نصوص أدبية

مقامة: افتنانية

فاتن عبد السلام بلانحدَّثَتنا سَلاّمةُ بنتُ دُلاَمَة، صاحبةُ مجلِسِ المقامة؛ عنْ تاجِرٍ منْ مَدِينَةِ اليَمَامَة، يُدعى أبو يُوسُف علامَة ؛ ويُكنّى بشَيْخِ العَطَّارِين، قد اقعدَهُ المرَضُ بعد أنْ تجَاوَزَ بعَمْرهِ الْثمَانِين، كانَ يُعرَفُ بالصَّالِحِ الحَكِيم، والعارفِ بأحوالِ الدُّنْيَا والعَلِيم ؛ ولمّا طَالَ السَّقْمُ بالسَّقِيم، وأَمسَى على فِرَاشِه يحتَضر، وهَذا حَالُ كلّ البَشر، اعتَدَلَ في جلْسَتِهِ وأَمَر،

أنْ يَحضُرَ ابنَهُ يُوسُف فحَضَر، وقَبْلَ رَحِيلِهِ ببِضْعِ سَاعَات، كانتْ وَصَايَاهُ في هَذِه الكَلِمات الآتيات: -

يابُنيّ: الْحَيَاةُ الدُّنْيَا هي الحَيَاةُ السُفْلَى، والحَيَاةُ الآخِرَة هي الحَيَاةُ العُلْيا، فتَزَوَّدْ من دُنْيَاكَ بالطَّاعَة، لتَحْظى في آخِرَتِكَ بالشَّفاعَة، فحَيَن تَقُومُ السَّاعَة، لنْ يَلبَثَ الْمَرْءُ سَاعَة، وعندما يَحينُ أَجَلَك، سيَسبُقك عَمَلَك . .

إنَّ الحَيَاةَ الدُّنْيَا بَلْوَى وإبْتِلاء، والحَيَاةَ الآخِرَة عُقْبَى ورَخَاء، وإنَّ السَّيِّئَاتِ يَمحِينَ الْحَسَنَات، والْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَات، فمنْ عَمَلَ حَلاَلًا ثَقُلَتْ مَوَازِينه، ومن صنَعَ حَرامًا خفَّتْ مَوَازِينه، وكما تَزرَعُ هُنا في الزَّائِلَة، تَحصِدُ هُناكَ في الباقِيَة، فحَيَاةُ الدُّنْيَا زَوَالُ اللُّحُومِ والجُلُود، وحَيَاةُ الآخِرَةِ بَقاءُ الأَرْوَاحِ والخُلُود .

يابُنيّ: كنْ عبْدًا مُطِيعًا للّه، فأنتَ مَخْلوقٌ والخَالِقُ اللّه، إنْ اسْتَعَنْتَ فاسْتَعنْ باللّه، وإنْ صَدَقَتَ فاَصْدقْ مع اللّه، وإنْ عَزَمتَ تَوَكَّل على اللّه، وإنْ اِستَعصَاكَ أَمْرٌ قُلْ يا الله، فمنْ وَكِيلُكَ إلاّ اللّه ؟ ومنْ حَسيبُكَ غير اللّه ؟ فبنِعَمِ اللّهِ حَدّثْ وأشْكُر، ولأَمْرِ اللّهِ آمنْ ولا تكْفُر، واعلمْ يابُنيّ أنَّ عَيْنَ اللّهِ ساهِرَة، وخَزَائنَ رزقِهِ عامِرَة، يُعطي الرَّزْقَ لمنْ يَشاء، ويَأخُذُ الرَّزْقَ ممنْ يَشاء، فلا تكن ممن يلهثون خلفَ المُحَال؟، وينصِبونَ شِرَاكَهم ويعقِدونَ الآمال؟، فتَنَتهم الْأَمْوَالُ والْأَوْلَاد، وأَخَذَهم التَكْديسُ والأَعْدَاد .

قال تعالى {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}

صدقَ اللهُ العظيم .

فلا تتَسَابق مثلَهُم إلى الملذَّات، ولا تُغرق نفسكَ في الشهَوَات، ولا تظنْ أنَّ المَالَ يُغيّرُ الحَال، ويُرِيحُ الفِكْرَ والبَال، فأيُّ مَالٍ هَذا وأيُّ حَال ؟

و اعلمْ أنَّ في الدَّنَانِيرِ امْتِحَانٌ عَسِير، إنْ زادتْ أو قلَّتْ لنْ تُبدِّلَ المَصِير، فما نَفْعَها والعَبْدُ إلى ربِّهِ فَقِير ؟، فيا بُنيّ، لا تمُدّْ يَدَ الحَاجةِ إلاّ للّه

قالَ تعالى {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} صدَقَ اللّهُ العظيم .

يابُنيّ: حَيَاتُنا الدُّنْيَا كالدَّائِرَة، فِيكَ وبغِيرِكَ سَائِرَة، نِهَايَتُها عندَ بِدَايَتُها، فَوقَ تُرَابِها أَحْيَاء، وتَحتَ تُرَابِها أَمْوَات، ومنْ تابَ إلى ربِّهِ، باتَ في رَوضِه، فوَازنْ بينَ أَفْعَالِكَ وأَقْوَالِك، وأحزَانِكَ وأَفْرَاحِك، فلا تُفْرِطْ في الْمُزَاحِ والجِدّ، ولا في الهَزْلِ والنَّكَد، وإنْ ظَلَمتَ مَظْلُومًا لنْ تَسْلَم، وإنْ أسلمتَ لظَالِمٍ ستُظْلَم، واعلمْ أنَّ في الحَلاَلِ السَّلامَة، وفي الحَرَامِ النَّدَامَة، فاعْقلْ بالحُسْنَى والدّين

كي لا تكونْ منَ النَادِمين .

يابُنيّ: أُوصيكَ ببِرِّ الوالِدَيْن، ستَحْظى برِضاهما في الدَّارَيْن، وأوُصيكَ بصِلَةِ الْأَرْحَام، وبحُبِّ الأخْوَالِ والأعْمَام، فالأخْوَالُ من الأُمِّ نُصْرة، والأعْمَامُ من الأبِ ذُخْرة .

يابُنيّ: ارْحَمْ عَزِيزَ قَوْمٍ ذَلّ، وكَريمًا مَالهُ قَلّ، وصَحيحًا بهِ المَرَضُ حَلّ.

لا تَدِينْ غيركَ كي لا تُدَان، وصُنْ أَعْرَاضَ النَّاسِ كي تُصان، اصبرْ وكنْ في الصَّبْرِ صَبُور، واغفرْ ليَغفِرَ لكَ الغَفّارُ الغَفُور، ولا تقُلْ إلاّ الحَقّ، وإنْ حَكَمْتَ فبالحَقّ، وأقولُ لكَ الحَقّ، إنَّ الحَقَّ حَقّ، وربُنا الحَقّ، وعندَ اللّهِ لنْ تضِيعَ الْحُقُوق .

يابُنيّ: كنْ في مَجَالِسِ الحُكَمَاءِ كالمُرِيد، وخُذْ من العُلَمَاءِ كُلَّ قَدِيمٍ وجَدِيد، وكنْ بينَهُم صامِتًا سامِعا، ولِجوَاهِرَ مَوَاعِظَهم جامِعا، ولِنصَائِحِهم طامِعا، وأيّاكَ أنْ تُناقِشَ السُّفَهَاء، أو يُغريكَ مَالُ وحَالُ الأَغْنِيَاء، بلْ احْسِنْ إلى الأَيْتامِ والْفُقَرَاء .

يابُنيّ: كنْ صَاحِبَ أَخْلاَق، ابتَعدْ عنْ النِّفاق، ولا تُصَادقْ الأفَّاق، وإيَّاكَ أنْ تُعيبَ أحَدا، وتَحَلَّى بالصَّبْرِ والْجَلَدِ ابدا، واحْذَرْ من الغَضَب، ولا تُكْثرْ في العَتَب، ولا يأخُذْكَ بَرِيقُ الذَّهَب، فمن ذَهَبَ بالذَّهَب، عَقْلهُ رَحَلَ وذَهَب !

لا تُصَادِق الْكَاذِب، ولا تُخاصِمْ الصَّادِق، ولا تَسْتَضْعِفْ النَّمْلَة، ولا تَسْتَكْبِرْ الْفِيل، وأَقُولُ لكَ الحَقّ، شتَّانَ بينَ التَّوَاضُعِ والغُرُور، وبينَ القُوَّةِ والضَّعْف، وبينَ المَتَانَةِ والهُزَال، فكُلّنا من طِيْنةٍ واحِدَةٍ وإلى خَالقِنا الرُجُوع .

يابُنيّ: إذا نَزَلْتَ عندَ قَوْم، كُنْ كَفِيفَ العَيْنِ عن عَوْراَتِهم، حتّى وإنْ كُنتَ بَصيرًا لزَلَّاتِهم، احْفَظْ لَهمْ سِرّا، ولا تَسرّْ عنهُم ضَرَرا، وفُكّْ كَفَّكَ عنْ البُخْل، وكُفّْ فَكَّكَ عن الكَلام .

واعلم أنَّ الحَيَاة، حِبْرٌ وحَرْبٌ وربْح، الحِبْرُ عِلْمٌ نَافعٌ ينفَعُ النَّاس، والحَرَبُ مُحَارَبَةُ الوَسْواسِ الخَنَّاس، والرِّبْحُ عَقْلٌ سَلِيمٌ يُريحُ الرأْس .

واعلمْ أنَّ الحَيَاة، جُرْحٌ وحَجَرٌ وجُحْر، الجُرْحُ إنْ عُرِفَ الدَّاءُ سيُعرَفُ الدَّوَاء، والحَجَرُ أَصَمٌّ أَبْكَمٌ ليسَ منّهُ شِفَاء، والجُحْرُ واجهْ عدُوَّكَ دونَ خَوْفٍ واِخْتِبَاء .

واعْلمْ يابُنيّ: أنَّ كُلَّ منْ حَلَّ بشَرّ، خيْرَهُ حَال، وكُلَّ منْ زَلَّ عُمره، بعُمْرِهِ زَال، وكُلَّ منْ مَلَّ دِينَه، عنْ دِينِهِ مَال .

أمّا نِهَايَةُ الحَدِيث، أُوصيكَ بِثَلاثَة، بالعِلْمِ والخِيَرِ والْفَضِيلَة، فمَعِينُ الْعِلْمِ نْبعٌ جَارٍ لنْ يَنضُب، ابذرْ الخِيَرَ وأنْسَاهُ فأجرُهُ لنْ يذْهَب، وصَاحِبُ الْفَضِيلَةِ مُرتاح لا ولنْ يتْعَب .

وأَنْهَاكَ عنْ ثَلاثَة، الجَهْلُ والبُخْلُ والرَّذِيلة، فالْجَهْلُ يُعمي الْأَبْصَارَ والقُلُوب، والبُخْلُ يَقبِضُ الْأَكُفَّ ويَملأُ الْجُيُوب، والرَّذِيلَةُ تَزِيدُ بالرَّزايا والذُنُوب .

اللّهُمَّ إنّي بلَّغتْ، وبِحُكمِكَ رَضِيتْ، وإليك أَسْلَمْتْ، أَدْخِلْنِي مَدْخَلَ الصَّالِحِين، واجعْل وَلَدِي من الْمُهْتَدِين، وفي السَّلاَمِ سَلاَمٌ وكَرَمٌ وإكْرَام، عَليكَ وعَليِنا الرَّحْمَةُ والْمَغْفِرَةُ والسَّلاَم، حَماكَ ربُّ العَرْشِ ذُو الجَلاَلِ وَالإِكْرَام، فمنْهُ وعندَهُ كُلّ الأمْنِ والسَّلاَم ، سُبْحَانَ منْ نَادَى للسَّلاَمِ وهُوَ السَّلاَم .

 

فاتن عبدالسلام بلان

......................

*ملاحظة:: الود ودي أن أجمع كل ورود الدنيا، وكلمات الشكر في باقات، وأقدمها للأستاذ الشاعر والكاتب والأديب والهايكوي ورائد المقامة الحديثة السيد (زاحم جهاد مطر)، على توجيهي وإرشادي وأخذه بيدي ليدلني على الطريق الصحيح في فن البديع، فيا أستاذي الرائع طبتَ عُمرًا وفكرًا وحرفًا ودامت إبداعاتك مُشرقة ومُشرّفة في كل مكان .

 

 

في نصوص اليوم