى الطرف الآخر ودخل من النافذة الفرنسية إلى الغرفة حيث زوجته بانتظاره.

بعد ذلك تكررت لقاءاتهما ولكن لفترات قصيرة. وأصبح الولد يمضي معظم وقته على الشرفة يقرأ. وينتظر بصبر. وبين حين وآخر يطهر غوتز، وبالعادة من النافذة الفرنسية. وتكون الكرسي قرب الولد، فيقف غوتز بجواره وينحني ويداه عليها ثم يجلس فرقه. ويكون لديهما أشياء كثيرة للكلام، وغالبا يقاطعهما الصوت المرتفع والمشحون. ويبدو للولد أن النداء "غوتز، يا غوتز" يائس. فيتنهد غوتز في هذه الحالات، ثم يضحك بإحراج وهو يضع يده على الصبي، ثم ينسحب بسرعة. وهو يقول:" النساء، النساء، صعبات المزاج". ويتابع الضحك وهو ينهض. وتستمر المرأة بالصراخ:"غوتز، ماذا تفعل".

وفي إحدى الأمسيات بعد العشاء، عزفت أم الصبي خماسية شوبان بالبيانو القديم وجلس أخوه على ذراع الكنبة المتهدلة يغازل ابنة صاحب البيت ذات الصدر الكبير والوجنتين الحمراوين، نهض الصبي، وأصبعه بين صفحات الكتاب الذي يقرأ فيه، وغادر الغرفة ذات السقف المنخفض والمختنقة برائحة غبار نفاذة وشذا الزهور الميتة المهملة في إناء للزهور استقر على خزانة ازدحمت عليها أشياء وصور غاصت في أطر يعلوها الصدأ.

كانت الصالة تسبح أمام الغرفة بالفوضى. ووراءها ثلاثة أبواب، واحد منها يفضي إلى الغرف في المبنى الأساسي، وواحد يقود إلى  شرفة الملحق، والأخير إلى دورة المياه. وكان غوتز ينتظر في الصالة الصغيرة. واعتقد الصبي أنه يجلس خصيصا بانتظاره. ثم أدرك أنه بانتظار زوجته، الموجودة في دورة المياه. ابتسم له غوتز، ومد يده يدعوه للاقتراب.

تردد الصبي، ثم فجأة جاهد غوتز نفسه وقبض عليه. وبفورة مفاجئة ضغط شفتيه على عنقه، ثم على جبينه، وثم على شفتيه. وحاول الصبي أن يهرب منه، ثم استسلم له، في البداية مضطرا، ثم بعاطفة استولت عليه مثل موجة ترتفع نحو السماء دون إنذار وتسقط إلى الأسفل في بحر هادئ.

وأعقب صوت المياه في دورة المياه قرقعة. فتراجع الرجل، ودفع الصبي بعيدا عنه. وسقط الكتاب من يد الصبي ووقف. وظهرت المرأة الألمانية. وتأملت الولد ثم زوجها. ولاحظ الصبي، مع أن وجهها مغطى بالمساحيق كالعادة، أنه توجد مناطق محمرة على ذراعيها العاريين وعلى أحد طرفي حلقها.

مد غوتز يده لمزلاج الباب الذي يفضي إلى الشرفة. وأشار للصبي، ثم انحنى قليلا فيما زوجته تخفض رأسها وتسبقه بالمرور. وتبعها دون نظرة إلى الخلف.

في اليوم التالي غادر الزوجان الألمانيان. كان طريقهما إلى دسلدورف بعيدا. وحينما تفحص غوتز السيارة، وهي مرسيدس قديمة، ولعله اشتراها مستعملة، انضم له شقيق الصبي. لم يكن مهتما بالألمانيين ولكن بالسيارة. وساعد في نفخ أحد الدواليب. ثم سأل إن كان بمقدوره أن يقوم بدورة سريعة بها. وسأله الألماني هل لديه رخصة قيادة. فهز رأسه. ابتسم له الألماني وقال:"آسف". وتمنى الصبي لو يبتعد أخوه عن غوتز. وكان المزارع وزوجته غاضبين من الأخ، لأنه دون علمهما صحب ابنتهما إلى الحانة في هان سور ليسي وأعادها في ساعات الصباح المبكرة. ووصف الأخ البنت للصبي أنها "شيء يشتعل بالحرارة". في تلك الليلة، تقريبا في منتصف الليل، زحف الصبي خارج فراشه، وترك أخاه الذي يشخر ممددا على الملاءات الرطبة بالعرق، وسار على أطراف أصابعه إلى الشرفة. كان الليل يتحرك بكسل. وفي كل الحالات، كانت تعصف به عاطفة تمنعه من النوم. نظر من فوق حديد الشرفة وتنفس من الهواء. ولكن هذا لم يهدئه، حتى أنفاسه كانت تحرقه. من مسافة بعيدة اقتربت منه أصوات زاعقة. هل هو عصفور؟. حيوان؟. شيء شرير، وحتى أنه مخيف. يشبه ارتطام كرسي هزاز، بعد تضخيمه. ووراءه سمع صوتا آخر. لف جسده إلى الخلف. في ضوء القمر، شاهد غوتز وكان يرتدي بيجامته فقط، حذره بوضع أصبعه على فمه. ثم اقترب وقبض على يد الصبي بيده. وقال له:" تعال".

في الطرف القصي من الشرفة، تجد سلما ضيقا ولولبيا. ولم يكن الصبي يراه، ناهيك أنه لم يستعمله أبدا. هبط غوتز بهذا الاتجاه كأنه قريدس بحري وحرص على أن يلتفت ليأخذ نظرة من فوق كتفه. وتبعه الصبي، باستسلام وبلا تفكير ولكن يشوبه الحذر. لا بد أن غوتز اكتشف هذه المنطقة تحضيرا لما سوف يحصل بعد هنيهة. وكانت هناك تلة تغطيها القاذورات، وتعلوها أيضا كنبة مكسورة وتندلق منها خصل شعر حصان. ومعها حامل دولاب دون الدولاب الدوار. مع كومة من الصحف القديمة، ملتصقة بالرطوبة ومحزومة بحبل من الشعر.

في الضوء المبهر والمدهش الذي يسكبه القمر لم يكن الصبي قادرا على التعرف على كل شيء.  وهناك باب، بقبضة لماعة. وضع غوتز يده المحروقة بالشمس وبالأظافر المقصومة على القبضة وفتح الباب. ثم التفت برأسه وابتسم. هناك سرير حديدي عليه فراش مبقع، قال غوتز فيما بعد، وهو يعقد  حبل سروال بيجاما الصبي بتمهل وحرص، كأنه يتعامل مع طفل رضيع:"لا أستطيع أن أنام معها إلا إذا فكرت بك. فقط هكذا. ومع ذلك أشعر أنني بحالة صعبة".

في تلك اللحظات شعر الصبي أن تلك الكلمات خيانة ولا تنقصها القسوة وهي أكثر خطورة مما حصل على السرير.

في وقت لاحق سألته عن عنوانه، وفي البداية كان يبدو غير راغب بكشفه لي، قال:"ليس لدي ورق، هل عندك ورقة؟". نفيت برأسي. "هل تستطيع أن تتذكره؟". "أعتقد ذلك". ذكره لي، وكرره مرة أخرى. وقال لي:"هل حفظته؟". فذكرته أمامه، قال:"تمام!". وضحك وأضاف:"آه منك يا إفلين، سأفتقدك، سأفتقدك". وجعلت الصيغة الزمنية التي استعملها الأمر  أكثر اهمية. وأن انفصالنا قد بدأ بالفعل.

"سأكتب لك، هل ستكتب لي؟".

"ربما" فضحك، قلت له:"أنا أمزح، طبعا، لو كتبت لي سأرد".

"لقد أخبرتك بعنواني، هل ستتذكره حتم".

"كلا، كلا، عليك أن تكتب أولا! فذاكرتي أحيانا تخونني".

حدقت به. ثم اقتربت منه وأمسكت بذراعه، كأنني كنت أغرق وهو الذي ينقذني. مال نحوي وطبع شفتيه لآخر مرة على شفتي. "حينما أفكر بك، بك فقط، يمكنني أن أنام مع زوجتي". بتكرار تلك العبارة كلمة كلمة تقريبا والتي ذكرها قبل قليل، شعرت بالانتصار وبالضياع، والآن لا ينتابني ذلك الشعور السابق بالخطيئة. ولأن الرحلة بعيدة، غادرا باكرا، في الخامسة صباحا. استيقظت وسمعت أصواتهما. أعلى من الهمس بقليل، كانا يجران الحقائب، حقائب كثيرة وكبيرة. وصعدا إلى السيارة. ألقيت ساقي خارج السرير وفكرت أن أهبط لتقديم المعونة. ولكن استلقيت مجددا على السرير. لو أنه وحده، طبعا كنت سأهرع إليه. ولكن لم أكن أود رؤيتها، أو حتى التفكير بها. حينما أفكر بها، تلك المخلوقة المسكينة بالذراعين النحيفتين والوجه الذي تغطيه المساحيق، أحاول أن أصرف تفكيري إليه.

بعد أحد عشر يوما، غزا الألمان بولونيا. وكتبت له رسالة في إثر رسالة ولم أحصل على جواب لأي منها. وأصبحت ذكراه مثل صورة أخذتها أمي خلال تلك الرحلة في بلجيكا: مرتعشة، مصفرة وباهتة.

وبعد الحرب بسنتين انتسبت لمدرسة صيفية في جامعة غوتنغين.. وهناك التقيت بطالبة من غيرتون، كانت في صفي، جميلة الطلعة وذكية ومثيرة جنسيا، وفصيحة بالألمانية. واعتقدت أنني أحببتها. قلت لها:"أود لو أزور دسلدورف لأتاكد أن شخصا من معارفي لا يزال على قيد الحياة".

"ألماني؟".

" نعم، ألماني".

"حسنا، ما المانع".

في الظروف العادية مثل هذه الرحلة تكون مستحيلة. ولكن لا توجد ظروف عادية معها وكذلك لا يوجد شيء مستحيل.

وبمعونة من ابن خال مهم لها، هو كولونيل في البعثة الاستعمارية، رتبت للعطلة وحصلنا على إاذن بالمغادرة من المدرسة الصيفية من أجل الرحلة التي تقاطعها مرارا وميلا بعد ميل أرض محروقة وضائعة. وأصرت على مرافقتي. قالت"ستكون تسلية ممتعة".

وبواسطة حصافتها وفتنتها وجدنا أخيرا الشارع ثم البيت- وبعده بناية متداعية كانت في السابق مدرسة. في تلك المدرسة المتهدمة كان غوتز وزوجته يعملان بالتدريس. البيت، بيتهما، كان متهدما أيضا. في لندن، حيث واصلت والدتي وأنا الحياة طوال الأزمة، كنت أشاهد بمزيج من الرعب والألم بيوتا مشابهة. ظاهرها مسود، وحدودها مكسرة ومسننة، وأجزاء من ورق الجدران تتدلى من الجدران. وشعرت بذلك الرعب والأسى، بشكل أعمق وأكثر كثافة. ربما مات هنا. وقلت ذلك لرفيقتي في السفر. وردت بلا إهتمام:"أو في مكان آخر".

وهي من سألت في  المسكن المأهول عند بوابة المدرسة المتداعية. وردت على الجرس امراة عجوز ترتدي الوشاح، وكان فمها مفتوحا وفيه عدة أسنان متبقية وكانت أصابعها كالحة ودهنية. نظرت إلينا من تحت نظرات غريبة، بدت لنا مزيجا من الحيرة والعدوانية. وقالت إنها لا تعرف شيئا عن سكان البيت، فقد اختفوا قبل وصولها. بعض الناس يموت وآخرون يغادرون. وكانت لهجتها كئيبة.

واستيقظت من ليلة على كلمات غريبة، تعود للظهور باستمرار، فأنا الآن أصارع من أجل البقاء في حالة من اللامبالاة ثم من أجل تدبر معنى لما يحصل. تلك العبارة الغريبة لا تزال تعود لمسامعي، كأنها جرس يدق بجنون ودون توقف. جرعت قهوتي. ووضعت يدا على عيني المطبقتين ثم ضغطت أناملي عليهما حتى انطلقت شرارات منهما من خلف الجفنين. نعم، وبدأت أفهم معنى تلك العبارة.

وصلت إلى قمة السلم في بيت المزرعة البلجيكية حتى قبل أن أتسلقه، بقية حياتي كانت منضبطة، وحذرة، حتى جلست هنا أرشف القهوة، فالرجل العجوز لم يعد يفتنني، وتابعت شرب القهوة من فنجان رقيق في المطبخ. كان باردا مع أنني أشعلت التدفئة المركزية. في نهايتي توجد البداية. وتعود العبارة نفسها، طوافة على موجة ذكريات عائدة بالإكراه. وكما أفعل في أحلامي، أصحح العبارة: في بدايتي توجد نهايتي. وأهم شيء حصل في حياتي انتهى حينما بدأ.

"إيفلين". زوجتي تنادي لأحمل عنها الصينية وأساعدها لتستحم. "إيفلين". نبرة صوتها، المستوية، واليائسة، بلا معنى مثل نداء زوجة غوتز، وعي تدعوه إلى غرفة النوم قبل ستين عاما، ولدى التفكير بغوتز- سواء هو ميت من فترة بعيدة أو أنه هرم أكثر مني- يمكنني أن أتابع الطقوس للعناية بها وتأدية واجبي نحوها.

أقول:" أنا قادم، ها أنا قادم".

 

بقلم:  فرانسيس كينغ

ترجمة: د. صالح الرزوق

...................

فرانسيس كينغ Francis King : قاص وروائي بريطاني مولود في سويسرا. من أهم أعماله رواية (النشاط الليلي). وهذه القصة مترجمة من مجموعته "الشمس تسطع على الحديقة". منشورات بان ماكمليان.

في نصوص اليوم