نصوص أدبية

بيت شارع القيقب (2-2)

صالح الرزوققصة: ستيفن كينغ*

ترجمة: صالح الرزوق

.............................

في اليوم السابق، لاحظ في العلية شبكة رفيعة من أسلاك متداخلة تنمو في زاوية منخفضة ومعتمة تحت الأطراف. زحف ترينت على يديه وركبتيه، ولم يصل لنتيجة. أصبح قذرا وارتفعت حرارته. ثم انتبه لهذه الظاهرة فجأة. جمد في مكانه، ونظر عبر خصلة من الشعرحيث تشابكت الأسلاك دون أن يعرف من أين تأتي. (بدت له كأنها تأتي من المجهول على الأقل)، كانت تتقاطع وتلتف حول بعضها البعض بتماسك وكان يبدو أنها تتكاتف وتتابع الانتشار حتى تصل إلى الأرض. وهناك تتغلغل فيها وتستقر في طبقة من نشارة الخشب القليلة والباهتة. ويبدو أنها صنعت نوعا من المنمنمات الخشبية وكان يبدو أنها متينة، وقادرة على دعم البيت وتمكينه.

كانت توفر له الأساس والصلابة. ومجددا أدرك ترينت أنه فهم المغزى: كان من الصعب أن يقتنع لكنه يعلم. كان هناك خزانة صغيرة في الطرف الشمالي من القبو، بعيدا عن المستودع والفرن.  

كان والده يسميه "قبو النبيذ". واحتفظ فيه بنصف دستة من زجاجات المقوي (كانت والدته تضحك من هذا التعبير دائما) وكلها مرصوصة في رفوف متقاطعة جهزها بنفسه. كان لو لا يأتي إلى هنا إلا بالصدفة، ويزور غالبا المستودع. فهو لا يشرب النبيذ. ومع أن أمهم تستهلك زجاجة أو إثنتين مع الوالد، لم تكن مدمنة على النبيذ أيضا. ويتذكر ترينت كم كانت حزينة حينما سألها برا لماذا لا تشرب ولو كأسا من المقويات وهي ممددة أمام الموقد كما في السابق.

أخبرت برايان:" لو لا يحب الشراب. يقول إنه للعاجزين".

وكان في باب قبو النبيذ دعامة، وهي هناك لتضمن أن الباب لا يتأرجح حول نفسه ولا يسمح بتدفق الحرارة من الفرن.

كان المفتاح معلقا بجواره، ولكن ترينت لم يكن يحتاجه. كانت الدعامة غير مثبتة بعد إجراء تنقيباته الأولى، ولم يحضر أحد لإعادتها لمكانها. وحسب علمه، لم يأت أحد إلى هذه الناحية من القبو بعد ذلك.

ولم يستغرب من نسمات الهواء الآسن المشبع بالنبيذ التي قابلته وهو يقترب من الباب، هذا إثبات آخر عما يعلمه هو ولوري- كانت التحولات توسع من مجالها في كل البيت. فتح الباب، ومع أن ما شاهده أخافه، لكن لم يدهشه.

كان التصفيح الحديدي يتدفق من جدارين من جدران قبو النبيذ، وكان المعدن يتخطى الرفوف المتراصة والمتداخلة ويباعد ما بين زجاجات بولينغير وموندافي وباتيغليا ويلقيها على الأرض، حيث تتحطم.

ومثل الأسلاك الموجودة في المكان الضيق، ومهما كان السبب بتشكيلها – نموها، لو استعمات كلمات لوري – فهي لا تزال تتطور. ولا تزال تتوالد بلمعان يخطف الأبصار وقد أضر بنظر ترينت وأصابه بالانقباض في الأمعاء والغثيان.

ومع ذلك لم يجد هنا الأسلاك، ولا القوس المنحني. ولكن ما كان يكبر في قبو نبيذ والده الحقيقي المنسي يبدو مثل علب أو خبيئة وملحقات. وكانت الأشكال الغريبة بنظره تتدافع فوق المعدن مثل رؤوس ثعابين نشيطة، أو دوائر، وتحولت لأقراص وعتلات وأرقام. وكان هناك أنوار لماعة قليلة. وبعضها بدأ يبرق كلما وقعت عينه عليها. ومعها صوت نبضات خافتة رافق هذه المخلوقات الحديدية.

اتخذ ترينت خطوة حذرة في الغرفة الضيقة. فقد لفت انتباهه ضوء أحمر ناصع خاص، أو سلسلة منه. وعطس وهو يقترب منها. فالآلات والأدوات التي تتمدد على الأرض القديمة الإسمنتية أثارت الكثير من الغبار.

كانت الأضواء التي استحوذت على انتباهه أرقاما تحت شريط زجاجي، وكان الشريط مثبتا على معدن يدور حول نفسه ويغادر مكانه. وبدا هذا الشيء الجديد كأنه كرسي، ولكن لا أحد يجلس عليه مع أنه مريح. على الأقل، لا يوجد أحد له شكل إنسان، وداهمت هذه الفكرة رأس ترينت وجعلته يرتعش.

كان شريط الزجاج على أحد أذرع هذا الكرسي المشوه - لو أنه كرسي. واحتلت الأرقام عينيه ربما لأنها تتبدل كالتالي:

72:34:17 أصبح 72:34:17 ثم 72:34:16.

نظر ترينت لساعته، وكان لها عقرب سريع، وأكد له ما أخبرته به عيناه. الكرسي ليس كرسيا على الأرجح، ولكن الأرقام الموجودة تحت الزجاج هي ساعة رقمية. وهي في العد العكسي. إنها تعود لنقطة الصفر، إذا رغبت أن تكون دقيقا بكلامك. وتساءل ماذا سيحصل حينما ينتقل الرقم 00:00:01 إلى 00:00:00 بعد ثلاثة أيام بالضبط من هذه الأمسية؟.

كان متأكدا أنه عرف المشكلة. كل ولد أمريكي يعلم شيئا من إثنين يحصلان إذا وصلت ساعة العد العكسي للصفر على اللوحة، إما انفجار أو إقلاع. ولاحظ ترينت أن المعدات هنا كثيرة. يوجد الكثير من المعدات التي تنفي فكرة انفجار.

واعتقد أن شيئا دخل إلى البيت حينما كانوا في إنكلترا. نوع من الأبواغ، ربما، ولا بد أنه ارتحل في الفضاء لمليارات السنين قبل أن يسقط في الجاذبية الأرضية، ويهبط للأسفل عبر الجو مثل عشب بحري خفيف سقط في هواء جارف، وفي النهاية تسلل من مدخنة بيت في تيتوسفيل، إنديانا.

وصادف أنه بيت آل برادبوري في تيتوسفيل، إنديانا.

ربما هو شيء مغاير تماما، طبعا، ولكن فكرة الأبواغ أقنعت ترينت، ومع أنه كان الأكبر بين أبناء برادبوري، ما زال شابا ولا يمكنه أن ينام جيدا بعد تناول بيتزا بيبيروني في التاسعة مساء، ثم يستسلم لحدسه وتخمينه.

وفي النهاية، هذا لا يهم، أليس كذلك؟. المهم ما حصل. وطبعا، ما سوف يحصل.

وحينما غادر ترينت قبو النبيذ في هذه المرة، لم يغلق الدعامة فقط، ولكنه حمل معه المفاتيح أيضا.

***

لقد حدث شيء فظيع في حفلة جامعة لو. وحدث في التاسعة والربع، وذلك بعد حوالي خمس وأربعين دقيقة من وصل أول الضيوف، وسمع ترينت ولوري صراخ لو على أمهما وهو يتهمها بالإهمال والحماقة – ولو أنها انتظرت حتى العاشرة أو ما يقاربها، سيكون هناك خمسون شخصا أو ربما أكثر يتجولون في غرفة المعيشة، وغرفة الطعام، والمطبخ، والجناح الخلفي.

قال:"ماذا حل بك يا امرأة؟". سمعه ترينت ولوري يصيح، وحينما شعر ترينت بيد لوري تلمسه، مثل فأر بارد صغير، تمسك بها بقوة. وتابع الوالد:"هل تعلمين ما سيقوله الناس حول ما حصل؟. هل تعلمين شيئا عن طريقة كلام أعضاء القسم؟. أقصد كاثرين – إنها مثل ثلاثة عجائز".

وردت الوالدة بنعومة، مع تنهدات يائسة، وشعر ترينت للحظة فقط بنفحة من الكراهية والمقت. لماذا اقترنت به منذ البداية؟ إنها تستجق هذه المعاملة بسبب ورطتها.

نحى الفكرة من رأسه وغمره الحياء، كان لا بد للظروف أن تزول، والتفت إلى لوري.

وساءه أن يشاهد الدموع تنسكب على وجنتيها، والأسف الصامت في عينيها، وأثر كل ذلك في قلبه كأنه نصل سكين.

همست تقول:"حفلة عظيمة أليس كذلك؟". ومسحت وجهها بباطن يديها.

قال:"صحيح يا شاطرة". وضمها لتتمكن من البكاء على كتفه دون أن يسمعها أحد. وأضافت:"هذا سيشكل قائمة أفضل عشرة معزوفات عندي في نهاية العام. ودون كد ذهن".

ويبدو أن كاثرين إيفانز (و التي كانت تتمنى بمرارة أن تعود إلى اسمها القديم كاثرين براديبوري) تكذب على الملأ. وكانت تحت تأثير شقيقة فظيعة ليس خلال اليومين الأخيرين، أو اليوم السابق فقط، ولكن طوال أسبوعين. وخلال هذه الفترة لم تتذوق الطعام وفقدت خمسة عشر رطلا من وزنها. لذلك حينما كانت تقدم أصابع المعجنات المحشية لستيفين كروتشمير، رئيس قسم التاريخ، وزوجته، أغمي عليها وسقطت. لقد مالت إلى الأمام كأنها بلا عظام، وسكبت كل صينية شطائر الخنزير الصيني على ثوب السيدة كروتشمير وكان ثمينا من طراز نورما كمالي، وقد اشترته فقط لهذه المناسبة.  

سمع بريان وليسا المشكلة وزحفا على السلالم بالبيجاما ليتأكدا مما يحصل. مع أن كلا منهما – كل الأولاد، ولهذا السبب – منعهم الأب لو من مغادرة الطابق الأخير من البيت بعد بداية الحفلة.

وقال الأب لو بخشونة في تلك الأمسية:"موظفو الجامعة لا يحبون رؤية الأولاد في الحفلات. هذا يشعل كل أنواع الشرارات في نفوسهم".

وحينما شاهدوا أمهم تركع على الأرض. كانت المعنية ( السيدة كروتشمير) غير موجودة ، وتبحث عن ماء بارد لتنظيف ثوبها قبل أن تجمد بقع الصلصة. ونسوا زوج أمهم وتعليماته الصارمة وتدخلوا بسرعة، كانت ليسا تبكي، وبرايان يصيح بغضب. وأصابت ليسا رئيس قسم الدراسات الآسوية في كليته. وبريان الذي يكبرها بعامين ووزنه أكبر بثلاثين رطلا، فعل ما هو أفضل: دفع المحاضر الزائر الذي جاء لفصل الخريف، وآنسة بدينة بثوب وردي وصندل مسائي مفتوح، فارتطمت بالموقد. وجلست هناك، مذعورة، وغطتها هبة من الرماد الفضي الأسود.

وصاح برايان:"ماما، مامي". وهز كاثرين برادبوري سابقا وأضاف:"مامي. استيقظي".

ولكن السيدة إيفانز ارتجفت وأنّت.

قال لو ببرود:"اصعدوا إلى الأعلى".

وحينما لم تبدر عنهم علامة تدل على الطاعة. وضع لو يده على كتف ليسا وضغط عليها حتى تألمت. وكانت عيناه تقدحان شررا، ووجه أصبح شاحبا، وأبيض بسبب انتفاخ وجنتيه.

وقال من بين أسنانه المطبقة بإحكام دون أن يفتح فمه ليتكلم:"سأعتني بالأمر.اصعدي أنت وأخوك حالا...".

لكن قال ترينت بصوت مرتفع:"اسحب يدك عنها. يا ابن الكلب".

انسحب لو – وكل أفراد الحفلة الذين وصلوا باكرا وشاهدوا المسرحية الجانبية –إلى القنطرة بين غرفة المعيشة والصالة. ووقف ترينت ولوري هناك، جنبا إلى جنب. كان ترينت شاحبا مثل زوج أمه، ولكن وجهه كان هادئا ومتماسكا. كان بين الحضور – القليل منهم – من يعرف الزوج السابق كاثرين إيفانز. وأقروا جميعا أن التشابه بين الأب والابن مدهش. وهذا في الحقيقة، كـأن برادبوري عاد من الموت ليواجه بديله العصابي والأحمق.

قال لو:"أطلب منكم أن تصعدوا. جميعكم. لا يوجد هنا ما يعنيكم. لا شيء يهمكم أبدا".

وعادت السيدة كروتشمير إلى الغرفة، وصدر ثوبها نورما كامالي الرطب بلا بقع.

قال ترينت:"ارفع يدك عن ليسا".

وقالت لوري:"و ابتعد عن أمنا".

نهضت السيدة إيفانز، ووضعت يديها على رأسها، ونظرت فيما حولها بضعف ووهن. كان الصداع ينتفخ في رأسها مثل بالون، ويتركها ممزقة ومكشوفة ولكن بلا ذلك التلبك الذي أصابها خلال الأسبوعين المنصرمين. وكان من الواضح أنها تعلم أن ما يدور حولها شيء فظيع. وتسبب بالهلع للو، وربما ألحق به الخزي والحياء، ولكن في تلك اللحظة كانت ممتنة لأن الألم توقف. أما العار فسوف يجللها لاحقا. ولم يكن في رأسها غير رغبة واحدة: أن تنسحب إلى الطابق الثاني، وتستلقي في السرير.

قال لو:"سأعاقبكم على ما جنت أياديكم". ونظر لأولاد زوجته الأربع بنفس الصمت المريب الذي جمد غرفة المعيشة. ولم ينظر لهم جميعا نظرة شاملة، ولكن قلّب عينيه فيهم فردا فردا. كأنه يفكر بطبيعة الجريمة المرتبكة وخطورتها. وحينما سقطت نظرته على ليسا بدأت تعول. فقال للضيوف:"آسف على سوء تصرفهم. زوجتي لينة العريكة معهم، ولكن هم بحاجة لمربية أطفال إنكليزية قوية الشكيمة..".

قالت السيدة كروتشمير:"لا تكن مغفلا يا لو". وكان صوتها مرتفعا ولكن بلا نغمة. وكانت تبدو مثل مغفل ينهق. قفز برايان وقبض على أخته، وانفجر بالدموع وقالت السيدة العجوز:" زوجتك أغمي عليها. وحز ذلك في نفوسهم. هذا كل شيء".

وقالت المحاضرة الضيفة وهي تجاهد لتنهض من الموقد بجرمها الهائل:"هذا مؤكد".

وكان ثوبها اللازوردي الآن مغمورا بالرماد ووجهها ملوثا بالهباب. فقط كان حذاؤها بمقدمته الملتوية والعبثية يبدو أنه وفر على نفسه هذا الذل، ومع ذلك لم يكن يظهر أنها متأثرة بما حصل.

وأضافت:" على الأولاد الاهتمام بأمهاتهم. والأزواج بزوجاتهم". نظرت بحدة إلى لو إيفانز وهي تنطق بهذه الكلمات، ولكن لم ينتبه لو لتحديقها، كان يتأمل ترينت ولوري وهما يساعدان أمهما للنهوض وصعود السلالم. وخلفهم ليسا وبريان، مثل حرس شرف.

وتابعت الحفلة مجراها. وتم التعامل مع الحادث كأنه صدفة غير سارة بالنسبة لحفلة جامعية. أما السيدة إيفانز فقد أخلدت للنوم (كانت قد غفت لثلاث أو أربع ساعات في الليلة السابقة بعد أن اعلن زوجها عن الحفلة)، وبمجرد أن وضعت رأسها على الوسادة غرقت بالنوم. وسمع الأولاد لو وهو يجعجع في الأسفل دونها. وارتاح ترينت لأنه غير مضطر لتحدي قلقه ومعاملته السيئة لزوجته.

حتى أنه لم يقترب ولو للحظة من غرفة نومها ليتأكد أنها مستقرة. ولا حتى لمرة واحدة حتى نهاية الحفلة.

وبعد أن غادر آخر ضيف، صعد بصخب على السلالم وأجبرها أن تستيقظ... وفتحت عينيها، كانت مطيعة له دائما منذ يوم غلطتها وإخبار القس أنها تقبل بلو زوجا. مد لو رأسه في غرفة ترينت المجاورة وقاس الأولاد بنظراته.

وقال بنبرة هادئة:"كنت أعلم أنكم جكميعا هنا. تتجسسون. سأعاقبكم. كما تعلمون. نعم. غدا. واليوم عليكم أن تذهبوا إلى السرير وتفكروا بالعقوبة. انصرفوا إلى غرفكم. ولا تحاولوا أن تتجولوا بين الممرات والغرف".

ولم يتحرك لا ليسا ولا برايان، بكل تأكيد، لزما السكون، فهما متعبان ومهزومان عاطفيا، وليس بمقدورهما القيام بأي عمل، غير اللجوء للفراش والسقوط بالنوم فورا. ولكن عادت لوري إلى غرفة ترينت رغم أنف "الأب لو". واستمع كلاهما بصمت مهين لتوبيخ الأب للأم لأنها تجرأت وأغمي عليها في الحفلة... كانت الوالدة تبكي ولم تجادل بكلمة أو همسة.

سألت لوري:"ماذا علينا أن نفعل يا ترينت؟". وكتمت أنفاسها على كتفه. كان وجه ترينت شاحبا للغاية وهادئا. قال:"نفعل؟. لماذا، لن نرد يا شاطرة أبدا".

"علينا أن نتحرك يا ترينت. هذا واجبنا. يجب أن نساعدها".

قال ترينت:" كلا لن نفعل". ورسم ابتسامة مخيفة على شفتيه وتابع:"البيت سينتقم لنا". نظر لساعته وأجرى حساباته وقال:"حوالي الثالثة وأربع وثلاثين دقيقة بعد الظهر سيؤدي البيت الواجب".

لم يحصل شيء في الصباح. ولم يعاقبهم لو إيفانز. فقد كان مشغولا بسيمينار الساعة الثامنة وموضوعه عواقب الغزو النورماندي. ولم يستغرب ترينت ولوري ذلك. وكان كلاهما ممتنين. وأخبرهما أنه سيراهما في مكتبه مساء، واحد بعد الآخر، وسيعاقب كلا منهما بعدة ضربات تربوية". وقدم لهما هذا التهديد بلغة غامضة وغادر برأس مرفوع وحقيبته بيده اليمنى بإحكام. وكانت الوالدة لا تزال نائمة حينما شخرت سيارة البورش وشقت طريقها نحو الشارع.

وقف الولدان لأصغران قرب المطبخ وهما متماسكان بالأيدي، وينظران إلى لوري كأنها صورة من حكايات غريم الخرافية. كانت ليسا تبكي. وشفة بريان متشنجة، على الأقل حتى الآن، وكان شاحبا مع بقع قرمزية تحت جفينه. قال برايان لترينت:"سيضربنا علقة. وعلقاته مؤلمة".

قال ترينت:"كلا". ونظروا إليه بتفاؤل ولكن بشك. في النهاية لقد وعدهم لو بالفلقة. حتى ترينت لم يتخلص من هذا الشعور بالهوان.

قالت ليسا:"لكن يا ترينت...".

قال ترينت وهو يجر كرسيا من قرب طاولة ويجلس عليها بالمقلوب وأمام أخوته الأصغر بالعمر:"أصغوا لي.. أصغوا بدقة. ولا تضيعوا كلمة واحدة. هذا هام ولا يسعنا أن نرتكب حماقات".

نظرا إليه بصمت وبعيون واسعة خضر.

"ما أن تنتهي المدرسة، أريد منكما أن تعودا إلى البيت فورا.. ولكن انتظرا عند المنعطف. منعطف القيقب والجوز. هل تفهمانني؟؟".

قالت ليسا بتردد:"نعععـ ــ ــم. لكن لماذا ذلك يا ترينت؟".

قال ترينت:"لا تفكري كثيرا". كانت عيناه – الخضراوان المزرقتان الواسعتان – تلمعان. ولكن لاحظت لوري أنه ليس لمعانا مرحا، في الحقيقة، هناك شيء ينذر بالخطر فيهما.

وسمعته يردف:"نفذي فقط. وانتظري قرب صندوق البريد. وعليك أن تكوني هناك في الثالثة تماما. على الأكثر الثالثة والربع. هل تفهمينني؟".

قال برايان بالنيابة عن كليهما:"نعم. مفهوم".

"سأكون أنا ولوري هناك قبلكما، أو قد نتأخر لدقيقة من الوقت".

سألت لوري:"و كيف سنفعل ذلك يا ترينت. فنحن لا ننتهي من المدرسة قبل الثالثة، ولدي تدريب على الموسيقا، والحافلة تستغرق---".

قال ترينت:"لن نذهب للدوام اليوم".

قال لوري باستنكار:" لماذا؟".

وقاطعته ليسا بقلق:"ما هذا يا ترينت. لا يمكنك أن تفعل ذلك. هذا... هذا.. حماقة".

قال ترينت بكآبة:"و في الوقت المقرر أيضا. والآن اذهبا كلاكما واستعدا للمدرسة. وتذكرا: زاوية القيقب والجوز في الثالثة. وعلى الأكثر الثالثة والربع. ومهما حصل لا تتابعا إلى البيت". ونظر إلى برايان وليسا بنظر ثاقب وبادلاه النظر بعيون مرعوبة، وبحثا عن طمأنينة مشتركة. حتى لوري انتابها الخوف.

قال:"انتظرانا ولا تعودا إلى البيت أبدا. مهما كان السبب".

وبعد أن اختفى الولدان، قبضت لوري على قميصه وطالبته بمعرفة ما يجري.

"هذا له علاقة بما ينمو في البيت. أعلم ذلك. ولو رغبت أن أكون حمقاء وأساعدك، عليك أن تخبرني ما هو، هيا يا ترينت برادبوري".

قال ترينت:"سأخبرك بعد قليل". وتملص من قبضة لوري، وأردف:"في الأسفل. فأنا لا أريد إقلاق الوالدة. حتى لا ستجبرنا على الدوام، وهذا شيء غير جيد".

"حسنا ما هو. أخبرني".

قال ترينت:" تعالي إلى الأسفل. أريد أن أريك شيئا".

وقادها إلى الأسفل، نحو قبو النبيذ.

لم يكن ترينت متأكدا أن لوري ستساير أفكاره.. كان كل شيء في رأسه فظيعا .. وربما لا تتابعه لوري حتى النهاية.. ولكنها فعلت. لو أن المسألة تتضمن علقة من "الأب لو" لا يمكن أن يتوقع أنها ستتقبل الفكرة، ولكن لوري تأثرت جدا بمظهر أمها المستلقية مغمى عليها فوق أرض غرفة المعيشة، كما حصل مع ترينت الذي تأثر بموقف زوج أمه المحروم من العاطفة.

قالت لوري بكآبة:"نعم. أعتقد علينا ذلك".

في القبو نظرت للأرقام المرتعشة على ذراع الكرسي. وكانت الآن قد وصلت إلى 07:49:21.

كان قبو النبيذلا يشبه نفسه. فقد غرق بالنبيذ بما فيه الكفاية، وهناك أكوام من الزجاج الأخضر المكسور على الأرض بين رفوف الوالد المهشمة والمشوهة، ويبدو الآن المنظر كأنه من ترتيب شخص مجنون عبث بغرفة التحكم في سفينة الفضاء "إنتيربرايز". كانت الأرقام تدور. والأرقام الحمر تشع وتتبدل. ثم تشع وترتعش مجددا. الأرقام كانت تشع وتلمع.

قال ترينت:"أعتقد أن ابن الكلب كان يشتم الوالدة بجنون مثل هذا المنظر.".

"لا تفكر هكذا يا ترينت".

"يا له من مغفل. ابن حرام. أحمق".

كان أمامهما نسخة كاملة من همسات وراء مقبرة الماضي، وكلاهما يعلم ذلك. نظر ترينت لتراكم الأدوات الغريبة وأجهزة التحكم وشق طريقه وهو مصاب بالدوار من الشك والحرج. وتذكر كتابا قرأه له ابوه حينما كان طفلا، وهو حكاية ميرسير ماير حيث أن مخلوقا يدعى مفترس الطوابع ترولوسك وضع بنتا صغيرة في ظرف وأرسلها بالبريد إلى من يهمه الأمر. ألأ يشبه ذلك ما يفكر بأن يفعله مع لو إيفانز؟.

قالت لوري بصوت منخفض:"إذا لم نحسن التصرف سيقتلها".

حرك ترينت رأسه بسرعة ولوى رقبته وقال:"هه؟". ولكن لم تكن لوري تنظر له. كانت تتمعن بالأرقام الحمر والعد التنازلي. وذكرتها بالنظارات التي كانت ترتديها في أيام الطفولة. وكانت تقريبا منومة مغناطيسيا، وغير واعية لنظرات ترينت المنصبة عليها، وربما لم تكن تشعر بوجوده أساسا.

قال:"ليس عمدا. وربما يحزن عليها. لبعض الوقت في نهاية الأمر. وأنا أعلم أنه يحبها، نوع من الحب، وهي تبادله هذا الشعور. كما تعلمين.. نوع من الحب. ولكنه سيزيد حالها سوءا. وستسقط فريسة المرض كل الوقت، ثم... ذات يوم..".

ابتعدت عنه ونظرت له، كان في وجهها شيء أفزع ترينت فقد كان غريبا لدرجة مرعبة. مرعب أكثر من هذا الشيء المتسلل والغريب والمتحول.

قالت:"أخبرني يا ترينت". وقبضت يدها على ذراعه. كانت باردة وتابعت:"أخبرني كيف سنفعل ذلك".

ثم صعدا إلى مكتب لو معا. كان ترينت جاهزا لتخريب المكان لو اضطر لذلك، ولكنهما شاهدا المفتاح في الدرج الأعلى، في ظرف أنيق وعليه كلمة بخط لو الصغير والأنيق. حمله ترينت وأودعه في جيبه، وغادرا البيت معا، حينما سمعا صوت الدوش في الأعلى، الأمر الذي يدل على أن الوالدة استيقظت واستعادت قواها.

وأنفقا اليوم في الحديقة. ولم يتكلم أحدهما بكلمة، وكان أطول يوم مر بأي منهما. وشاهدا الشرطي مرتين وتواريا في دورات المياه العامة حتى غاب عن الأنظار. لم يكن هذا هو الوقت المناسب لإلقاء القبض عليهما وأسرهما وقيادتهما إلى المدرسة.

وفي الثانية والنصف، أعطى ترينت للوري ربع دولار وقادها إلى الهاتف العمومي الموجود في أطراف الحديقة.

سألته:"هل يجب أن أفعل ذلك؟. أكره أن أخيفها، ولا سيما بعدما حصل أمس".

سألها ترينت:"هل تريدين أن تكون في البيت حين يقع ما سيقع؟".

وضعت لوري ربع الدولار في الحصالة دون مزيد من الاعتراض. ورن الخط عدة مرات واعتقدت أن أمها غادرت البيت. وهذا فأل جيد، وربما هو احتمال بالأسوأ. ولكنه بالتأكيد يسبب القلق. لو أنها ليست في البيت، من الممكن أن تعود قبل..

"لا أعتقد أنها يا ترينت..".

وهنا سمعت صوت السيدة إيفانز المتعب يقول:"آلو؟".

قالت لوري:"آه، مرحبا يا أمي. تخيلت أنك غير موجودة".

قالت مع ضحكة محرجة وقصيرة:"عدت للنوم. يبدو أنني لم أحصل على ما يكفيني من النوم فجأة. أفترض إذا كنت حصلت على الكفاية من النوم لما حصل الفصل السخيف أمس هكذا...".

"آه. ماما. لم تكوني سخيفة. حينما يغمى على إنسان فهذا لا يكون بإرادته..".

"لماذا تتصلين يا لوري؟ هل كل شيء على ما يرام؟".

"بالتأكيد يا ماما. حسنا..".

لكزها ترينت في أضلاعها بقوة. وكانت لوري متراخية (تضغط على نفسها كما يبدو) فوقفت بسرعة. وقالت:"آذيت نفسي في الرياضة.. كما يبدو. قليلا. الإصابة ليست ذات بال".

"ماذا كنت تفعلين؟ يا للمسيح، أنت لا تتكلمين من المستشفى أليس كذلك؟".

قالت لوري بتردد:"آه يا إلهي. فقط رض بالركبة. وتطلب السيدة كيت أن تأتي وترافقيني للبيت الآن. لا يمكنني أن أسير عليها. إنها تؤلمني حقا".

"سأحضر حالا.. وحاولي أن لا تضغطي عليها يا عزيزتي. حتى لا تمزقي الأربطة. هل الممرضة موجودة؟".

"ليس الآن. لا تقلقي. يا أمي. سأتوخى الحذر".

"هل ستكونين في غرفة الممرضة؟".

قالت لوري:" نعم". وكان وجهها أحمر بلون عربة بريان: راديو فلاير.

"سأحضر فورا".

"شكرا يا والدتي. إلى اللقاء".

وأغلقت الخط ونظرت إلى ترينت. وتنفست بعمق ثم شهقت بتنهيدة طويلة ومرتعشة. وقالت بصوت قريب من البكاء:"لقد لهونا بما فيه الكفاية".

قال وهو يحضنها بقوة:"تصرفت بشكل رائع. أفضل مني بكثير. يا شا.... لوري. لا أعتقد أنه بمقدوري أن أخدعها مثلك".

سألته لوري بمرارة:"أتساءل إذا كانت ستصدقني بعد الآن".

قال ترينت:"طبعا ستصدقك. لا تهتمي الآن".

وتوجها للجانب الغربي من الحديقة حيث يمكنهما مراقبة شارع أشجار الجوز. وبرد النهار وغابت شمسه. وتجمعت الغيوم، وهبت ريح قارسة، وانتظرا لخمس دقائق لا نهاية لها ثم مرت سيارة سوبارو التي تقودها أمهما، وهي مسرعة نحو مدرسة غرين داون، حيث يداوم ترينت ولوري... وفكرت لوري: حيث نكون إن لم نكن نلعب الهوكي..

قال ترينت:"إنها تزأر وأخشى أن تتورط بحادث أو ما شابه".

قبضت لوري على يد ترينت وجرته نحو الهاتف العمومي مجددا وقالت:"تأخرنا للتفكير بذلك. هيا. عليك أن تخابر لو، أيها الشيطان السعيد".

وضع ربع دولار آخر وطلب رقم قسم التاريخ، وهو ينظر لبطاقة أخرجها من محفظته. بالكاد أغمض عينه أمس، ولكن الآن كل شيء يسير بمساره الطبيعي. ووجد نفسه هادئا ومتماسكا... متماسكا جدا. في الحقيقة، كان تقريبا كأنه متجمد في ثلاجة. نظر لساعته. إنها الثالثة إلا الربع. أمامه أقل من ساعة. وزمجر الرعد من الغرب بصوت خفيف.

قال صوت نسائي:"قسم التاريخ".

"مرحيا. أنا ترينت برادبوري. أود الحديث مع زوج أمي لويس إيفانز، من فضلك".

قالت السكرتيرة:"الأستاذ إيفانز في المحاضرة. ولكنه سينتهي في...".

"أعلم أنه يحاضر عن تاريخ بريطانيا الحديث حتى الثالثة والنصف. ولكن من الأفضل أن تناديه، فهذه حالة طوارئ. ولها علاقة بزوجته". ثم صمت لحظة حسب حسابها كثيرا وأضاف:"أقصد والدتي".

مرت دقيقة صمت طويلة، وشعر ترينت بخطر خفيف في داخله، وكان يبدو له كأنها ترفض الفكرة أو تتخلص منه، طوارئ أو بلا طوارئ. وهذا بالتأكيد لم يكن في الخطة.

قالت أخيرا:"هو في القاعة المجاورة. سأناديه. وسأطلب منه أن يتصل بالبيت بأسرع ما يمكن..".

قال ترينت:"كلا يجب أن أنتظر".

"لكن".

سألها:"من فضلك هلا توقفت عن هدر الوقت وأخبرته". وكانت لهجته متعجلة ومشحونة. لكنها غير قاسية.

قالت السكرتيرة:"حسنا". وكان يصعب أن تخبر إن كانت متوجسة أو تشك بالموضوع. ثم أضافت:"هل لك أن تخبرني عن طبيعة...".

قال ترينت:"كلا".

ونفخت بتأفف، ثم انتقل الخط لوضع الانتظار.

سألت لوري:"أين وصلنا؟". كانت ترقص على قدميها كأنها تريد أن تذهب لدورات المياه.

"أنا أنتظر. إنهم ينادونه".

"وماذا لو لم يحضر؟".

تنهد ترينت وقال:"سنخسر. ولكنه سيأتي. انتظري فقط". وتمنى لو أنه واثق من نفسه حقا، ولكن كان لا يزال يعتقد أنه سينجح. عليه أن ينجح.

"لقد انتظرنا حتى اللحظة الحاسمة".

وافق ترينت. لقد تأخرا جدا، ولوري تعلم لماذا. فباب المكتب من السنديان القاسي، بغاية الصلابة، وكلاهما لا يعلم شيئا عن الأقفال. وكان ترينت يريد أن يتأكد أن لدى لو أقصر وقت ممكن ليتصرف.

"وماذا لو شاهد ليسا وبرايان في الزاوية وهو في طريق عودته للبيت؟".

قال ترينت:"إذا كان يلتهب بنار الغضب كما أفترض، لن يلاحظ شيئا وبالأخص إذا كانا بثياب غير عادية".

سألته لوري وهي تنظر لساعتها:"و لكنه لم يرد حتى الآن على الهاتف اللعين؟".

قال ترينت:"سيرد". ثم سمع صوت زوج أمه.

"ألو؟".

"أنا ترينت يا لو. الوالدة في غرفة مكتبك. لا بد أن الصداع عاودها، لأنه أغمي عليها. ولا يمكنني إنعاشها.

ستحسن أن تعود للبيت حالا".

ولم يستغرب ترينت من رد والده بالتبني – في الحقيقة كان جزءا لا يتجزأ من توقعاته – ولكن أغضبه ذلك وشحب لون أصابعه الملتفة حول الهاتف.

قال:"مكتبي؟ مكتبي؟ وبأي حق دخلت إليه؟".

بالرغم من سخطه، رد ترينت بهدوء:"للتنظيف كما أعتقد". ثم ألقى الطعم الأخير لرجل يهتم بعمله أكثر من امرأته وقال:"كانت هناك أوراق مبعثرة على الأرض".

قال لو:"أنا في طريقي للبيت حالا". ثم أضاف:" إذاهناك أية نافذة مفتوحة، أغلقها، كرامة للرب.. توجد عاصفة على وشك أن تهب". وأغلق دون أن يقول وداعا.

قال ترينت:"إنه في طريقه". وضحك بتوتر وتابع:"كان ابن الكلب مشوشا حتى أنه لم يسأل لماذا أنا في البيت ولست في المدرسة. هيا تعالي نتابع".

وهرعا إلى تقاطع القيقب والجوز. كانت السماء تظلم، وأصبح صوت الرعد تقريبا مستمرا. وحينما وصلا صندوق البريد الأزرق في الزاوية، بدأت مصابيح شارع القيقب تنير كل إثنين دفعة واحدة، ولكنهما تابعا حتى قمة التلال. ولم يجدا ليسا وبرايان.

قالت لوري:"أريد أن أرافقك يا ترينت". ولكن فضح وجهها عدم رغبتها. كانت شاحبة، وعيناها واسعتين، وتسبح فيهما دموع لم تنهمر.

قال ترينت:"كلا. انتظري هنا ليسا وبرايان".

ولدى ذكر اسميهما، التفتت لوري ونظرت لشارع الجوز. وشاهدت ولدين قادمين. وكانا مسرعين وبأيديهما علب الغداء. ومع أنهما بعيدان جدا لرؤية وجهيهما، كانت متأكدة أنهما هما. وأخبرت ترينت بذلك.

قال:"جيد. ليذهب ثلاثتكم إلى وراء بيت السيدة ريدلاند وانتظروا لو حتى يمر. ثم تابعوا، ولا تدخلوا إلى البيت، ولا تسمحوا لأحد بالدخول أبدا. وانتظروني في الخارج".

"أنا خائفة يا ترينت" وسالت الدموع على خديها.

قال:"وأنا كذلك". وقبلها بنعومة على جبينها وأضاف:"و أؤكد لك كل شيء سينتهي فورا".

و قبل أن تقول أي شيء آخر، أسرع ترينت على طول الشارع باتجاه بيت برادبوري في شارع القيقب. ونظر لساعته وهو يعدو. كانت الثالثة وإثنتا عشرة دقيقة.

***

كان البيت هادئا، ويخيم عليه هواء حار مرعب. كأن أحدا رش غبار البارود في كل زاوية منه، وأن أشخاصا مخفيين يقفون قرب مقابس الكهرباء لإنارتها. وتخيل الساعة الموجودة في قبو النبيذ وهي تدق بلا توقف، ولا شك أنها وصلت الآن للرقم 00:19:06. ماذا لو تأخر لو؟.

ولكن ليس لديه وقت ليفكر بذلك الآن.

قفز ترينت حتى الطابق الثالث عبر الهواء الراكد المشتعل. وتخيل أنه يشعر بالبيت وهو يتحرك، وتدب فيه أنفاس الحياة مع اقتراب العد العكسي من نهايته. وحاول أن يقنع نفسه أن خياله مستقل عنه، ولكن جزءا منه يفهمه ويدرك معناه.

ذهب لمكتب لو، وفتح ثلاث أدراج ملفات وبعض أدراج الطاولة لا على التعيين، وألقى الأوراق التي وجدها على الأرض. واحتاج لعدة دقائق قليلة، وما أن انتهى سمع صوت البورش تنهب الشارع. لم يكن المحرك يشخر اليوم، ولكن لو ضغط على الفرامل ليعوي عواء. غادر ترينت من المكتب واختفى في ظل ممر الطابق الثالث، حيث صنعوا الثقوب الأولى وتذكر ما جرى كأنه حصل من قرن تقريبا. وضع يده في جيبه بحثا عن المفتاح، ولكن جيبه كان فارغا باستثناء تذكرة غداء قديمة ومدعوكة. لا بد أنني فقدته وأنا أركض في الشارع. لا بد أنه قفز من جيبي. وقف هناك، يتعرق جامدا، بينما البورش تزعق وهي تدخل في الممشى. وفتح باب السائق ثم انطبق بقوة. وهرعت خطوات لو نحو الباب الخلفي.

وتداعى الرعد مثل قصف المدافع في السماء، واكتسحت السماء خيوط برق يعمي البصر تخلل الجزء المعتم وبشكل من الأشكال المتكتل داخل البيت، ثم بدأ محرك بالجئير، كان منخفضا بنباح مكتوم، ثم شرع بالهمهمة.

يا للمسيح، يا سيدي المسيح، ماذا يجب أن أفعل؟. ماذا يمكنني أن أفعل؟ إنه أضخم مني. لو حاولت أن أضربه سوف...

وضع يده الأخرى في جيبه الثاني، وانطلقت أفكاره حالما لمس طراز أسنان المفتاح القديم. في لحظة ما فب الحديقة خلال المساء الطويل، نقله من جيب لآخر دون أن ينتبه لما فعل.

وهو يشهق، وقلبه يدق في معدته وبلعومه، بالإضافة لصدره، تراجع ترينت على طول الممر نحو خزانة الحقائب، ولجأ إليها، وأغلق الباب الجرار كله. وكان لو يجاهد بالصعود على السلالم، وهو ينادي على زوجته مرات ومرات بأعلى صوت ممكن. وشاهده ترينت، وشعره متناثر فوق رأسه (لا بد أنه مشطه بيده وهو يقود السيارة في الطريق)، وكانت ربطة العنق مائلة، وقطرات عرق كبيرة تنحدر على جبينه العريض والنشيط، وعيناه تضيقان مثل شريطين رفيعين.

صاح وهو يعدو نحو مكتبه:"كاثرين".

وقبل أن يصل، خرج ترينت من خزانة الحقائب وأسرع بلا صوت نحو الصالة. كان أمامه فرصة واحدة. إذا لم يتعامل بذكاء مع ثقب الباب.. وإذا القفل لم يستسلم بعد دورة للمفتاح..

إذا شيء من هذين الإثنين حصل، سأتعارك معه. وكان لديه وقت للتفكير. إن لم أتمكن من أن أحركه بمفرده، سأحمله على أن يرافقني.

عاند الباب ثم أغلقه بقوة وانتشرت طبقة غبار رقيقة من الشقوق بين المفاصل. ولاحظ وجه لو المصعوق. ثم وضع المفتاح في القفل. بعد دورة، تحرك القفل فورا قبل أن يهاجم لو الباب.

صاح لو:"هيي. هيي،، يا ابن الحرام الصغير، ماذا تفعل؟. أين كاثرين؟ أطلق سراحي من هنا".

ولكن مقبض الباب التف حول نفسه بلا نتيجة. ثم توقف، وباشر لو بقرعات قوية على الباب.

"اسمح لي بالخروج من هنا فورا يا ترينت برادبوري قبل أن أضربك علقة ساخنة لم تتذوقها في حياتك".

تراجع ترينت للخلف ببطء، عبر الصالة. وحينما لامس كتفه الجدار الخلفي، شهق. فمفتاح المكتب، والذي أخذه من ثقب الباب دون تفكير، سقط من بين أصابعه وارتطم بالصالة المعتمة بين قدميه. والآن، بدأت ردة الفعل. وتموج العالم، كأنه يرقد تحت المياه، وعليه أن يكافح كي لا يغمى عليه. وبعد أن أصبح لو محبوسا، حان الوقت للتفكير بأمه، وبالأولاد الذين اختبأوا بأمان خلف سور السيدة ريدلاند النباتي، هل كان يعتقد أن هذا سينجح. إذا أخذت "الأب لو" الدهشة حين رأى نفسه خلف باب مغلق، فإن ترينت برادبوري كان مأخوذا بالمفاجأة. دارت قبضة باب المكتب نحو الأمام والخلف بدورات نصفية حادة.

وصاح الرجل:"افتح الباب ، اللعنة عليك".

قال ترينت بصوت مرتجف ومرتعش:"سأطلق سراحك في الرابعة والربع يا لو". ثم أطلق ضحكة قصيرة وأضاف:"إذا بقيت هنا حتى الرابعة والربع".

ثم سمع من الطابق الأسفل صوتا يقول:"ترنت، يا ترينت، هل أنت على ما يرام".

يا إلهي هذه لوري.

"هل أنت على ما يرام يا ترينت؟".

وهذه ليسا.

"هيا يا ترينت. أخبرنا، كيف حالك".

وهذا برايان.

نظر ترينت لساعته وأرعبه أنها 3:31 وتقترب من 3:32. وافترض أن ساعته بطيئة.

صاح بهم وهو يركض الممر نحو السلالم:"اخرجوا. غادروا هذا البيت".

وبدا له ممر الطابق الثالث كأنه يتطاول أمامه مثل معجنات، وكلما أسرع،يتطاول على ما يبدو أكثر. وأمطر لو الباب بضربات من قبضته وأتبعها بلعناته. ضربات كالرعد، ومن داخل البيت جاء صوت الآلة المستمر وهو يستيقظ. ووصل السلالم أخيرا وقفز عليها، ونصفه الأعلى يسبق ساقيه، وكاد أن يسقط. ثم استدار حول المنعطف وقفز المسافة المتبقية بين الطابقين الأول والثاني. وهناك كان أخوه وشقيقتاه ينظرون نحوه.

صاح:"اخرجو فورا". وجرهم معه، ودفعهم نحو الباب المفتوح والعاصفة السوداء. وأضاف:"هيا بسرعة".

سأل برايان:"ماذا يجري يا ترينت. ماذا يجري للبيت؟ إنه يهتز".

كان يهتز - وارتفع صوت اهتزاز من الأرض وارتجفت حدقتا ترينت في محجريهما. وانتشر غبار الجص وتغلغل في شعره.

"لا وقت لدينا. هيا أسرعوا. سا عديني أنت يا لوري".

وجر ترينت أخاه بريان، وجرت لوري أختها ليسا، من ثوبها وأغلقت الباب وراءها. وارتفع صوت الرعد مع برق عبر السماء، وبدأت الريح التي كانت تصفر من قليل تزمجر كتنين هائج.

سمع ترينت زلزالا تحت البيت. وبينما كان يعدو خارجه مع برايان، شاهد ضوءا كهربائيا أزرق، وكان براقا وترك خيالا في عينيه لحوالي ساعة (و فكر لاحقا أنه محظوظ لأنه لم يلحق به العمى). وقد جاء من النوافذ الضيقة للقبو. وانتشر في الحديقة كأنه أشعة صلبة. وسمع تهشم الزجاج. وما أن تجاوز الباب، شعر بالبيت يعلو من تحت قدميه.

قفز على السلالم الأمامية وقبض على ذراع لوري. وتعثرا على طول الممشى نحو الشارع. وكان الآن أسود كالليل وتغطيه العاصفة. وهناك التفتوا وراقبوا ما يحصل للبيت.

كان يبدو أن البيت في شارع القيقب يجمع أشلاءه. ولم يكن يظهر أنه عادي ومتماسك. كان أقرب لتراكم مثل شريط مصور لرجل يتكئ على عصا. صدوع ضخمة تخللته، ليس في الممشى الإسمنتي ولكن أيضا في الأرض الترابية التي تحيط به. وانقسم المرج على نفسه بشكل فطيرة عشبية.

وظهرت الجذور السود من تحت الطبقة الخضراء. وكل الباحة الأمامية كانت بشكل فقاعات وكأنها تقاوم ليتماسك البيت قبل أن ينتشر ويتداعى في كل مكان. ألقى ترينت نظراته على الطابق الثالث، وكان ضوء مكتب لو لا يزال مشتعلا. واعتقد أن صوت تكسير الزجاج – الذي لا يزال مستمرا – يأتي من هناك، ثم نفى الفكرة واعتبر أنها تخيل، كيف يمكنه أن يسمع شيئا في هذا الصخب المرتفع؟..

وبعد مرور عام على الحدث أخبرته لوري أنها متأكدة أنها سمعت صوت زوج أمها يصيح من هناك.

في البداية تداعى أساس البيت، ثم تشقق، ثم انفجر بصوت يشبه قصف المدافع. وانتشرت نار زرقاء ساطعة. وغطى الأولاد عيونهم تراجعوا للخلف. وزعقت المحركات. وارتفعت الأرض بحركة غريبة وغاضبة ثم انهارت.

وفجأة أصبح ارتفاع البيت قدما فوق الأرض. وتساقط على طبقة من نار ساطعة زرقاء. كان هذا اندفاعا لافتا للنظر. وفوق كومة السقف كان الغبار يلتف ويدور بجنون. لقد ارتفع البيت ببطء في البداية، ثم زاد من سرعته، وانطلق كالرعد نحو الأعلى على طبقة من النار الزرقاء، واهتز الباب الأمامي بجنون للأمام والخلف وهو يتساقط . وصاح برايان:" ألعابي". وبدأ ترينت يضحك بشراسة. وصل البيت لارتفاع ثلاثين ياردة، وجهز نفسه للقفزة النهائية نحو السماء، ثم انفجر في السحب السود المظلمة المتسارعة من حولهم.

وانتهى كل شيء.

وطارت دعامتان مثل ورقتين كبيرتين سوداوين تطفوان في الهواء. وصاحت لوري بعد قليل:"انظر يا ترينت". ودفعته بقوة حتى كاد أن يسقط. كانت السجادة المطاطية الممدودة أمام البيت تنقذف نحو الشارع حيث يقف. نظر ترينت إلى لوري، وبادلته لوري النظر. قالت له:"كان يمكن أن تضربك على رأسك وتسبب لك كدمة كبيرة. ولذلك يجب أن لا تناديني يا شاطرة بعد الآن".

نظر إليها بعناد لعدة لحظات، ثم بدأ يقهقه. وانضمت له لوري. وتبعهما الصغيران. وقبض برايان على إحدى يدي ترينت، وقبضت ليسا على الثانية. وجراه ليقف على قدميه، ثم وقف الأربعة معا بصف واحد، ينظرون للقبو والدخان المتصاعد من الحفرة في وسط المرج المتهدم. وخرج الناس من بيوتهم، ولكن أبناء برادبوري تجاهلوهم. وربما الأصح أن تقول أن أبناء برادبوري لم يلاحظوا أنهم هناك أساسا.

ثم قال برايان بدهشة:"واو، بيتنا طار يا ترينت".

قال ترينت:"نعم".

.قالت ليسا:"ربما حيثما اختفى سيكون هناك أناس يرغبون بمعرفة أي شيء عن النورمان والساكس.".

عقدت لوري وترينت أذرعهما ببعضها بعضا وبدأا بالضحك الخفيف والشخير المرح الناجم عن حفلة الرعب هذه.. وهذا عندما بدأ المطر بالهطول. وانضم إليهم السيد سلاتاري من الرصيف المقابل. لم يكن لديه شعر غزير، وما لديه التصق بصلعته البراقة في خصل صغيرة متراصة. وصرخ من خلف الزمجرة:"ماذا يجري؟". كانت الزمجرة مستمرة الآن.

ماذا يجري هنا؟.

أفلت ترينت يد أخته ونظر للسيد سلاتاري وقال بصلابة:"مغامرات فضاء حقيقية".

وضحكوا جميعا.

ألقى السيد سلاتاري على حفرة القبو نظرة رعب وشك. وقرر إن التكتم فضيلة محبذة، وتراجع لبيته. ومع أن الجو كان يمطر بغزارة، لم يوجه الدعوة لأولاد برادبوري للجوء في بيته. وهم لم يهتموا. وجلسوا على الرصيف، ترينت ولوري في الوسط، وبرايان وليسا على الأطراف.

ومالت لوري نحو ترينت وهمست في أذنه تقول:"نحن أحرار".

قال ترينت:"ولكن نحن كنا أحرارا. أمنا هي التي تحررت".

وضم أشقاءه بذراعه - مد ذراعه وراءهم بقدر الإمكان – وتابعوا الجلوس على الرصيف تحت المطر المنهمر بانتظار عودة أمهم إلى البيت.

تمت

 

................

  • كاتب قصص رعب وخيال علمي من أمريكا.

 

في نصوص اليوم