نصوص أدبية

الغرفة (13)

saleh alrazuk2توقفت أمام فندق على الطريق. فقد كنت عائدا من رحلة استجمام وداهمني الليل. وبسبب العمر كنت أعاني من مشاكل في النظر. قلت في نفسي: درهم وقاية خير من قنطار علاج.

لا أحد يمكنه أن يضمن المفاجآت التي يخبئها له الظلام. أليس كذلك؟..

طبعا حجزت غرفة. ووقفت أستمع لدقات الساعة حتى أنجز الموظف الشاب ملء الاستمارات. ثم حصلت منه على مفتاح أصفر. وسمعته يقول مع ابتسامة عريضة: غرفتك رقم 13 يا سيدي. ليلة سعيدة.

وأشار لمصعد يلمع. كان كل شيء في هذا الفندق يلمع. حتى وجه الموظف كان مشرقا كالبدر المنير. أما الغرفة فقد كانت مجهزة بنافذة تشاهد منها الحديقة. ويمكن أن تقول إنها خميلة أو بستان، فيها كل أنواع الزهور، من الأضاليا وحتى التيوليب، من الجوري الأحمر وحتى زهرة الصبار. وهناك حمام مجهز بمغطس، ورف بسيط عليه عدة مجلدات، توقعت أنها دليل الهاتف أو ربما الكتب السماوية. فالفنادق مجهزة لكل الأديان ولكل أنواع البشر. ولكن تأكدت أنها رواية (الأخوة كرامازوف) لديستويفسكي.

لماذا هذه الرواية الكئيبة والمعقدة؟.

سألت نفسي وأنا أهيئ الحمام. ولكن ما شأني، لتكن (الحرب والسلام) أو (ذهب مع الريح) أو حتى (البحث عن الزمن المفقود).

إنها رواية.

نعم هي شيء غريب لكن هذا شأنهم!!.

وغطست في الماء الدافئ، وغسلت متاعب الطريق، ثم سقطت في النوم، وشاهدت حلما عجيبا عن أهوال القيامة.

وسألت نفسي: لم هذا الكابوس؟؟. لا يمكنك أن تحدد. فالإنسان كتلة من المشاعر والأحاسيس المكبوتة. ومساحة المجهول في حياتنا أكبر مما تتخيل، وبالأخص لو أنك تعيش في البلاد المتأخرة. عفوا. البلدان النامية، حتى لا نجرح إحساس أحد.

***

حين فتحت عيوني كانت الغرفة تسبح في الظلام. نظرت للساعة، وكانت العقارب تشير للثامنة، موعد العشاء على الأغلب. ضغطت على زر النور ولم يعمل. وهل هذا وقتك؟. قلت بنفسي. وبدأت ألوم إدارة الفندق. كل شيء هنا يجري بانتظام مثل تيار الماء في نهر وديع إلا النور. وأسرعت نحو الباب لأطلب المعونة. لكن لم يتحرك المقبض بيدي. جربت عدة مرات. عبث. بلا نتيجة. كان صامدا كأوتاد الجبال. هل هذا معقول؟. أضفت بلسان حالي، وركلته بقدر ما أستطيع وأنا أصيح: اللعنة. اللعنة.

وبدأت أبحث في هذا الظلام عن الهاتف. وكان على كومودينة بقرب رأس السرير. حملت السماعة، وضغطت على الرقم صفر، فهو للاستعلامات في كل أرجاء العالم. وسمعت صوت الشاب ينساب في الأسلاك.

سألني بصوته اللطيف: بماذا أخدمك يا سيدي؟.

قلت له بما أمكن من هدوء: النور مقطوع في الغرفة 13. هل يمكن استبدال الزجاجة؟.

لم يرد فورا. ثم قال بصوت بارد: نحن نغلقه في السابعة مساء يا سيدي.

وتوقعت أنني لم أفهم. كررت وراءه: تغلقون النور مساء؟.. في السابعة؟..

قال : بالضبط.

وهنا أفلتت أعصابي وقلت له: ما هذا الهراء؟. لا يمكن أن تتركوا الناس في الظلام دون سبب.

لكن الشاب رد بعبارة واحدة: هذه هي التعليمات. آسف.

وأغلق الخط.

لم أستوعب ما يجري. لقد تحول الفندق فجأة لجزء من الحلم الغريب والمخيف الذي شاهدته خلال النوم. وبدأت أفكاري تهدر داخل عظام الجمجمة..

لقد أغلقوا النور. ليكن. ولكن لماذا يوصدون الباب أيضا؟. حتى أن الموظف لم يترك لي فرصة لأطلب أن يفتحه. عدت إلى الهاتف وضربت بيدي على الرقم صفر. ورن الجرس في الأسلاك، ثم سمعت صوت الشاب كأنه عزف على بيانو، وهو يقول: أية خدمة يا سيدي؟.

قلت له: هذا أنا مجددا.

رد بنبرة آلية: نعم. النزيل في غرفة رقم 13.

قلت له: هل تعلم أن الباب مغلق؟.

قال بصوت محروم من العاطفة: هذا صحيح يا سيدي.

- ولكن لم أفعل ذلك. هل يمكن أن تفتحه؟.

- أبدا. لا يمكن.

- نعم؟..

انفجرت بالسماعة، ودقات قلبي تعلو. وفاجأني بقوله: نحن نغلق الباب مع النور.

وشل جوابه لساني. ثم وجدت القدرة لأكرر وراءه: تغلقون الباب أيضا؟.

رد بتهذيب: لدواعي السلامة.

ولم أعرف ماذا أقول. هل هذا مجنون أم أنه غبي على شاكلة المعتوه في رواية دستويفسكي المشهورة؟؟. ووجدت نفسي أطلب المدير لأتكلم معه، وكنت أفكر ربما لديه توضيح. تفسير. شيء يمكن أن أفهمه.

دون تعليق ضغط الموظف على الزر، وسمعت قرص الهاتف يدور، وأعقبه صوت مخملي، كان المدير امرأة. مدير هذا الفندق المشؤوم امرأة. وبادرتني بصوت رزين: كيف يمكن أن أخدمك يا سيدي؟.

اغتصبت ضحكة جافة وقلت لها: هل لديك علم أنني محبوس في غرفة معتمة؟.

ردت بتهذيب: هذا غير ممكن. كل النزلاء ضيوف عندنا.

سألتها بتهكم:  وهل تحجزون ضيوفكم في الظلام؟..

تبدل صوتها فجأة وقالت: أرجو أن اكون متعاونا. لدينا إجراءات أمان في الليل.

وانفجرت من الغيظ وأنا أقول: ولكن أريد أن أتناول العشاء. أكاد أموت من الجوع.

قالت فورا: لقد تأخرت يا سيدي. موعد العشاء في السادسة.

ثم أغلقت الخط. وفعلا بدأ الخوف يزحف إلى صدري. لقد كانت مثل الموظف. معتوهة وعصابية. ضربت السماعة بالجهاز، وفكرت أن أرى هل يمكن كسر النافذة لأهرب. وفي هذه اللحظة تحرك قفل الباب. التفت إليه وشاهدت خيال مسخ قصير زري الهيئة وبيده جاروفة. فقطبت ملامح وجهي كأنني أسأله: ومن أنت؟.

بادر إلى القول: أنت السيد فلان؟.

قلت له: نعم.

قال: لديك مهمة حفر خندق أمام  البوابة.

- حفر خندق؟. قلت وأنا أتميز من الغيظ.

رد بصوت آمر: إنها رغبة الشرطة بسبب الطوارئ، وعلينا أن ننفذ.

ومد يده بالجاروفة.

مع أننا لم نكن في حالة حرب، والحدود باردة، ولم تخرج منها رصاصة من سنوات، حملت الجاروفة دون اعتراض وتحركت خلفه. وكنت أفكر.. لا جدوى من الكلام مع هؤلاء المعتوهين. إنما هذه النهاية تفتح لي بابا للخلاص. على الأقل سأغادر الزنزانة، وربما أجد الفرصة لأقتل هذا المسخ وأفر منه.

ولكن أمام البوابة شاهدت زرافة من البشر. امرأة في الثلاثينات، وشاب بالعشرينات، وثلاثة أو أربعة عجائز، ومعهم شخص بذراع واحدة. وكانوا بنصف ثيابهم ويحفرون الأرض، ويثيرون حولهم زوبعة من الغبار. وكان القدر يشد وثاقهم بسلاسل تشعر بها لكن لا تراها بالعين المجردة. وهكذا لم أجد مفرا من التنفيذ. وبدأت أضرب الأرض معهم دون مزيد من التفكير..

 

د. صالح الرزوق

تشرين الثاني 2017           

         

 

 

في نصوص اليوم