نصوص أدبية

في بيت النار

saleh alrazuk2وقف أبو تهامة بين شجرتين في التلال. وقال لي: هذا المكان مناسب.

كانت مهمتنا تتلخص باختيار نقطة للمراقبة. يعني تجهيز حفرة لراصد.

نظرت إلى الأمام، كنا نعلو على سطح الأرض المنبسطة بحوالي ٢٥-٣٠ مترا، وكلها أمامنا على امتداد البصر. . مربع معشب تغطيه نباتات ميتة بسبب الغبار ودخان البارود، وخلفه أرض صخرية، لم تلمسها الفلورا بحياتها، فهي مجرد صخور عرضة للريح وتغمرها الشمس. وتبدو من هذه المسافة كأنها أطلال.

أومأت له برأسي.

يعني موافق.

فوضع الرشاش على الأرض، وأخرج من الجعبة فأسه الصغير، وبدأ يوضب الحفرة. ولم أجد بدا من مساعدته. كنت أمهد له التراب تارة بيدي، وأحيانا بحربة حملتها في الزنار. كل عسكري بيننا يحمل مثل هذه الحربة في جراب من الجلد، مع مطرة للماء. وكنت ألف مطرتي بقماش الكتان الرقيق، وأبلله كلما أمكنني، وهكذا أشرب كأنها مياه في ثلاجة.

فجأة توقف أبو تهامة وهو يلهث، ونظر إلى يديه. كانت أصابعه متورمة، فهو لا يعرف كيف يعمل بالأرض. كانت مهنته في المالية. موظف روتين يقضم الأرقام، ولا يرفع رأسه من فوق السجلات.

قال لي: كلّت يدي من هذا العمل.

وبدأ يسكب الماء على يديه ليبرد التهاب أصابعه...

جلست على الأرض بانتظاره، وجعلت ألهو بالحربة، وأغمس رأسها في التربة. هل كنت أود أن أقول شيئا لهذه الأرض؟. إننا نخسر أنفسنا بالتدريج، وإننا نسرق أرواحنا قبل أن نموت. لو فقد أحدنا حياته لن يخسر شيئا، فكلنا جثث هامدة، ومحرومين من المشاعر. بعد ذلك رفع العبوة وشرب قليلا، ببطء ليربح بعض الوقت. وأعرف السبب. كان ذهنه مشغولا بتأخر الرسائل من أهله. أضف لذلك مشكلته مع الخطيبة. بعد تبادل الخواتم بدلت رأيها. لدى الكلبة وفاء أكثر من أية امرأة.

***

بعد أن التقط أنفاسه تابعنا تجهيز الحفرة. فسألته: هل تعتقد أننا سنشتبك الليلة؟..

قال وهو ينفخ من التعب: في أغلب تقدير..

- وهل ستكفينا هذه الدبابة؟. سألته وأنا أشير إلى خطوطنا في الخلف. حيث ترابض دبابة يتيمة مع مدفع م.ط.

قال:ولم لا؟ إنها تي 72.

وانتبهت أنه لم يفهم الإشارة. فالرامي مشهور بعدم التوازن. ولا أعلم كيف صرح له الفخص الطبي بالهدمة الميدانية. لقد كان عقله أصغر من دماغ عصفور.

أخمق وسريع الاشتعال.

و استحق منا عن جدارة لقب العسكري "بنزين".

أردفت وأنا أردم أطراف الحفرة: لا أقصد الدبابة نفسها ولكن القاذف..

رفع عينيه ونظر لي نظرة جافة. لم أعلم ماذا أراد أن يقول. لأنه بعد أن تقابلت نظراتنا. هز رأسه وتابع تعميق طرف الحفرة. هنا يجب غرس مسند الرشاش. على أن تهبط قوائمه في هذه النقطة. لنضمن تحسين وضع الفوهة والسبطانة . هكذا سوف تلقي الحمم كأنها ترمي بحمولتها من طائرة.

***

لم يعجبني تجاهله للرد. وكنا قد أشرفنا على الانتهاء من عملنا.

فسألته: هل تشفق عليه..

وهنا رد بتذمر: من فضلك.. هل يمكن أن تصمت حتى ننتهي من هذه الحفريات..

ومع أنه أخجلني وجرح كرامتي، لذت بالسكون.

في الواقع عذرته. فقد لاحظت أن جلده ينسلخ عن عظام يده. الأرض لا تحتاج لعمالة فكرية. إنها بحاجة لهمة رجال. همة رجال فقط. ثم فجأة توقف أبو تهامة عن العمل وتلفت حوله. كانت الكتيبة وراءنا بحوالي ثلاثمائة متر، وتفصلنا عنها أشجار حور باسقة، كل واحدة يبلغ طولها 150 م. لها جذوع فضية بلون الصخور المترامية في أسفل السفوح. أما فروعها وأوراقها فهي بألوان رمادية، مغبرة، متأثرة بشمس آذار. إنه فصل الربيع. ولكن للأسف هو ربيع أسود.. ليس فيه ولو زهرة واحدة. ثم رأيته يخفض رأسه ويهرول مسافة عشرين ذراعا. لم أعرف لماذا. هل لمعاينة السفوح أم لحاجة مخجلة وملحة؟..

واغتنمت الفرصة فاختلست نظرة من المشهد المنبسط أمامي. كانت الطبيعة تصلي بخشوع، ولكنها صامتة على نحو مريب، لا صوت انفجار ولا هدير طائرة بين الغيوم..

ثم لاحت في الأفق بعض سيارات الجيب ذات الدفع الرباعي، فاستعملت المنظار لأعرف هويتها، فقد كان الغرماء كثيرين مع أن الحرب هي نفسها. ورأيت رايات لم أشاهد مثلها في حياتي. لونها أبيض وعليها نقاط صفر.

سألت أبا تهامة: هل تعرف لمن هذه البيارق؟..

ولم أسمعه يرد. فناديت عليه: أبو تهامة..

ولم يرد أيضا. فالتفت لأرى لماذا يصم أذنيه. ولم أجد له أثرا. كانت السفوح نظيفة، بلا إنسان، لا وجود ولو لشخص واحد، وتغطيها دوائر معشبة قليلة تتمايل مع النسمات.

سألت نفسي: ترى أين ذهب هذا المغفل وتركني؟؟!!!!...

ثم أخذت وضع الرامي منبطحا، ووضعت باحتراس طلقة في بيت النار...

 

د. صالح الرزوق

 

 

في نصوص اليوم