نصوص أدبية

القرية الخرِفة والزواج

صحيفة المثقففي إحدى الليالي الباردة من شهر ديسمبر، كان الخبازون والفلاحون والحراس والسعاة، يستعطفون ابنة الحاكم أن تفتح عليهم ليتدفئوا على موقدها إلّا أنها كانت رافضة تمام الرفض لهذه العروض، رغم إحساسها الساخن ببرودة سريرها إلاّ أنها تذكرت الطفل الذي سينال سعادة كبيرة في إشعال هذا السرير، وتذكرت أهمية الشرف خاصة لابنة الحاكم، وأول من تتزوج من بناته وربما ابنها ولي العهد.

الطفل بن شيخ ضريح الشيخ النطاط، كان في غاية الذكاء فقد أخبر أبوه بأن الأخت الكبرى التي وعد بها، عاقر لا يرجى حملها، في حين تساءل شيخ الضريح بسذاجته المعهودة، عن كيفية علمه بذلك فأجاب الطفل بأنه سألها، وهو يعلم أن أبوه يرجو أن يكون له حفيد قد ينال الحكم، بعد أن ينال ابنه الحكم في احتمال كبير، فليس للحاكم أولاد، ويتخوف من أن يصيب الوباء ابنه فيرحل دون أن يترك له وريث، وفي حواره مع زوجته، قالت أن المرأة التي لم تحمل لسنين متتالية حتى تكبر لا يرجى حملها إلاّ بمعجزة.

وصادف أن التقى الشيخ بالبنت الكبيرة للحاكم، أثناء زيارتها للتبرك بضريح الشيخ النطاط، وطرح عليها السؤال، وكيف لطفله أن علم أنها لا يمكنها أن تنجب، فأجابت بعفوية وبكل سلاسة أنها حملت لعدة مرات وأن لها بنتان قد نسبتهم للطباخة في القصر، تأفف الشيخ لعلمه أنها لم تتزوج من قبل، ومضى في حديث آخر، وفي خاطره وجوب التستر.

هذا الابن الذي وصفه شيخ الضريح بعاق الوالدين، لم يكن في الحقيقة عاقا بمعنى الكلمة فقد استمع لنصف كلام أبيه، فعوض أن يتزوج بالابنة الكبرى للحاكم، وأثناء زيارته لزوجته الموعودة بالقصر، وجدوه في سرير مع أختها يتشاجران حول من فض بكرتها، في صراخ وصل حد الحدود الشرقية للقرية أين يوجد الضريح، ولم يلتمس الحاكم الأعذار فعقد قرانه على الصغيرة وبهذا تلاشت فكرة الزواج المبرمج، بعد الفضيحة المدوية في مخدع البنت الصغيرة، فرح الشيخ من صنيع ابنه رغم نكرانه لمثل هذه الأفعال.

في مراسيم العرس كان الحاكم قد بلغ المائتان وسنة كاملة ، وكان قد أصابه بعض الوهن وبدأت ركبته اليمنى لا تحمل وزنه الزائد، في حين أن أطباءه ذكروا له علّته بعد أن كشف رئيس الأطباء على عينه اليمنى، بينما كانت عينه اليسرى تستبشر بطول حكمه، فقد كان استنتاجهم خطيرا، فالسبب في نظرهم طول الحكم مع قلة النكاح، فكانت المناسبة جد ملائمة لينكح أحدهن، أغمض عينيه ودخل يتدلى على قدميه تجره الرغبة، واختار واحدة وضع يده عليها فالحاكم لا ترد له كلمة في القرية الخرفة، لكنه باسط الحيلة، كثير الخبث، استرق النظر من ثقب الباب قبل دخوله إلى القاعة الكبيرة التي تقام فيها الوليمة حيث كان الماء فيها سيد الطعام والشراب، فرّكز على طفلة فتية في مقتبل العمر، ضمها إليه وهي تبكي أمها في فوضى العرس، وأخذها إلى مخدعه وطلق الرابعة، وبعث الى كاتب عدله واثنين من وزرائه شهودا وأمر لأهلها بمهرها موردا حسنا وبيت وقربة ماء متجددة يوميا.

كانت البنت ترتعد من الخوف، هدأها قليلا ببعض الحلوى والعصائر وقليلا من اللعب التي كانت لبناته المئة وتسعة وخمسون فقد توفيت الكبيرة بحسرتها عندما تزوجت أختها بالزوج الموعود بكمية كبيرة من فطر مسموم.

انقض الحاكم على الصغيرة كالدب، وفي لمح البصر كانت البنت الصغيرة ترتعد في ركن الغرفة والدم يكسو قدميها. وهي مستغربة مما حلّ بها، تُلملم بعضًا من نفسها، وتستر بعضا من جسدها بغطاء، لا تدر أتبكي أم تندب حظها، أفكار تُناور رأسها الصغير، في خضم ذلك تقدم إليها الحاكم مرة أخرى بعد أن شرب جرة من العسل، ونصف قنطار من المكسرات وخروفين مشويين وكذا أشياء أخرى لا يعرف لها اسم، لكنه أكد تأكيدا شديدا أن يحضر له دواءه الذي هو عبارة عن خلطة أعشاب وبعض من مقادير يجهل مصدرها إلاّ أن طبيبه جزم أن الجرعة الواحدة هي خليط من عشرات الحبات من السياليس، رُش عليها مئات الحبات من الفياغرا وبعض كبد طائر الحبار وقليلا شراب مقوي، كانت الجرعة الموصوفة للحاكم نصف مغرفة صغيرة،لم يحترم الجرعة فقد شرب نصف القارورة لتزداد مردوده الحيواني، وعاود الكرة مرات ومرات حتى انتهى الأمر بالطفلة وقد دخلت في غيبوبة، لم يُعرها أي اهتمام وذهب يتصيد إحدى زوجاته السابقات، فقد تزيين لأول زواج خارج زواج الحاكم.

كما كان للحاكم شطحاته الخرِّفة، كان للقرية نفس الميزات، فقد أمر أن يقسم الماء على كل أهل القرية في حنفياتهم بمناسبة هذه الزيجة، وهذا الأمر لم يحدث من سنين حتى أن سذاجة أهل القرية كانت واضحة فلم يجدوا الأواني لتخزين الماء إلا القليل الذي لا ينفع إلا للتناول في حينه، فقد باعوا كل أوانيهم للجوالة الذين يجمعون النحاس والبلاستيك ليوردوه الى المدينة الكبيرة وراء البحار، لكنهم شربوا حتى ارتوا ظنا منهم أنهم بعد هذا الصبر على الماء أصبحوا في صبرهم مثل الإبل يكفيهم أن يرتوا مرة كل ثلاثة أشهر، بعضهم ملأ القدور وبعض الأواني لكن أحد الأذكياء بدأ بحفر بئر في باحة منزله فلما أكمل الحفر وأراد أن يملأه كان الماء قد غادر إلى أطراف المدينة، بجوار قصر الحاكم.

العجوز التي تعرف كل شيء باتت ساهرة طول الليل تخزن الماء في كل شيء حتى في الفناجين، ومع بزوغ الفجر استحمت فتناقص عمرها عشرون سنة أو أكثر بقليل وهي تستدرك الأمر تحسرت، فلو علمت بالسر الكبير الذي حمله هذا الماء فربما كانت ستغتسل عدة مرات، قالت هذا في نفسها، قصت الحكاية على جاراتها فتحسرن كذلك لكنهن ذكرن أنهن استحممن ولم يشببن كما شبّت، فتذكرت أن السر في الصابون الذي وجدته مع ملابس جدتها، فيه سحر من الهند أو ربما مكان آخر.

فقررت بخبث أن تتزوج بشيخ الضريح لعلمها بما يجود عليه نسيبه الحاكم من ماء، رسمت خططت نفذت فكان لها ما تريد، بعد أن ماتت زوجته في البئر الذي حفره جارهم في باحة منزله في انتظار أن تجود الحنفيات بالماء، وكانت قد دعتها بإيعاز من العجوز الذي تعرف كل شيء عن القرية الخرّفة.

في الجهة المقابلة للقرية، كانت زوجة الحاكم الجديدة وابنته يتزاحمان على المخاض وكل من الحاكم وولي العهد زوج ابنته، قبل هذا الحمل، ينتظران على أحـــــــــر من الجمر الوريث، ففي القرية الخرّفة لا ترث المرأة الحكم..

 

الاطرش بن قابل

 

في نصوص اليوم