نصوص أدبية

قسم أبقراط

saleh alrazuk2بعد وفاة الوالد أصيبت الوالدة بنزلة صدر حادة، وأعقب ذلك بوادر الضغط وخطر القلب. ولما كنت حديث العودة من أوروبا كنت أقطن في بيت بمفردي مع أنني عازب، وأستهلك معظم ساعات اليوم في العيادة. مع المرضى في الصباح والمساء. وفي الليالي المتأخرة والموحشة أوزع الوقت بين نادي الكتاب أو المنزل قرب موقد النار. أجلس هناك على الكنبة لأستمع لشوبان وأتصفح جرائد المساء، بينما ألسنة النار تلقي على وجهي ظلها الأحمر، الشاحب، الدافئ.

طلبت للوالدة عن طريق مكتب خاص عمالة آسيوية، تحديدا آنسة مثقفة وتتقن فن الإسعافات الأولية. أقول "فن" لأن مدبرة المنزل هي ملاكه الحارس مثل الممرضة التي هي ملائكة الرحمة..

ولم يتأخر الجواب. لا زلت أذكر أنه في مساء يوم الأربعاء رن الهاتف، وحولت الممرضة المكالمة لغرفة الكشف، حيث أضع على الجدار قسم أبقراط وصورة تقريبية لأفلوطين.

**

كانت السماء تمطر حينما قاطعت روتيني اليومي، وذهبت إلى بيت الوالدة من غير ميعاد، وأبلغتها النبأ السعيد. قلت لها وأنا أقف عند طرف الطنافس الممدودة: في الغد ستصل آنسة من تايلاند. ويمكن أن تدبري حياتك معها.

قالت: ولكن كيف سنتفاهم. بأية لغة؟.

قلت وأنا أفكر بهذه المعضلة: بالإشارة إن كانت لا تعرف ولا كلمة..

لقد فاتني بالفعل أن أسأل إدارة المكتب عن حسن نطقها. هل تعرف شيئا من لغتنا، أم أنها سوف تستعين بحركات الأصابع وغمزات العيون؟؟.

انسحبت من بيت الوالدة، عرش الأرملة كما أقول. فقد كانت فيه ملكة غير متوجة، ولا تسمح لأحد بالتعدي على القوانين التي تسنها.

وحتى صباح يوم الخميس لم أتوقف عن التفكير ببيت الصبا والشباب.. ذلك البيت الذي يتألف من قلب دافئ وذكريات سعيدة وباسمة ولحظات يأس وانكسار أيضا. ثم عزمت أن أتوجه إلى العيادة. ومن هناك اتصلت بالمكتب لأملي عليهم العنوان كي يتولجوا الموضوع. واستغرقت بالعمل. ولا أتجاوز الحقيقة لو قلت إنني بعد تلك الترتيبات نسيت المسألة من جذورها. فقد كان حماس الشباب وتفانيهم هو الذي يضيء لي معالم الطريق، ولم يبزغ الأمر في ذهني مجددا حتى ظهيرة يوم السبت. وآنذاك كان يوجد مريضان فقط في صالة الانتظار، المكان المخصص لعذاب الشك وللمرحلة التي تسبق حسم الأسباب، هل هي آلام الجسد أو آلام الروح؟.

طلبت من الممرضة مهلة خمس دقائق، ثم طلبت رقم الوالدة. كنت بغاية الشوق لأستمع منها للتفاصيل، كيف يسير روتين البيت بعد دخول الخادمة إليه، هل انسجم اقتصاد شرق آسيا الطبقي مع نظام جباية الزكاة الصارم والذي يهدف لمحو الفوارق؟. رن الجرس ولم يرد أحد. أصابني الجزع قليلا، فسحبت الهاتف ووضعته على طرف النافذة. كانت ماكينة الشارع أو دولاب الحياة الذي يدور يساعد على تهدئة الخواطر، ثم طلبت الرقم مجددا، وهنا رد صوت الوالدة وهو يلعلع وقالت لي: أين كنت كل هذه المدة؟..

قلت لها: أولا أخبريني هل وصلت الخادمة؟..

فتابعت وهي تنوح: هذه عار وليست خادمة..

قاطعتها لأسأل: ألم يعجبك شكلها؟!.

ومن دواعي الارتياح أنها قالت: كلا. الحقيقة لم أنتبه للشكل. ولكن سلوكها...

تدخلت مجددا وأنا أشعر بعقرب الساعة وهو يزحف ويذكرني بنداء الواجب وألم المرضى المبرح، وقلت : تقصدين اللغة؟...

ولا شك أن الكيل طفح لديها، وشرعت تخور مجددا، وتقول بنوع من اللؤم: متأسفة لأن ابني لا يفهمني. أقصد الأخلاق يا دكتور. أقصد الأخلاق..

وهنا علمت أن لهذه المعاناة وجها آخر. وتذكرت أنها تشكو من القلب، ولا حظت أنني مضطر للتعامل معها بشيء من الحسم، فقلت لها: اشربي حبة من الدواء الأصفر وفي غضون ساعة أكون عندك.

وكانت الحبوب الصفر متميزة بلونها، تشبه لون أوراق الأشجار الذابلة، وتزيل التوتر عن عضلات القلب، وتؤخر القدر.

**

في ظني كنت بحاجة لنصف ساعة لكل مريض.. هذا لو لزمت الأعراض صورة شعاعية، أو أقل من ذلك لو هو فحص سريري. وفي ذلك اليوم لسوء الحظ حضر مريض إضافي بحالة إسعاف، وفرض عليّ شرف المهنة أن أقوم بالمهمة. وأعقبه آخر كان في العيادة في الصباح، وحصل معه لبس أثناء شراء الأدوية من الصيدلية، وعاد بناء على إرشادات الصيدلي لأقيس له الضغط الشرياني ولأستبدل أحد المسكنات. واستغرق هذا أيضا وقتا مستقطعا. ولاحظت أنني لم أصبح طليقا من الصدرية البيضاء والسماعة التي ألفها حول رقبتي إلا قرابة مغيب الشمس، حينما تحول الكوكب الملتهب لقرص أصفر ميت..

وهذا يعني ساعتين فوق مهلة الساعة التي قطعتها كوعد على نفسي.

**

مباشرة تركت العيادة في عهدة الممرضة وأسرعت إلى الوالدة. وحينما ضربت الجرس لم ترد التايلاندية، ولكن أمي من فتحت الباب.. بشحمها المترهل ولحمها الضعيف، بوجهها المخنوق الأزرق الذي تكالبت عليه العلل وتحول إلى منحوتة من عظام يكسوها قليل من الجلد.

سألتها وأنا أركز عيني في عينيها: أين الخادمة؟..

بلعت ريقها وقالت باختصار: صرفتها....

وهنا بدأت أشم رائحة الأزمة، مع أن الطنافس كانت في مكانها ممدودة، نظيفة، وتلمع، والأضواء كلها تشتعل كأننا في مناسبة قومية، كأننا في حفل لإحياء ذكرى عصر التنوير الذي صدّعوا به رأسنا مع أنه جمود وتبعية وحرمان من التجديد. وعوضا عن الانسياق وراء عواطف التأنيب واللوم والدخول في جدال نهايته باب مسدود قلت لها:  لماذ؟ بحق الله لماذا؟..

كنت أعرف كم هي الوالدة عنيدة وصعبة المراس.

**

في ظرف دقائق وصلت لمكتب العمالة. وكان ذهني يشتغل على النحو التالي: أن أرطب خاطر المدير، وأعود وفي يدي التايلاندية. ولكن وضع الرجل على وجهه قناعا يابسا، وقال: إنها ترفض العودة. ولا يوجد لدينا بديل.

سألته بعد أن أسقط في يدي: وهل شرحت لك وجه الخلاف؟..

قال، وهو يزم فمه، ويعبس فيما بين عينيه: للأسف كلا. ولكن تركت عندي جواز السفر الذي مزقته المدام.

لم يكن مهما أن أصحح للرجل معلوماته. ثم ما شأنه إن كانت المخدومة هي المدام أو الوالدة. كانت الكلمة الآن لنتف جواز السفر الممزق إربا إربا، كانت النتف الممزقة تفصح عن خطورة الأزمة بلغة فصيحة وبيان مشرق. وهكذا لم أجد بدا من الانسحاب، وكنت طوال طريق العودة إلى بيت الوالدة أشعر بوطأة الاندحار وهوان الموقف المخزي الذي وضعتني فيه.

 

 قصة: صالح الرزوق

...............

حتى هذه اللحظة لا أعلم وقائع ما جرى.

رفضت الوالدة أن تناقش معي الموضوع. ولم ترغب بفكرة وجود شغالة في بيتها الطاهر .. النظيف.. الذي تسكن فيه الملائكة كما قالت. وكلما طرحت عليها تكرار المحاولة كانت تقول: والله لا أريد أجنبية بوجه أصفر مثل قشرة البصل في بيتي...

ثم تضيف وهي تضحك بطريقة فقاعة أوشكت أن تنفجر: مستحيل....

 

 

في نصوص اليوم