نصوص أدبية

كلب المرتفعات

صالح الرزوقسمعنا صوت خرير المياه أولا، وحينما وصلنا السفوح تبين لنا أنه جدول، تهالكت على جرف الصخور القريبة، وطلبت من سالم أن يرتاح مثلي. لكنه لم يرد.

قلت له: يجب أن نرتاح أولا.

هز رأسه، وأشعل سيجارة، وبعد أول نفس بدأ يسعل، وأوشكت أن أنبهه أن الدخان يضر بصحته، ثم أمسكت لساني. فهذا شأنه، والنصيحة في هذه الأوقات مثل أن ترجم الآخرين بحجر. لم يعد للكلام معنى في ظل الحرب. فالجميع يلجأون للسلاح، مع أننا نقاتل أعداء وهميين، كل يوم باسم مختلف، لقد اختلطت الأوراق كما يحصل على مائدة القمار بوجود لاعب غشاش.

وفي هذه اللحظة ظهر الكلب. فجأة برز من بين الصخور، ووقف عند ضفة الجدول، وشرع يخالسنا النظر. لوحت له بالبارودة ليبتعد، وأنا أنهره بالكلمات المعتادة.

هوشت.

هوشت.

غير أنه لم يرتدع. وغرس قوائمه في التراب، ورفع ذيله القصير والغليظ خلف مؤخرته، ولم أفهم ماذا ينوي. هل يتأهب للهجوم، أم أنه يستعد للدفاع عن نفسه؟؟.

وسألت سالم: ما حكاية هذا الكلب؟.

رد وهو يشرب سيجارته: ومن قال لك إنه كلب؟.

نظرت إليه باستغراب وسألته: ماذا تسميه إذا؟ عروس البحر؟.

انفجر بالضحك، وقال: يا جاهل. هذا شيطان أو روح ميت.

وتذكرت عقلية الوالد. كان يعتقد أن الكلب من حيوانات جهنم. ولم أكن أعرف خلفيات أو ماضي سالم بشكل جيد. نعم هو مهندس وبرتبة ملازم، إنما يوجد أنصار للباراسايكولوجي، هذا غير الخرافات الدينية. حتى في صفوف المتعلمين يوجد رصيد للخرافات والخزعبلات. ناهيك عن الإيمان بالأفلاك، وكتب السحر والشعوذة تملأ واجهة المكتبات. وكان جارنا وهو أستاذ كيمياء يدعي أن الروح بلا مادة، وهي سر إلهي، وأن السماء ستار وخلفها سبعة أبواب، وفي النهاية كرسي العرش. وكنت أحيانا أسأله: وما هو نوع هذا الكرسي. هزاز أم جلد برام؟؟.

وكان ينهرني بغضب: يا ولد. احفظ أدبك.

وهددني عدة مرات أن يشكوني للوالد. الآن مات كلاهما. الوالد وأستاذ الكيمياء. وها أنا أسأل نفسي: هل وصلتهما الرسالة في العالم الآخر، وشاهدا بالدليل القاطع أن هذه الحكايات رموز. وغايتها تقريب الفكرة الروحية من أذهان العامة؟. فالإنسان بطبعه مادي، ويحتاج لمثال ملموس ليفهم.

***

غادر سالم مكانه وتسلل بخفة وحذر، واتجه للخلف. رميت نظراتي نحوه، وشاهدته يلتف وراء إحدى الصخور، وكانت تلمع. وتصورت أنها حجر سماوي. ربما جزء من كوكب ملتهب وانطفأ بعد سقوطه.

ناديت عليه: سالم.

لم يرد.

كررت النداء: سالم.

فقال: لحظة.

وتوقعت أنه وسط عادة مخجلة. لكن بعد قليل شاهدت خيط الدخان، فعلمت أنه يرسل الإشارة المتفق عليها. نسيت أن أقول إننا جزء من جماعة رصد واستطلاع، واتفقنا أن نشعل النار لنحدد أمكنتنا بالضبط.

***

حين عاد سالم كان الكلب قد ألقى نفسه في النهر، وشاهدته يعوم في المياه، وقلت لسالم: انظر.

قال: ماذا؟ هل أشعلوا النار؟.

وخاب أملي. فهو يفكر بالتواصل مع جماعة على مبعدة مئات الياردات، ولا يعرف كيف يقرأ أفكاري. يا له من رفيق قتال!. وقلت بعصبية: كلا. أنا أقصد الكلب.

وأشرت للجدول، وتابعت: انظر كيف يسبح.

ولكنه لم يهتم. انشغل بسيجارة ثانية. وهنا عادت الطائرة للتحليق فوقنا. هبطت من بين الغيوم، وشاهدنا أجنحتها مبسوطة، وكانت تحرث السماء كالجرار حينما يصنع الأخاديد في سطح الأرض. وكنت على وشك أن أطلب المنظار من سالم لأتأكد من هذه الطائرة. فمعلوماتنا لا تشير لقصف أو تمشيط. ولكن غطس الكلب تحت الماء. وتذكرت كلام سالم، لعله فعلا هو حيوان مسكون. ثم عاد لي رشدي. لا شك أنه حيوان عادي، وربما خاف من الطائرة، فاختفى في تيار المياه، وقد يغرق الآن. وبالتأكيد ستصعد روحه من بين أضلاعه. كل من يموت يفقد روحه. ونحن لا نراها لأنها شفافة بلون الضباب الراكد في هذه الأجواء. كانت الطبيعة هنا أيضا تفقد نفسها، وأنفاسها تصعد بالتدريج، وها هي السحب المنخفضة تكلل هذه المرتفعات..

ودون إنذار خرج الكلب من الجدول إلى اليابسة. يعني أنه لم يغرق. وفي هذه المرة مد عنقه لأعلى، وفتح فمه، ثم بدأ يعوي على الطائرة بعواء طويل وجريء كأنه يطردها.

 

د. صالح الرزوق

      

 

في نصوص اليوم