تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

نصوص أدبية

قطة هيفاء

ahmad belkasem2سحبني من يدي التي ظلت لاصقة بكفه بعد المصافحة القوية الخشنة، وقال ضاحكًا: هذا النهار ستدفَعُ الثمن غاليًا، وقصد بي الشارع الرئيسي، وتوجه إلى أقرب مقهى، ويدي لا تزال ملتحمة بيده، كما لو كان يخشى أن يبتلعني الشارع، لما جلسْنَا قال:

- سأحكي لك حكاية طريفة، جرت لي يوم أمس بحامة فزوان.

- طيب؛ هات ما عندك لكن، بشرط؟

-  ما هو؟

-  ألا تَقُصَّها على أحد.

-  سأحتفظ بها لنفسي.

-  ستعجبك كثيرًا.

- شوَّقْتَنِي إلى سماعها.

- إنها شبيهة بما يُقدَّم في التليفزيون.

- تقصد المسلسلات المدبلجة؟

- أجل .

- ذهبْتُ يوم أمس إلى حامة فزوان؛ لأنهل من معينها، ما استطعت، لتنقية كليتيَّ من الحصى الذي استوطنهما حينًا من الدهر، بعدما أخطأ طريقه في مجاري الأنهار والأودية، فبينما أنا جالس، أتأمل مشهد أطفال، وهم يسبحون في المسبح المجاور للحامة، وأشرب الماء، من قِنِّينَةٍ سعة لتر ونصف، إذ بفتاة هيفاء، ترتدي عباءة مزركشة، وقُبَّعة نسائية أشبه ما تكون بغربال، ينسدل من تحته ليل بهيم مديد، يحمله الكتفان بكبرياء فاتن، وتضع على عينيها نظارة قاتمة اتقاءَ لسَعَاتِ الشمس، كانت تجلس قُبالَتِي على بُعْد بضعة أمتار، مذ جلَستْ، وهي تختلس النظر إلَيَّ، مع مرور اللحظات صرت أرمقها خلسةً مغتنمًا فرصة رفع القِنِّينَة لتناول جرعة من الماء الفزواني، متظاهرًا بالنظر إلى الصِّبْية، وهم يغمسون أجسادهم في الصفحة الزرقاء المتلألئة، فيرسمون دوائر سريعة التوسع والتلاشي، شبيهة بتسونامي صغير ناعم ووديع ينعش الأبدان، ولا يثير الأحزان، أطفال في أوْج نشوة فرحهم؛ إذ يغمسون أقدامهم البَضَّة الناصعة البياض، في البساط المترجرج مستسلمين لسحر الماء، مرِحِين ضاحكين، ثم يغوصون نحو الأسفل المنعش شيئًا فشيئًا، إلى أن يختفوا لبضع ثوانٍ وسط فقاقيع البلور المتصاعدة إلى سطح صفحة المرح والحبور الزرقاء، بعد سكون وجيز تثقب رؤوسهم الصفحة الرقراقة، وقد انسدل الشعر على الأعناق الملساء، وهم ينفثون الماء رذاذًا من أفواههم الضاحكة في وجوه بعضهم البعض، بلورات الماء الصافية تبدو على الأجسام الطرية كما الورودِ كلَّلَها الطَّلُّ، وأما أصواتهم العذبة فتملأ الفضاء حيويةً ونشاطًا وفُتُوة وضحِكًا نقيًّا.

- قلت مخاطبًا نفسي:

لتكن هذه، هي نصفي، الذي أعياني البحث عنه في ولائم الأعراس والأتوبيسات، وقاعات الانتظار في عيادة الأطباء، ومكاتب استخلاص فواتير الماء والكهرباء، نصفي الذي طالما سألَتْني عنه أمي، مردِّدة لاَزِمَتَها المشهورة، كلما سمِعَتْ بزواج جار أو جارة:

قم أكمِلْ دينك؛ أتريد أن تُقبِر أولادك في بطنك؟

متلعثمًا من شدة الخجل رأيتُني أُجيب القاضي:

- نعم، سيدي، قبِلْتُ بها زوجة على كتاب الله، وسنة رسوله.

كذلك قالت هي، مطرقةً جفنيها، متوردةَ الخدين، وقد تبخَّرت نفسُها خجلاً.

-  أَمْضِ أنتَ هنا.

- طيب، سيدي.

القلم يكاد ينفلت من بين أناملي، من شدة عَرَق الخجل، يسحب العدل الصفحة المقدسة من أمامي، ويبسطها أمام توأم روحي، محدِّدًا لها مكان التوقيع.

-  أمضي هنا.

وهي تُوَقِّع نسخة العقد المقدس، كانت تنعش قلبي بعدما فقَدَ نبضه منذ سُبَات طويل..

- بالرِّفَاء والبنين، مبروك.

-  شكرًا، بارك الله فيك، عبارة متقطعة خرجت من حنجرتي.

ما إن استقرت نظراتي الحالمة في بؤبؤ عينيها الهادئتين المليحتين، حتى تسارعت نبضات قلبي، واحمرَّت وجنتاي، وارتعشت رُوحي، ورفرفت بجَناح حب دفين، مفجرةً في كياني ينابيع العشق الصافية، عَرَقًا ساخِنًا وباردًا على الجبين، ظلَلْتُ مشدوهًا في وجه البدر الصبوح.

حين قامت بقَدِّها الْميَّاس تروم مقصدي، سبَقَتْها أنفاس عطر فواح، وشعاع بسمة آسرٍ، كاد يخطف بصري، رأيتُني أركب صهوة خيالي الحالم، فلم أدر في أيِّ جنة حُبٍّ أنا؟ رأيتُ فيها جميلاً وَبُثَيْنَاهُ، وكُثَيِّرًا وعَزَّتَاهُ، وقيسًا ولَيْلاه، كلهم قاموا مرحبين: يا مرحبًا بالمتيَّم الجديد، أطبَقوا علي بالأحضان أن أَقْبِلْ أيها العاشقُ الولهان، ما أحلى حلاوة الحب! وما ألطفَ نسائمه الزَّكِية! أخذتُ قبَسًا من وجدهم، صُغْتُه تاجًا من ضياء، كَلَّلْت به جبينَ فاتِنَتي.

وبعينين باسمتين، ترجَّلَ الغصن الطري في دلالٍ وترنُّم، مُتْرعًا بالزهو، يُخفِي خصلةً تدلَّت في حياء على الجبين المشرق، تحت سواد حجاب، باح بما يختلج في أعماقه بآهَةٍ حارَّةٍ حُلوةٍ، كلها رقة وحنان، أحنى هامته أمامي خجلاً ووقارًا، رأيته يمد يديه البضَّتَيْنِ، مُختالاً في مِشيته، يتماوج كمُهرٍ وديعٍ، ترجَّل بهدوء ودَعة، وازداد صفاءُ عينيه الباسمتين إشراقًا، اقترب مني حتى صار قاب قوسين أو أدنى من خافِقي، انحنى العود الطري الأسيل باسِمًا، واليدان الممشوقتان ممدودتان، أن أقْبِل يا حبيبي! ما أعذبه من صوت! وما أشهاها من كلمةٍ! (حبيبي!): تندلق من ثغرٍ مختوم بالسحر الحلال، حين يُومِضُ سنا الضياء من مُحَيَّاها، ترقص الروح على نبض القلب الذي استعاد حياته السليبة من جحيم الحرمان الْمَقِيت، والكبت البغيض، خَدَّاي أنا، أنا الولهانُ، اصطَلَيَا بلهيب المحبة، حتى كادا ينْزِفان، وتصلَّبَ لساني، عجز عن البيان، وجفَّتْ شَفَتاي، خطر بالروح خاطرٌ: أنْ كان اللهُ في عون قيسٍ، وجميلٍ، وكُثَيِّرٍ، وروميو، وكل ضحايا الحب، في شتى الأمصار والعصور، يا وَيْحِي، يا لَهفِي! البدرُ يَحْني هامَتَه أمامي تواضعًا، ومحبةً، وشفقةً على القلب المنفطر، يبسط لي كفيه، كما القمرِ انشقَّ إلى نصفين، كل كف ملأى بالوُدِّ، طوبى لكَ أيها المتيَّم الوالهُ، والعاشق المعشوق، والحِبُّ المحبوب، أنْعِم بها من شريكةِ حياة، جاءتك تمشي على استحياءٍ، وداعًا أيتها العزوبيةُ الملعونة، عش كريمًا في كنف الحب الدافق الدافئ، خَفَضَتْ عَيْنَيها حياءً، ومُحَيَّاها المفعَم بالرِّقة والسكينة، يُطَمْئِنُ النفسَ المضطربة، تنسمْتُ روائحَها الزَّكِيَّة، حتى ثَمِلَتْ روحي، ونزفت، أليس هذا الصدر الناتئ باحتشامٍ، وهذا الْخصر الْمَرِن الشهي الْمَلْمَس، وهذه الذراع البضَّة الفَتِيَّة، والشعر الحريري المسبول، والعينان الكحيلتان، والشفاه الندية، والْخَدَّان الملتهبان؛ هذه المفاتن الحسناء أغرتني بأن أقدِّم رُوحي مَهرًا لفاتنتي.

يا ويحَ خافقي، الكفان البضَّان يحيدان عن طريقهما، يمتدان في دلال إلى ما تحت مائدتي، وبكل رشاقة، رشاقةِ لاعبة الجمباز، قفزت هُرَيْرَةٌ كانت مضطجعة تحت طاولتي، مستمتعة بنعومة العُشْب الأخضر الندِيِّ، تكوَّمَت الْهُرَيرة، بين الأحضان الدافئة، التي طفحت عليها مَسْحًا بكفها الناعم، فيا له من ناعم، يمسح ناعمًا، حَمَلَتْها بلطف، وقبَّلَتْها بلطف، فأطبقَتْ شفتيها على مُقْلَتَيْها الناعستين بلطف، ألطافُ الإلهِ أنعمَتْ عليكِ أيتها المدلَّلة بأعزِّ النِّعَم، أنعِمْ به وأَكْرِمْ، من حاضن لمحضون!

بَقِيتُ بُرهةً، أمسحُ عن عيني غشاوةَ الحب الداهم، الهارب، ثم انصرفْتُ خجلاً نحو المرحاض، أجُرُّ أذيال الخيبة، لأفرغ حقينة مثانتي، في زجاجة شفافة، عملاً بنصيحة خبراء المياه المعدنية، من بائعي البنزين المهرَّب، وسائقي سيارات الأجرة، الذين لم يدَّخِروا جهدًا في شرح منافع وأهمية مياه الحامة المذكورة، فَرُحْتُ أُدَقِّقُ النظر إلى الْحَصى، وهو يلْقَى مصيره المحتوم، أمام مفعول المياه الشديد، يُفَتِّتُه بنجاعة الليزر بلا شفقة، مطَهِّرًا كُلْيَتي من عبثه القاسي.

دسَّ رأسه بين منكبيه مثل حلزون استشعر خطرًا، ولاذ بالصمت هُنَيْهَةً، ثم أخرجه، وقال مستأنفًا حديثه:

- كيف وجدتَ الحكاية؟

- رشِّحْها لجائزة نوبل للآداب، ولا تخْشَ لومة ناقد.

- صحيح، ألهذا الحد أعجَبَتْكَ؟

- يبدو لي أنني قرأت مثلها في كتاب، أو جريدة قديمة.

-  آه يا صديقي، كم بِتُّ أهيم بهواها!

- الهيفاء التي سلبَتْ عقلك؟

- لا، بل القطة، التي حَظِيَتْ بِحُب الهيفاء.

ما إن أتى على وضع نقطة النهاية لحكايته هذه، حتى نهض مستعْجِلاً يسحبني من جديد مِن يدي، فأَسْقَط منها القلمَ الذي كنت أُلَوِّث به حاشية الجريدة، فضلاً عن فنجان قهوتي.

- هيا، قم فورًا.

- إلى أين؟

-  إلى الصيدلية.

-  ولِمَ، هل ألَمَّ بك مكروه؟

-  الهيفاء.

-  ما بها؟

- رأيتُها تدخل الصيدلية، ظننْتُ أنني لن أراها ثانية، يا لَعَطْفِ السماء، يَا لَسَخَاءِ القدر!

- على رِسْلِكَ، اسمح لي أن التقط قلمي!

مددْتُ يدي أسفل الطاولة، اصطَدَمَتْ أطراف أناملي بشيء ناعمِ الملمس، أطلَلْتُ برأسي، وصِحْتُ في وجه جليسي الولهان:

الهيفاءُ قريبة من هنا، أَلْقِ بنظرة تحت الطاولة لتتأكد من أثرها.

ما كاد ينحني، حتى صاح منبهرًا، وقد تهلَّل وجهه:

- يا إلهي، هذه سعيدة الحظ هنا.

حضَنَ سعيدة الحظِّ بكل لطف ودَعَةٍ، وطفق يُهَدْهِد عليها بكل ما حوى قلبه من حب وَرِقَّة، وهي تَمُوء مُواءً هادئًا، وتُحَرِّك ذيلها المرن تمسح به أرنبة أنفه، وتركني أواجه النادل، وأستسمحه عن تكسير الفنجان، اتجه صوب الصيدلية، لا يلوي على شيء، لم يجد فيها سوى رَجُل يرتدي وِزْرَةً بيضاء، يجلس وراء الحصالة الإلكترونية، وفتاة مفعمة بالشباب والوسامة توشَّحَت بالبياض هي الأخرى بمحاذاته، تعبث بقلم مربوط إلى صدرها الناتئ، جال ببصره بين الرفوف كمن يبحث عن شيء يعرفه، ارتد إليه طرفُه خاسئًا وهو حسير، ندَّ من ثغر الفتاة اليافعة سؤال:

- تفضَّلْ، سيدي!

دنا منها متفرِّسًا مُحَيَّاها، كما لو كان يريد أن يبوح لها بِسِرٍّ، حتى كادت القطة تلامسها هي الأخرى، ربما فعل ذلك عمدًا لحاجة في نفسه، بعد هنيهة صمتٍ، قال:

- أريد دواء!

-  تريده  للقطة؟

- لا، بل لي أنا!

-  ممَّ تشكو سيدي؟

- من خيبة الأمل، آنِسَتِي!

 

قصة قصيرة 

أحمد بلقاسم - المغرب

 

في نصوص اليوم