نصوص أدبية

فص ملح وذاب

bakir sabatinبعد أن توقف المرشح عن إلقاء كلمته الطنانة الرنانة؛ وسط دوي التصفيق الذي تصاعد في الأجواء، هز رجلٌ مثقفٌ رأسه المصدوح مستسلماً لنوبة سعال شديدة قرصت بطنه الضامر، حيث بدا وهو في هامش المهرجان كمن أطل برأسه بغتة من ركن مظلم قصيّ، ليطرح سؤاله المستفز الذي خرج مع السعلة مدوياً فالتقطه أحد الجالسين إلى جواره: " اللعنة على زمن الخصيان! أيظن صاحبنا بأن القناع قادر على حجب الحقيقة المرّة!ّ! هراء.. فملابسه الأنيقة لا تنسجم مع تاريخه بيننا، تمعن في ربطة عنقه وهي تتحول في خيالي إلى حبل مشنقة أنيق!! هكذا تصبح الصورة مقنعة أكثر! هو ذاته.. كان أحد تلاميذي الفاشلين، والآن هو المرشح للانتخابات النيابية، المتنطع بالرياش التي يرتديها، والمغسول بطهر الكلام الذي يتشدق به المتزلفون! مع أن الكبار يشهدون على سيرته القذرة، آه منك أيها المرشح القوّاد (الأزعر) أبو الريش، صاحب الذراع الموشومة! فكيف تصفقون له!"؟!

لكن الرجل استدار بوجهه المحتقن إليه، وهو يحرره من اللثام المغموس بالعرق، فأخرس المثقفَ بعينيه المتوقدتين متوعداً:

"في النهاية ما دام هذا المرشح والذي تنعته بالفاسد من عشيرتنا فهو إذن شريف رغم أنفك! فمن دسّك بيننا يا هذا حتى تفتري على الرجل! لا تدعني أحرض شباب العشيرة عليك فيخرج من بينهم من يجعلك تسف التراب بفمك، لا تعتبر نفسك خارج القانون السائد بيننا لمجرد أنك معلم متقاعد، فمعظم الشباب هنا حانقون على مدرسيهم وقد تركوا المدرسة صغاراً لمعاندة ظروف الحياة الضنكى!".

التجم قلب المثقف، فأسقط على الأرض ما تعثر من كلمات أفزعتها الريحُ بينما هي تتلوى على طرف لسانه الملذوع، ثم داس عليها مهزوماً والغيظ يعتصر قلبه الواجف.

لكن المثقف لم يستسلم وقد تقلب السؤال المرّ في رأسه كالصداع، حتى وجد الحيلة في إعادة طرحه من جديد على ذات الرجل، بخبث ودهاء، وهو يتفحص بعينين يقظتين الأرض اليابسة التي ظهرت من بين أقدام الجموع البشرية المكتظة على الكراسي، عله يوقظ ضميره ولو للحظات:

"ألم تكن هذه الأرض الأميرية التي تقيمون عليها مهرجانكم موقوفة على وعود النواب السابقين؛ لتحويلها من قبل البلدية إلى متنزه لأطفال الحي!؟".

فأكلت الدهشة حماسة الرجلن وامتعض من سؤال المثقف فيما أخذ يحدج المرشح بنظرات الخيبة، والذي تحول في الخطابة إلى شكسبير عصره، وتدلى لسان الرجل كأن فرط كلامه الملظوم تطاير مع الرياح، متحرراً من عقدة العشيرة لوهلة، صارخاً في وجه المثقف:

" السبب أننا ننتخب نواباً فاشلين ثم نعيد انتخابهم من جديد! ويلي على حالنا".

لكن المفاجأة التي طعنت عقل المثقف قد باغتته حينما أكمل الرجل رده هامساً متلعثماً بعض الشيء:

" ولكن مرشحنا هذا صادقٌ في وعوده، فبالأمس وعدنا بمناسف تتوسطها رؤوس الخرفان المشوية، فسل هذه البطون المندلقة من حولنا كيف أوْلمَها أبو الريش حتى الشبع، أما اليوم! وها أنت حاضر بيننا، فعساك تغنم بنصيبك، إذ وعدنا سعادته بصواني الكنافة النابلسية لتدور ساخنة بيننا، فسيصدق وعده.. هذا عهدنا به.. ويكفي أنه من أبناء العشيرة المعصومة من الخطأ".

وفجأة لفتت انتباه الرجل جلبة في آخر الصيوان، فاستدار يخبر المثقف قبل أن يستدير مندفعاً إلى حيث هناك:

" ألم أقل لك بأن وعد هذا المرشح قد صدق! فهلم واستلحق لك نصيباً قبل أن تُسَفُّ الصواني".

لكن خازوقاً كان ينتظره، فالصواني كما يبدو قد جاءت بالخطأ إلى غير صاحبها، وهو مرشح آخر من كتلة منافسة، كلهم يطعمون البطون فتستحي العيون وتستلب الضمائر إلى غيبوبة اللامبالاة.. " هههههه إنه زمن الرياء والخصيان" قالها المثقف وعيناه ترصدان الرجل الذي غاص في زحام المتجمعين حول صواني الكنافة.. ومن لحظتها اختفى الرجل كأنه فص ملح وذاب.

 

بقلم بكر السباتين

 

 

في نصوص اليوم