نصوص أدبية

انهيار جسد على حافة الطريق

MM80جلست تشكو حالها الى نعجتها الوحيدة والهزيلة التي تؤنس وحدتها بكوخها الضارب في الكبر. سنوات وهي تنتظر يوم الفرج بين كتل من الثلوج أيام فصل الشتاء وجفاف غاضب يبتلع كل القرية أيام تهل بوادر الحر والهواء الثقيل على القلب والنفس. قبل أن تنجز الطريق بقريتها المنسية بين الجبال والأشجار. لم تكن "أمي الكبيرة" تقوى على الصعود ان هي نزلت الى السفح لتبحث عن العشب لنعجتها ولجلب الماء بجسد نحيل فقد انسانيته وكأننا أمام هيكل عظمي نفي منذ زمن بين الجبال.. كانت تقضي يومها في المشي والاستراحة بعدما تجمع العشب بيد نحيلتين وتضعه فوق ظهرها المقوس بفعل الزمن وتجد بعدها صعوبة في الحركة بكل حرية. يمضي نصف اليوم وهي ما تزال تئن من التعب مع ابتسامة غريبة تستوطن ملامحها الباهتة، هل هي ابتسامة الرضى ام السخرية من قدرها. لما تصل الى كوخها البئيس والحنون، تنفرج أسارير وجهها وتبدأ في النداء على نعجتها كأنها طفلة كانت تنتظرها بعدما أنهكها الجوع.

بعد توالي الحملات الانتخابية المليئة بالوعود الجميلة والرنانة، ظلت قرية "أمي الكبيرة" على حالها وساء وضعها وكبر الخوف بداخلها على نعجتها ان هي رحلت أو هربت. لا تفكر الا في نعجتها التي تطعمها بما استطاعت أن تجلبه لها من عشب وماء، وتتكور بجانبها وتتحول الى كتلة صغيرة من اللحم والعظم محاولة اسكات صوت الجوع الذي يستوطن جسدها الهزيل. لكن في يوم غير معلوم، استيقظت "أمي الكبيرة" كعادتها وهي تنادي على نعجتها، سمعت لغطا كثيرا بالخارج لم تألفه من قبل.

 اشرأبت بعنقها الى الخارج وهي تتساءل بعينين خائفتين، كانوا هناك، يتحركون يمنة ويسرة ويأمرون ويصيحون وأطفال القرية وأشياخها ونساءها وراءهم يريدون ان يفهموا ماذا يحصل بقريتهم ولقريتهم. تسللت بجسدها النحيل بين الجموع، سألت أحد الرجال الواقفين ويظهر من لباسه أنه مسؤول مهم عما يحدث. أجابها دون أن يلتفت اليها أو يجاملها بابتسامة ملفقة تعيد الحياة لوجهها الحزين بالتجاعيد الذي هاجمتها قبل الأوان:

-غادي نصوبوا ليكم الطريق اللي صدعتونا عليها.

عادت أدراجها وهي تتمتم ببعض الكلمات غير المفهومة لكنها توحي بالفرح والبهجة. دلفت داخل بيتها تبحث عن نعجتها، حضنتها وقبلتها قالت لها:

-فرحي وسعدي، صافي غادي يديرو لينا الطريق وما نبقاش نتعطل عليك. كل نهار غادي تكون عندك الماكلة و الماء.

ابتدأت الأشغال ليل نهار. وفرح أهل القرية الصغيرة وتحول ورش البناء الى وليمة كبيرة، لا يكاد يمر يوم واحد دون أن يتجمع أهلها ويتقاسمون أكلهم وشربهم الذي تتوفر عليه بيوتهم الصغيرة والحزينة مع العمال، تعبيرا منهم عن شكرهم البسيط والطيب وانشراحهم لهذا الاهتمام الجميل والذي طال انتظاره. حتى بيوتهم طالها الفرح وعلقت الأعلام واستحالت القرية الى ورش لا يهدأ ولا ينام. وتوالت الشهور وانتهى المشروع. رحل الجميع وعاد للقرية هدوءها وبساطتها لكن مع نسمة حرية تهب من جهة الطريق الجديد الذي سيوصلهم الى باقي المناطق المجاورة.

"أمي الكبيرة"، خرجت في ذلك الصباح البارد وتحت أمطار كشلال لا ينبض، فرحة بالطريق وسعادتها أكبر أنها ستجلب العشب والماء في مدة قصيرة. ودعت نعجتها على أمل اللقاء في وقت قصير. وجهها بشوش يتمدد ويتقلص ويحدث ألوانا مزركشة بفعل وجود وشم بارز على دقنها وبين عينيها.

لم تجد الطريق، كأنها كانت تحلم خلال تلك الأيام الماضية. جلست القرفصاء، تحاول أن تحلل بطريقتها ما يقع أو وقع لها. قامت تقدمت قليلا، لا أثر فقط شلالات مائية رهيبة تنزل من أعالي الجبال والوضع كما كان. جلست مرة أخرى، دمعت عينها التي كانت عند أول اشراقة الصباح تحمل فرحا لا يسع العالم كله. تحولت مآقيها الى بركة مائية تحاكي البرك التي أمامها بفعل الشتاء الغزيرة. التفتت الى الوراء، تريد العودة لكنها همست بصوت مقهور ومفزوع:

- نعجتي، غادي تموت. ما بقاش عندي العقل. واش أنا تنحلم.

عادت الى بيتها لكنها لم تجرأ على الدخول. فنعجتها تنتظرها. فهي جائعة لم تأكل منذ البارحة. جلست قرب كوخها متكئة عليه. تائهة.

في تلك الأثناء، سمعت أصواتا آتية من مكان الطريق الذي غادرته للتو وظنت أنه أنجز. قامت دون أن تفكر. تجمهر كل أهل القرية. الكل يستنكر ويستغفر الله.

فهمت فيما استطاعت أن تفهمه أنها لم تكن تحلم ولم يضيع عقلها ولن تضيع نعجتها لأنها ماتزال بكامل قواها العقلية بل نعجتها ستضيع بقلة العشب ونبوض الماء. وأن الأمطار التي هطلت بقوية خلال الأيام القليلة جرفت الطريق ومحت كل أثر يذكر وأحدثت ثقوبا كبيرة لم تكن موجودة في السابق أصبحت تهدد حياة السكان.

 

 أمينة شرادي – المغرب

في نصوص اليوم