نصوص أدبية

محمّد وحمده

khadom nasirعاش محمد وحمده معا كزوجين سعيدين مثاليّين ما يقارب السبعين عاما، وكانا لا يعرفان متى ولدا وكم كانت أعمارهما بالضبط، ولم يحتفلا بعيد ميلاد أي منهما طيلة حياتهما، لكن محمد كان يقول إنه كان شابا عندما حارب مع الأتراك في الحرب العالميّة الأولى، وبناء على ما دوّن في جواز سفره فإنه ولد عام 1890، وزوجته وشريكة حياته الجميلة حمده ولدت عام 1895.

محمد وحمده ولدا وعاشا في نفس القرية؛ كان محمد نحيل الجسم متوسّط القامة حنطي اللون، وحمده بيضاء البشرة طويله القامة متناسقة الجسم ممّا يوحي بأنها كانت جميلة جدا في صباها، لكن من المؤكد أنه لم يكن بينهما قصّة حبّ وأن محمدا سمع عن جمالها وأدبها من والدته ساره وشقيقته الوحيدة لوزه، ولم يجلس معها قبل الزواج الذي كان يتمّ بناء على موافقة وترتيب أهل العروسين، ولم يرها وجها لوجه إلا يوم عرسهما لأن اختلاط الجنسين كان ممنوعا حسب أعراف وتقاليد أهل القرية .

لكن الزيجات في ريف فلسطين في ذلك الوقت كانت تنجح بسهولة وحالات الطلاق والانفصال قليلة جدّا لأن زواج الأقارب كان شائعا وربما مفضّلا، وأهل القرية يعرفون بعضهم بعضا ويمضون حياتهم معا في نفس المكان، والبيئة الاجتماعية محافظة جدّا، والأزواج والزوجات متساوون في الفقر والحرمان والتخلف والمستوى الاجتماعي، ولا يعرفون شيئا عن العالم الخارجي، ويرضون بنصيبهم في الحياة وبما يملكون، ويشعرون بالسعادة في بيئتهم الاجتماعية البسيطة البطيئة التغيّر.

لا أحد يعرف بالضبط متى تزوّج محمد وحمده، ولكن لأن ابنهما البكر رحمه الله كان يقول بانه ولد عام 1915، فهذا يعني أنّهما قد تزوّجا في الفترة ما بين أعوام 1911 – 1914، وعاشا معا في بيت العائلة المكوّن من حجرة واحدة مع والدي محمد وإخوانه وشقيقته حتى بنى بيته الذي كان لا يبعد عن بيت والده سوى بضعة أمتار. في ذلك الوقت كانت البيوت في كل حامولة من الحمائل الستة المكوّنة لقريته متلاصقة؛ ومعظم البيوت تتكوّن من حجرة واحدة مقسّمة كالتالي: مصطبة ينام ويعيش عليها أهل البيت مهما كان عددهم وأعما رهم، وخوابي مصنوعة من الحوّر والقش والخشب لتخزين القمح والشعير، وراوية لتخزين التبن لإطعام الحيوانات، والقصل لاستخدامه وقودا للطابون، وقاع بيت لتنام فيه الأبقار في الشتاء، أي ان أهل البيت وحيواناتهم كانوا يعيشون في حجرة واحدة في فصل الشتاء، لكنهم يربطون حيواناتهم ويبقونها خارج بيوتهم في الفصول الأخرى.

لا أعرف كم مولودا أنجبت حمده، لكن الذين عاشوا منهم خمسة ذكور وانثيين تزوجوا جميعا، وبنوا بيوتا، واستقلوا في حياتهم، وأنجبوا كثيرا من البنين والبنات؛ كان موت الأطفال الحديثي الولادة شائعا في ريف فلسطين؛ إنني أذكر ان نسبة عالية من مواليد قرية حمده ومحمد كانوا يموتون خلال الأسبوعين الأولين من ولادتهم في الخمسينيّات من القرن الماضي بسبب انعدام العناية الطبية؛ كانت الولادة تتم عن طريق القابلة التي لا تعرف شيئا عن الطب وامراض الأطفال، والآباء لا يدركون أن الأمراض التي تفتك بأبنائهم وتؤدي إلى موتهم يمكن شفاءها وانقاذ المواليد من الموت.

كان محمد فلاحا عاديّا يزرع أرضه ويملك قطيعا من الماعز، ومقومات ونمط حياته هو وحمده لا تختلف عن حياة أبناء الريف الفلسطيني في شيء؛ القرويون الذين يملكون أرضا وماشية يعملون في الزراعة ورعي الأبقار والأغنام ويعتبرون ميسوري الحال وذو مكانة اجتماعيّة مرموقة لأن مكانة الرجل في مجتمعهم تقاس بحجم الأرض واعداد الماشية التي يملكها، أما الذين لا يملكون أرضا ولا ماشية فيعتبرون فقراء ويعملون كعمال يومية، أو قطاريز (رعاة أو حرّاثين) عند الذين يملكون أرضا واسعة وأعدادا كبيرة من الأغنام .

وكان نشيطا فبالإضافة إلى الأرض والماشية التي كان يملكها، فإنه عمّر سفح جبل وأحاطه بسنسلة (سور من الحجارة) وأسّس فيه عماره (مزرعة) زرع فيها عددا كبيرا من أشجار التين والعنب والخوخ واللوز والزيتون، وكان يبحشها (ينكشها) بالفأس لآنها كانت صخرية والأماكن الصالحة للزراعة فيها محدودة ومكونة من احواض لا يمكن حرثها باستخدام الدواب، وبنى فيها عريشا يجلس فيه عندما كان يعمل فيها في فصول الربيع والصيف.

في ذلك الوقت كان معظم الفلاحين يأكلون من إنتاجهم من خبز القمح والزيت والزيتون والبصل والزعتر والجبنة واللبن والعدس والبرغل والفريكة والدواجن والبيض، ويشترون بعض الأرز وقليلا من اللحوم، ويقلون ما توفر لهم من الخضار، ويستمتعون بأنواع التين والعنب واللوز المختلفة اللذيذة التي كانت توجد في القرية بكثرة، وبقليل من الفواكه الأخرى كالبرتقال والتفاح .. في المواسم إذا ملكوا قروشا قليلة لشرائها، لكنهم كانوا يعيشون على ما ينتجونه من الأرض والماشية ويعتقدون بأن " الفلاح إلي عنده قمحاته وعدساته وزيتاته وزيتوناته وحلاله (مواشيه) بخير من الله .. واشو بدّه أكثر من هيك ؟ "

كان محمد مثقفا بمعايير عصره ومجتمعه لأنّه يقرأ ويكتب، ويحضّر الحجابات، وعنده صندوق صغير يحتفظ فيه بنسخة من القرآن الكريم وبعض كتب الحديث والتفسير، وكتاب الحجابات؛ لكن ما ميّزه عن معظم أبناء جيله من أبناء حامولته هو جديّته وصرامته وقوّة شخصيته وتديّنه؛ كان لا يتكلم ولا يضحك إلا قليلا ويفرض رأيه على إخوانه وأقاربه الذين كانوا يهابونه ويحترمونه ولا يرفضون له طلبا، ويؤدي الصلوات الخمس في أوقاتها، وحج مرّتين، ويذهب إلى القدس والخليل للصلاة في المسجد الأقصى والحرم الإبراهيمي مرات عديدة خلال العام.

كان يقوم برحلته المقدسيّة الخليليّة يومي الخميس والجمعة؛ يستيقظ باكرا صباح الخميس ويأدي صلاة الفجر، ويتناول طعام الإفطار ويغادر القرية إلى مدينة نابلس، ومن هناك يذهب للقدس ويصلها حوالي التاسعة صباحا. بعد ذلك يشتري صحيفة " القدس " ويجلس على مقهى في القدس القديمة ويقرأ صحيفته بهدوء بينما يتناول فنجانا من القهوة، وبعد ذلك يتوجّه إلى المسجد الأقصى ويبقى هناك حتى ينتهي من صلاة الظهر، ثم يتناول طعام الغداء في مطعم قريب ويتوجّه إلى الخليل ويصلّي العصر والمغرب في الحرم الابراهيمي، ثم يذهب لتناول العشاء في مطعم صغير في مركز المدينة ويعود لصلاة العشاء في الحرم وينتهي به المطاف في فندق بسيط بائس ربما كان الوحيد في المدينة فيقضي فيه ليلته، ويصلي الفجر في الحرم ويعود إلى القدس لحضور صلاة الجمعة في المسجد الأقصى، وبعد ذلك ينطلق في رحلة العودة إلى مدينة نابلس ثم إلى قريته.

كان يستمد مادة كتابة الحجابات من مخطوط قديم متهالك المنظر منسوخا باليد من مخلّفات الامبراطورية العثمانية لا أعرف متى وكيف وأين حصل عليه؛ كانت حجاباته تعالج الكثير من أمراض الأطفال كالسخونة، والكحة، والآلام المختلفة، وتحمي من العين الشريرة والحسد وتشفيها جميعا إذا بقي الطفل الذي علق الحجاب على صدره أو كتفه على قيد الحياة ! كانت ممارسته الطبيّة تعتمد على نظام لا يتغير يتلخص في أن أم الطفل المريض تحضر له أثر الطفل (قطعة قماش صغيرة بالية) من الملابس التي يرتديها وتخبره عن طبيعة مرضه؛ كان الرجل ميسورا وعزيز النفس ولا يطلب أجرا مقابل خدماته التي يعتبرها عملا مفيدا للناس وإرضاء لله سبحانه وتعالى، وطمعا في الحصول على المزيد من الحسنات، أما إذا لفّت (وضعت) والدة الطفل المريض شلنا أردنيا (خمسة قروش) في قطعة الملابس(الأثر)، أو أحضرت له دجاجة حيّة مقابل الخدمات فإنه كان يقبلها بأدب وبدون تعليق.

كان يكتب الحجاب بالحبر والريشة على ورقة بيضاء مستطيلة؛ وأذكر أنني تعمدت الجلوس بالقرب منه وهو يكتب أكثر من مرة لأرى المضمون وكل ما شاهدته كان مزيجا من الآيات القرآنية والأحاديث والأدعية؛ وبعد أن ينتهي من الكتابة كان ماهرا جدا في لفّ ورقة الحجاب وجعلها على شكل مثلث أنيق، ثم يسلم الحجاب لزوجته حمده لتوصله لأم الطفل التي تقوم بضعه في كيس صغير من القماش وتعلقه على كتف الطفل أو على صدره .

أما حمده فكانت طويلة القامة، بيضاء البشرة، قويّة البنية، تهتم بمنظرها وتحنّي شعرها لإخفاء الشيب؛ وكانت ما تزال تحتفظ بصمادتها (غطاء تثبته على رأسها للتجميل) مكوّن من قروش فضية، ثقيل الوزن كان يقدّم للعرائس كمصاغ بدلا من المجوهرات التي تقدّم لهنّ الآن، وبصحارتها (صندوق) الخشب الملون الذي كان جزأ من تجهيزات عرسها، لكنه كان بحالة سيئة وتستخدمه لحفظ بعض لوازم بيتها كالزيت والزعتر والبقوليات والملح إلخ.

ورغم كونها أميّة إلا انها كانت ذكية قويّة الشخصية، وبسيطة لا علاقة لها لا بالعلم ولا بالعالم الحديث، تملك قلبا نظيفا كالألماس، حسنة النوايا تحبّ الخير للجميع، تغمر أبناءها وأحفادها بحبّها وحنانها، تتعامل مع أهلها وجاراتها وصديقاتها (مسعده، وعاقله، ووفيقه، وحفيظه) وغيرهن بصدق وحبّ خالص لا تزلّف فيه ولا نفاق، وتعتبر نموذجا حيّا لنساء قريتها وقرى فلسطين الطيّبات اللواتي لم تلوّثهن الحياة المعاصرة بتعقيداتها وافتقارها للمشاعر الإنسانية البدائية النقيّة !

كان احفادها يذهبون إلى بيتها متى يشاؤون، ويأكلون ويتصرّفون وكأن البيت بيتهم ؛ ويتسلّلون أحيانا إلى الخم (بيت الدجاج) ويسطون على بعض البيض ويأخذونه لها لتشويه لهم في الطابون وتفعل ذلك بحبّ وحنان؛ وكانت أيضا تكشّك (تصنع الجميد أو الكشك) من اللبنة التي تنتجها من حليب أغنامها وتعمل منها أقراصا مستديرة، ثم تنشرها على صينيّة مصنوعة من القش وتضعها على روافع حديديّة صغيرة مرتفعة مثبتة بواجهة البيت الأمامية لتتعرض لأشعة الشمس وتجف وتتحول إلى جميد، ولتمنع أحفادها من الوصول إليها؛ لكن الصغار تعلّموا أن يصعدوا إلى سطح بيتها المنخفض ويسقطون حجارة على الصينية فتقع على الأرض، ثم ينطلقون بأقصى سرعتهم فيلتقطون بعض أقراص الكشك ويهربون.

ولأنها كانت كبيرة في السن ولا تستطيع أن تحطّب النتش من المناطق المحيطة بالقرية لاستخدامه في الطبخ، فقد استخدمت روث الأبقار الذي كان يتواجد بكثرة في الأزقة المحيطة ببيتها؛ كانت تحمل قفة (سلة من الكاوتشوك) وتجمع اللطع (روث البقر) وتضعه على سنسلة البيت (سور من الحجارة) من الداخل ليتعرض لأشعة الشمس ويجف وتخزنّه وتستخدمه كوقود شديد الحرارة بطيء الاشتعال في طبخ وجبات العشاء على موقدتها القديمة الموجودة خارج البيت !

بعد رحيل أولادهم إلى بيوتهم واستقلالهم في حياتهم، عاش محمد وحمدة في بيتهما بهدوء وسعادة؛ باع محمد أغنامه وكان عنده ما يكفي من النقود ليعيش هو وزوجته حياة آمنة مستقرة ويحصلا على متطلبات حياتهما بسهولة؛ وكانت حمده تحترمه وتهتم بنظافته وأناقته، وتبذل قصارى جهدها لإسعاده والمحافظة على صحّته، لكنني لم أسمعها أبدا تناديه أو تذكره باسمه، بل كانت تقول عنه " الحج، زلمتنا، أبو حسن، أبو لولاد "، ولم يحدث بينهما مشاكل مسموعة إطلاقا؛ كان هو صاحب القرار المتعلق بالعائلة وهي تحترم رأيه ولا تعترض عليه؛ وكلاهما لا يتدخلان بحياة وشؤون ابنائهما وزوجاتهم الخاصة، ولهذا ظلت علاقة حمده بزوجات أبنائها وديّة وكن جميعا يقدرنها ويحترمنها ويحتفين بها عندما تأتي لزيارتهن بين الفينة والأخرى.

لم يكن محمد وحمده يعرفان مظاهر العشق والحب الحديثة، لكنهما استمتعا بمشاعر الحنان والود والحب الفطري البدائي الصادق بأنماط تفكيرهما وبطرقهما الخاصة التي سمحت لهما بها قيمهما وعادات وتقاليد مجتمعهما؛ لقد عاشا أكثر من تسعين عاما قضيا منها ما لا يقل عن سبعين معا كزوجين وفيين يعتقدان ان الحياة الزوجيّة شراكة عمر حقيقيّة مقدّسة لرجل وامرأة يكافحان ويضحّيان وينجحان ويخفقان خلالها معا، ويفرحان ويحزنان معا، ويضحكان ويبكيان معا، ويعيشان ويموتان معا.

في السنوات الخمس الأخيرة من عمرهما ساءت حالتهما الصحية واضطرا للعيش في بيت حفيدهما؛ لقد خصّص لهما جزأ مستقلا من بيته وكان هو وزوجته يقدمان لهما كل ما يلزمهما من خدمات وعاشا بقية حياتهما بأمن وكرامة واحترام؛ في آخر مرة التقيت بهما كان محمد في وضع صحي سيء؛ كنا واقفين على تلة قريبة من البيت، فنظر إلى الغرب وقال لي " انطر لماذا يوجد هناك عدد كبير من الناس"، نظرت فلم أجد أحدا، وعلمت بأن الهرم بدأ يؤثر على نظره وقدراته الإدراكيّة. لم يعش بعد ذلك طويلا، وودع العالم مرتاح البال مبتهلا إلى الله سبحانه وتعالى أن يغفر له ذنوبه ويدخله في جنّات عدن؛ حمده لم تتحمل الآم الفراق ولحقت به بعد بضعة أشهر وطويت بذلك صفحة زوجين فلسطينيّين قرويّين بسيطين متعاونين كرّسا حياتهما لأسرتهما وللآخرين، وكانا مثالا على دورة الحياة بعنفوانها وضعفها وعظمتها وسخافتها !

 

قصة قصيرة – د. كاظم ناصر  

 

 

في نصوص اليوم