نصوص أدبية

وعينا الباطن

saleh alrazuk2دخلت من الباب الخلفي وأسرعت إلى المطبخ. كان أمامي اليوم واجب تحضير الفيليه مع الحساء. كنت أعمل في فندق اسمه (الفصول الأربعة). وأحضر فيه وجبة آخر اليوم. وبدأت هذا العمل بعد طردي من الصحيفة بسبب كلام عن رئيس عربي. لا تسأل أية صحيفة. كله حبر على ورق. كما نقول: كلام جرائد. الحرية مفقودة في كل مكان.

ارتديت الصدرية البيضاء. وألقيت نظرة بالمرآة. آه. ها أنا مثل عالم في المخبر، أو طبيب في غرفة العمليات. الحياة مظاهر. وباشرت بإيقاد الفرن. ثم توجهت إلى الثلاجة للتنقيب عن مكان الفيليه. وخلال ذلك لم أتوقف عن التفكير بجودي. فقد اتفقنا أن نلتقي اليوم بحوالي العاشرة أمام الملهى الذي تعمل فيه.

ولا يمكن أن تتأكد أن جودي هو اسمها الحقيقي. مثلما لا يمكن أن تقول عن عملها إنها فنانة. فالملهى له سمعة سيئة. ويمكن أن تجد فيه القواد والمروج للمخدرات. وحتى السهر فيه مخاطرة. فهو قريب من حامية للحلف. وطبعا أقصد الناتو. وكان يأتي إليه صغار الجنود، ويبحثون عن أي متعة. أي نوع من السعادة الرخيصة. وليس من النادر أن تدب مشاجرات، وتنتهي بمعركة بالسكاكين أو بالزجاج المكسور.

ولكن هذا لا يعني أن جودي بغي.

بالتأكيد كلا.

وحسب معلوماتي كانت تشترك بالغناء مع كورس وراء فرقة عازفي ساكسوفون. وأحيانا مع عازف جاز أو غيتار زنجي. ولا أعرف اسمه. لكن التقيت به مرة على الرصيف أمام الملهى. واستغربت من لون وجهه. لم يكن أسود. إنما بنفسجي بلون التيوليب. وكانت له حنجرة بحجم تفاحة صغيرة أو كرة بينغ بونغ. ولا بد أنها من جراء النفخ المستمر بالبوق.

بالإضافة للإنشاد كانت جودي تساعد في تقديم المشروبات. وفي هذا الجو الموبوء لا تتوقع أن تجد ملائكة. الفساد يضع الإنسان على المحك، ويمتحن قدرته على الصبر. ولا أعلم بالضبط كيف تنظر جودي لمسألة الفرق بين المسموح والممنوع. وهل لديها فلسفة صارمة في ضبط إيقاع حياتها أم أنها تتساهل به كثيرا؟.

لم يكن لي أن أعرف. فأنا لم أدخل إلى ملهى في كل حياتي. وهذه الليلة ستكون سابقة. فقد دعوتها إلى العشاء في المطعم، واشترطت لتلبية الدعوة أن أزورها في الملهى. وأرجو أن لا تفهوا أنني دعوتها لصالة الضيوف، فهذا فوق طاقتي، ولكن إلى المطبخ. هنا. خلف الكواليس. وراء ستائر الدخان. أو ما أقول عنه العازل الشفاف تيمنا بسارتر.

لوا عتب علينا غذا استعرنا هذه المفردات.

وسواء استعنت بسارتر الفرنسي أو كولن ولسون الإنكليزي لا يوجد فرق، كلها ثقافة كولونيالية. أما كيف

نعود لموضوعنا..

تعرفت على جودي بالصدفة. فقد كنا نسكن في نفس البرج. هي تحتل الغرفة 5 وأنا في الغرفة رقم 3. وكنا نلتقي في وقت متأخر. بعد أن يغلق المطعم أبوابه و يطلق سراحي. أتخلى عن الصدرية. و أتركها معلقة على خطاف في الجدار. حياتي كلها اصلا معلقة في الفراغ. و بالنسبة لها بعد نوبتها في الملهى. وفي تلك الساعة يكون البرج مثل عمود أسود. قامة فارعة في الهواء. باستثناء المدخل تراه يسبح في النور وغالبا يغلفه الغبار. كانت حياتنا جزءا من هذه المهزلة البشرية، وبالأخص إذا نظرت للأسباب التي قادتنا إلى هذا الطريق.

شخصيا أتيت لدراسة الاقتصاد، وكنت بحاجة لعمل متواضع لتأمين النفقات، وبدأت بتنظيف فندق للطلبة. وكان التعامل مع طلاب من مختلف أرجاء العالم بحاجة لمعدة واسعة، فانتقلت للخدمة في إحدى الحانات قرب المرفأ. عند الخط الذي يفصل شرق المدينة عن القطاع التجاري. وهناك لم أصمد أمام المسنين والعاطلين عن العمل. فقد كان رواد الحانة شلة من اليائسين، ولا يندر في نهاية يوم العمل أن تحملهم إلى الشارع لتلقيهم على الرصيف، وأحيانا أتلقى منهم الركلات أو الشتائم.. مثل خميني أوعربي.

تخيلوا. لا يعرفون الفرق بين الفرس والعرب. وكل إنسان أسمر أو حنطي مصدر تهمة جاهزة. ولم ينقذني من هذا الصداع غير العمل في جريدة ثم مطبخ.

وحكاية جودي لا تختلف كثيرا. على الأقل حسب كلامها. ولكن لا أضمن أنها الحقيقة. كانت تبدل في التفاصيل باستمرار. أحيانا تقول إنها تدرس علم النفس، وأحيانا الهندسة. وكنت أبتسم حين أنتبه لهذه المفارقات غير أنها لا تهتم. خذ أيضا اسمها على سبيل المثال.

مرة يكون جيني وأحيانا جولي، ومرة رأيت رسالة لها في صندوق البريد باسم الآنسة ميرالدا. و آمل أن لا يتهمني أحد بالتطفل أو استراق النظر.

كنت أبحث عن رسالة لي. و فاجأتني رسالتها.

و لحينه لا أعلم لم تتنكر بكل هذه الأسماء. لعلها لا تحب أن تشاهد نفسها في المرآة. لعلها تفضل أن تختفي خلف هذه المكياجات الاجتماعية كي لا تصدمها الحقيقة. الواقع في هذه البلاد بارد، وبالنسبة إلينا هنا هو رمز لأخطاء الحضارة، يعني باختصار هو كناية عن الخطيئة التي نسقط فيها.

أما عن موطنها. مثل اسم العلم. حدث و لا حرج. أخبرتني إنها من تركيا، فقطبت وجهي، و قلت سرا: يا منافقة. يا كذابة. أسماؤك كلها غريبة. ولكن ضبطت لساني وقلت لها بتهذيب: تركيا؟. لماذا؟ هل أحد والديك أوروبي؟؟.

ودخلت معي في حكاية معقدة عن جذور والدها العثماني. وكانت تريد أن تقنعني أنه من اليونان و له أم بلغارية. وكان يخدم الجيش في أزمير. و بعد الاستقلال وجد نفسه في تركيا. ولكن لم أحمل المسألة على محمل الجد. ماذا يعنيني أصله المزعوم؟. فنحن هنا. في الأرض المحايدة. دون خلفيات، ونغرق في ضباب أصفر يمحو كل شيء من الذاكرة القريبة. ناهيك عن الماضي البعيد. قطار الحياة هنا أسرع من لمح البصر، ولا يمكن أن تصمد شخصيتك أمام ما يتراكم عليها من غبار.. دخان السجائر وحده يدفنك تحت طبقات عميقة من السموم. كل متر مكعب من الهواء فيه ملوثات تكفي لتسميم غابة.

أوشكت أن أنتهي من تحضير الحساء. وارتفعت خيوط البخار من القدور. وشاعت في الغرفة نكهة العصفر. سر هذا الحساء الشرقي.

إيكزوتيك.

هكذا يسمونه. على وزن ويستيرن. كما هو اسم جودي التركية إن صحت الحكاية.

وفي هذه اللحظة رن جرس المنبه، وفتحت عيوني، كنت في حلم.

عجيبة. من أين هذه التفاصيل؟؟. كلها واضحة في ذهني كأنني أقرأ رواية. وسمعت صوت جاري الزنجي المشلول وهو ينشد قصيدة لأرمسترونغ بصوته الأجش المخنوق.

لكن من هي جودي؟ ولماذا تطفو على ذهني؟ لا يمكن أن تحاسب إنسانا على أحلامه. وعينا الباطن ملك غيرنا. هكذا علمنا فرويد.

 

صالح الرزوق

 

 

في نصوص اليوم