نصوص أدبية

القرية الخرِّفة وحرية الرأي...

MM80كان الغروب قبل آوانه بقليل، ربما كانت للشمس أمور أخرى تفعلها، وعلى وقع الغسق احمرت عين الحاكم اليمنى كما احمر الأفق البعيد عند جبال الروم، أما عينه اليسرى فقد كانت متوهجة بالسرور، أتى مزاحما الظلام في موكب أوله القرية وآخره زوبعة من غبار، وفي باحة القرية الخربة، أطلق الحاكم كلابه على الرجل ذي السبعين سنة وشهران وليلة الذي كان خاطبا في الناس، أن ينتفضوا ضد الحاكم المستبد لاحتكاره الحَب والماء على حد قوله، أما الحُب، كما صادف أن قرأ الحب بضم الحاء، فكان وافرا للجميع بعد أن هجر القرية شبابها، غير أن الجميع استنفروا من عواقبه الوخيمة إلا بواقي رجال من كهول أو شيوخ لا يرجى نسلهم، فالحُب كما تعرفه القرية الخربة قبل هذا التاريخ، قد ينمي في العقول فكرة الزواج وربما بناء أسرة وتنشئة أولاد، سرعان ما يكبرون ويصابون بداء الملل كسابقيهم.

كانت فكرة الزواج في ظل الظروف الراهنة وقلّة الماء ضربا من الجنون، الجمع لم يُعر للشيخ أي اهتمام فقد كانوا يرون في الخروج عن الحاكم اعتبارات أخرى، فالحاكم هو الأب لهم بحكم سِنه، غير أن كلام خطيبهم كان صفيفا منمقا محافا بالبراهين.

كان للحاكم ستة وسبعون كلبا وكلبتان، وعشرون جروا من دم مُحَوكم، في سلالة الكلاب، كانت بنية اللون ذات أنياب قوية تظهر على جوانب أحناكها، وكان يتسايل لعابها من تخمة الماء، في حين كانت بعض الكلاب تهرول وراء الشيخ كانت الأخرى الأكبر سنا تحت أقدام الحاكم تنعق حذاءه، فقد كرهت من أكل لحوم البشر المالحة والتي قد تكون سببا في ارتفاع ضغطهم، أما الناس   فأبهرهم الموكب دون مشهد الشيخ وهو يجري فارا من الكلاب المسعورة، ولم يؤلمهم ما سيؤول إليه مصيره بقدر ما ألامهم غّلهم على الحاكم فوق جواد من نسل العمالقة.

في اقتراب الكلاب من الشيخ في حدود القرية، وثب وثبة لم يعرف له عنوان بعدها، بعض الناس بعد سنين ذكروا أنه سقط في حدود تاج محل بالهند ولم يخلف سقوطه أية خسائر تذكر، لكن البعض الآخر قال أنه لم يحط بعد هذه الوثبة أبدا، الكل كان مستغرب من هذه النطة التي أنستهم جلبة موكب الحاكم، وكثرت الأقاويل حتى أنستهم هذه الحادثة العرضية حاجتهم للماء والزرع، واقترح بعض أعيان القرية أن يبنوا له نصبا لولا قلة الماء إذ كيف للحاكم أن يمنحهم الماء للبناء والسقف والتبليط، فارتأوا أن يقيموا له قبرا يسموه قبر الشيخ النطاط تخليدا لذكراه وجعله مزارا للناس يتبركون بتفاهة أحلامهم، والقبر على قول من تنبه للفكرة الذكية، لن يكلف إلا الجهد، فبعد الحفر العميق وضعوا له مرقدا كبيرا وغطوا أرضه بمفارش جميلة، تطوع السكان بها، ثم وضعوا بعض جذوع الشجر الذي جفت جذوره فوق القبر وبعض جريد النخل، وجعلوا لهذا القبر بابا بعد أن وضعوا عليه تلّة من التراب.

في ليلة تغيب فيها القمر، فحضرت كل حيات الأرض علها تستقي بعض الماء، كان الابن الأكبر للجد المتوفى ينام في سقيفة البيت متجردا من ثيابه، فلدغته حية كبيرة بحجم التمساح كما اعتاد القول، في الحقيقة لم تكن إلا عقربا عطشا أراد أن يشرب من دمه، ثم تأفف وذهب عندما لامس الدم فمه ووجده كثير الملوحة على غير عادة البشر، فاستفاق وهو يتصبب عرقا والألم في مكان اللدغة والحمى تكاد تلتهمه، وسرعان ما نام لما عرف حقيقة الأمر.

عندما تبرج الليل بدامس من الظلام،أصبح الشيخ يهلوس بأشياء كثيرة لم تفهمها زوجته، ربما كانت بسبب العطش، فخرجت الزوجة تتستر بجدران القرية ، حتى وصلت الى كوخ العجوز، هزت الباب مخلخل المفاصل بيدها القوية ودخلت، فوجدت العجوز نائمة مفتوحة العينين، تلوح بيديها، أيقظتها بعد عناء كبير، وطلبت منها أن تأتي معها وتفسر لها ما يهذي به الشيخ، فهي عجوز فطنة، تعرف كل الأسرار، خرجا وبعد مضي برهة بجانب الشيخ كانت قد أعطتهم تفسير أحلامه، ومن جهلها بما يقول، ذكرت أن الشيخ النطاط كان يكلمه في المنام، ويطلب منه أن يكون حارسا على قبره حتى يعود، لم تهتم الزوجة لحياة زوجها، فقد عرف عدة لدغات، في عدة أماكن منذ تزوجت به، بل كانت الأفاعي والعقارب تخشى سُمه.

كان بعض السكان من الطبقة المثقفة إلى حد ما، يناورون فيما توصل إليه البقية من هدى، فقد تنبهوا لما قد يكون تدبيرا من الحاكم ليُلهي الناس عن مصائرهم، وبتفكير عقلاني فقد اتهموا الحاكم بترتيبه هذه الوثبة العملاقة، فكيف يكون لرجل أن تكون وثبته ألاف الأميال.

في الصباح استفاق الشيخ ذو الخمسة وثلاثون شتاءا والثلاثون خريفا، دون أن يتذكر شيئا عن اللدغة فذهب إلى باحة المنزل وتناول فطوره، حبات قمح مطحونة قليلا بعد أن كوّتها زوجته على النار تتوسطها بلورات قليلة من ملح الطعام تشققت من قلة الماء، كان يتناولها رويدارويدا، خوفا أن تمسك في عنقه فتقتله لقلّة الماء وأكبر لقمة كانت خمسة حبات على أكثر تقدير، فأنّبته الزوجة تأنيبا كبيرا على تسرعه في الأكل، وفي صدّد حديثها قالت أن لاشيء ينتظرك حتى تسرع، وهو على ذلك حتى قاربت الساعة منتصف النهار فطلبت الزوجة منه، أن لا يبتعد كي تعطيه بعض الحبات للغذاء.

شاع خبر رؤية الشيخ للشيخ النطاط في المنام في ربوع القرية، ورأى أهلها بعض بركاته في الشيخ ذو الخمسة وستون عاما وشهران، فهللوا له بالهدايا وكان من بين الهدايا صهريج ماء يجره بغلان هدية من الحاكم ومنذ ذلك الحين والقرية الخرّفة تطلب بركاتها من الشيخ الذي أتاه الشيخ النطاط بالمنام وباركته العجوز، وأصبح لا ينقصه ماء ولا حب بل أصبح عشاؤه لحما وزبيبا، وخضرا طازجة من قصر الحاكم.

لم يرزق الحاكم بالولد فقد كان له مئة وستون بنتا، من أربعة نساء متكررات، فقد كانت مدة صلاحية المرأة خمس سنوات لتتغير بامرأة جديدة، تطلق الأقدم إن لم تمت نكدا، حتى وصلت عدد النساء خمسة وأربعون امرأة وكان له ابنة جميلة من نسل مبارك، وكانت معروفة بجودها حيث أنها لم تحب إلاّ رجلا واحدا في حياتها قد هجر في أول قافلة فقد عانى من وباء الملل، ورغم أن الحادثة مرّ عليها أكثر من عشرين سنة، وهي ابنة الخمسة والأربعين عاما الآن، إلاّ أنها لم تنسه إلى اليوم الذي جلب لها أبوها خبر زواجها من طفل الشيخ ذو الخمسة وستون عاما وأربعة أشهر، فقطعت كل علاقة بالحراس والسعاة والخبازين والمارين عبر القرية الذين كانوا يعانون من العزلة وكانت تدفئهم في سريرها المتوهج المتواضع بحنانها الفياض، في حين كان الزوج الموعود لم يقفل بعد الخمسة عشر عاما يندب حظه، ويتلفظ بشتى أنواع الشتائم حتى أنه في مرة تطاول على أبيه الذي كان يريد أن يرد جميل الحاكم واتهمه بالخيانة، بل بالكفر....

 

الاطرش بن قابل

 

في نصوص اليوم