نصوص أدبية

مُسَيَّر أم مخيّر؟

نور الدين صمود

ذاتَ حُلـْم ٍ مستغرَبٍ في حياتي*كنتُ فيه كضائع ٍ في فـَلاةِ

لاح لي في المنام شيخٌ غريبٌ*باديَ الحزم سائرٌا في ثَباتِ

لم أشاهدْ أمثالـَه طُولَ عُـمْـري*فهْـو ذو خِفـَّةٍ وفـَرْطِ أنـــاةِ

مَـنـْطقـيٌّ لكـنه ذو انـْـدفـاع ٍ*ليس تـُعْــيـِـيهِ أكبرُ المعضلاتِ

يُـرسل الحكـْمة َالبـلـيغَـة َلكنْ*يـمـزج الجـِـدَّ دائما بالـنـِّكـاتِ

قد بدا لي مُقـَرْفِصًا فوق رمل*ومن القـلبِ يُرسـلُ الدعـواتِ

خِلـْتـُها، إذ سمعتـُها في منامي*مِـن فـؤادٍ مُحَـيَّـر ٍصـادراتِ

كابْـتِـهالاتِ نــاسكٍ ظـلَّ يَــتـْـلو*دعـواتٍ تـَهُـزُّ قـلبَ الصَّفـاةِ

وهْـو فيها، لخوفِـهِ من عِقابٍ،*خـَالَ أفعالـَهُ مـن المُـنـْكـَراتِ

يسألُ اللهَ خاشعًا مستـَنـيــبًا:*(رَبِّ عفوًا على الذي كنتُ آتي...

مـنْ ذنــوبٍ حُـمِّـتـُها دون ذنـْـبٍ*وفِـعــالٍ تـُعَــدُّ مــن زلاّتـي

ويَـقـيــني بـأنَّ ربِّـي يَـقـيـني*بـيـقــيني في خالـق الكائـنــاتِ

جَـنـّة ُ الخـُلـْـدِ للـتـُّـقـاةِ جـــزاءٌ*مــن إلــهٍ، وعــفـْوُهُ للعُـصاةِ

ذاك قـَدْ ظـلَّ يَـشـْتري بـِتـُـقاه؟*جنة الخُلـْدِ، وهي أجْرُ التـُّـقـَاةِ

وسِـواهُ لم يُـقــْرضِ اللهَ قـَرْضًا*حسنا كيْ يضاعِفَ الحسناتِ

يا إلهي قــوِّمْ خُطايَ لأسْعَـى*فـوق أجْـلـَى المسالك النـَّيِّـراتِ

أنتَ تـَدري بأنني كنتُ أدري*أنَّ ما خُـط َّ في كتابي سَـيـاتِي

والذي فيه سوف ألقاه حتما*مِنْ تـُقـًى صـادق ٍومِنْ نــزَواتِ

تـُبْتُ عنها واللهُ يمـنـحُ عفـْوًا *لنفـوسٍ، عمّا أتـَـتْ، نادماتِ

وذنوبي ليستْ ذنوبـي، ولكنْ*هيَ أمرٌ مُسَـطـَّـرٌ في حياتي

لمْ يَكُنْ لي عنها محيصٌ، فقِِدْمًا*وضعتْها الأقدارُ في طُرُقاتي

فأطعتُ الإلهَ في كل أمــر ٍ*وَهْيَ عندي مِنْ أكبر الطاعاتِ

والمقاديرُ ليس تـُدفـَعُ إلاَّ*بالمقاديـر من إلهِ الحـياةِ

فـلماذا حُـمِّـلـْتُ ذنبا ثقيلاً*وأنا طائعٌ بما كنتُ آتِي؟!

إنَّ هذي الحياة َكالوردِ فيه*يَحْرُسُ الشوْكُ يانعَ الزهراتِ

وفِعالُ الإنسان ِ، منها شَذِيٌّ*كعبير ٍيَنـْسابُ في النـَّسماتِ

وفِـعـالٌ كـرائحـاتِ نِـعَـالٍ*داسَ أصحابُها على الفضلاتِ.)

****

قلتُ للشيخ: (ما تقولُ خطيرٌ*حين صغـَّرْتَ هــذه الموبقاتِ

ونسبْتَ الذي اقترفتَ إلى مَن*وجَّهَ المرءَ نحو ما سوفَ ياتِي...

مِنْ فِعال ٍ ما بين خيْـرٍ وشرٍّ*وهُـما لازمان في ذي الحياةِ

كنت فيها مسيَّرًا في ضَلالٍ؟*أمْ تـَخيَّرت أقوم الطرقاتِ؟)

فانبرى الشيخ قائلا في اعتدادٍ*بعد ما ظل مصغيًا في سُباتِ:

(إنّ تلكَ الذنوبَ ليستْ ذنوبي*فلماذا تـُعَــدُّ مِـن ســيـئاتي؟

وأنـا مُنـْجـِزٌ لِمَـا في كتابٍ*للمقـاديـر ِقـــبل بـدْءِ الحـياةِ

أ تـُراني (مخيَّرًا) كنتُ أمشي*مثل أعشى في مظلم الطرقاتِ؟

أم تراني (مُسَيَّرٌ) في دروبٍ*مَهَّدَتـْها الأقـدارُ للكائـناتِ؟

وإذا ما سلكتُ دربا سواها*كـُنتُ فيها كعابــر ِالظـُّلـماتِ

(خـَبْط َعَشواءَ) سَيْرُها في ضَلالٍ*أو كمن سار ظامئـًا في فـلاةِ

ظـَلـْتُ أجري خلفَ السراب طويلاً*لم يُـسَـدِّدْ أهلُ الهُدَى خطواتي

ولأني (مُـسَـيَّـرٌ)، فــأراني*قد أتيتُ الذي أنا كنتُ آتي...

مستجـيـبًا لكل ما في كتـابي*يوم خـُط َّ المقدورُ في صفحاتي

À

والذي في الكتابِ سوف نراهُ*بعيُونٍ، عـنْ غـيِّـها، غافلاتِ

إن ربي ربِّ المكارم في مَنْ*يسْتحقون عفوَ ربِّ الحياةِ

هل ينال العـفـوَِ الذي نال أجْــرأ*بصلاة مفروضةٍ وزكاةِ

وجميع ِ الأركان مِنْ أمر ِ رَ بٍ*غافر ٍ للذنوبِ والزلاتِ

إنما العفو للذي كان يُخطي*لا لمن سار في دروب الهُـداة

والتقاةُ الأخيارُ مَنْ قدْ أطاعوا*أخـذوا أجـرَهم على الطاعاتِ

وأرى العفو من غفور رحيمٍ*ظلَّ يعـفــو على ذوي الزَّلاَّتِ

إنْ نكنْ باختيارنا قد جَنَيْنا*ما جنينا من سـالف المعـصياتِ

فـلأنـّا مُعَـوِّلـونَ على مَـنْ*يَـمْـنحُ العـفـوَ، قــادرا، للعُـصـاةِ

أوْ نـَكـُنْ مذنِـبين في ما اقترفنا*فاعْفُ عنا يا ماحيَ الزلاتِ

أتـُراني كنتُ (المخيَّرَ) في ما*سرْتُ فيه مِنْ مظلم الطرقاتِ؟

ورجائي بأن نـَكون جمـيـعًا*في جِنان الخلود، دون افتئاتِ).

****

قلتُ: (ماذا تقولُ يا شيخُ ماذا؟*بعد هذا؟ يا صاحبَ الفلسفاتِ؟

فأبـِنْ لي فالأمرُ جـِدُّ عويصٍ)*قال: (دعني من هذه المعضلاتِ

فـَإلهُ العباد رَبٌّ رؤوفٌ *بعيال ٍ يــرعاهمُ في الحياةِ

نحن فيها عيالـُهُ منذ كنـّا*وحَــريُّــون منه بالرحماتِ

وحنانُ الإله في الخلق أقوَى*من حنان الآباء والأمهاتِ

ما استـُشِرنا في جَيْأَةٍ أو ذهابٍ*وفِعال ٍ كانت لـنا مُلـْزَماتِ

وإذا ما جئــنا بها صَـنـَّفونا،*بهواهُمْ وجهلِهـِمْ، في الجُــناةِ

وتمنــوا لنا الجحيم لِـنـُكـْوَى*بشظايا نيرانِـها المحرقاتِ

والإلهُ الكريمُ يعفو على مَنْ،*في الكتاب المسطور، قد ظل يـاتي

وأراني في فعلها مسْـتـَـجِــيـبًا*للـذي شـاءَ خالِــقُ الكائــنـات ِ

وإذا كان منــطــقِي منطقــيًّا*وصــوابًا، فقد ضمِــنـْتُ نجـاتي...

من حِسابٍ على الذنوبِ التي قـد*جعلتني في الناس ضِمْنَ العُصاةِ

إنْ أكـُنْ قـد جـنـيتـُها باخـتـياري*فـَلأنـِّي قــد كـُنـتُ كــالآلاتِ

مَنْ تـُرى يذبحُ السكاكينَ إن همْ*وجدوها في كف بعض الجناةِ؟

بدمـاءِ القتــيل تـقـْـطـُرُ، لـكــنْ*بَــرّؤوه بــِمَحْــق ِتلك الأداة ِ

كنتُ مثـُُلَ السـكين في كفِّ جان ٍٍ*طـعــن الأبرياءَ حتى المماتِ

يا إلـهي إنـي أحِـسّــكَ تـسْــري*سَـريـانَ الدماء في نبـضـاتي

أنـتَ لي الكهربـاءُ دبّتْ بجسمي*كـدبـيبِ الإحساس في عضلاتي

تـُلـْهـِـمُ النفسَ فِـسْـقـَها وتـُقـاها*فأتـَتْ بالتـُّـقـَى وبالـمـوبـقاتِ

يا إلهي قــوِّمْ خُطايَ لأسْعَـى*فـوق أجْلـَى المسـالك النـَّيِّـراتِ

ويَـقـيني بأن ربي يَـقـيــني*مِن عِـقابٍ مُــرٍّ على المَعْصياتِ

كنتُ فيها منـَفـِّذ ًا للذي قد*خُط َّ في اللوح قبل بدء حياتي

فـهْـيَ لي، لكنـَّهمْ حـمَّـلوني*وِزْرَ فِعْل ٍقد كان من طاعاتي !)

***

وبدا لي أن أسأل الشيخَ في ما*خاض فيه من تلكمُ المُعْضلاتِ

وعلى حين غِرَّةٍ غابَ عني*كسـرابٍ بـِـقِـيعَـةٍ فـي فـَـلاةِ

وطغَى الماءُ في القِـفارِ فأحْـيىَ*كلَّ شيء قد عـُدَّ في الأمواتِ

وغـدَا الـقفرُ جــنة ً، في رُبـاهُ*تـُـرْسِلُ الطيرُ أعذبَ الأغنياتِ

كدتُ من فيضها أكـونُ غريقـًـا*رَغـْمَ أنّ المياهَ نـَـبْعُ الحياةِ

دام حُلـْمُ الصحراء بالماء حَتـًّى*طوقتني بأعْـبَــق الـزهَـراتِ

وبدتْ لي البيداءُ روضًا خصيبًا*وكأني رضوانُ في الجنـّاتِِ.

****

وأتى مَنْ أفاقني مِنْ منامي*لأعــيدَ التـفكــيــرَ في المـأساةِ

قال لي: (انهضْ فالكونُ يدعو بحزمٍ:*دَعْ مناما فالنوم صِنـْوُ المماتِ)

وأراني أُسائــلُ النفــسَ عـمَّنْ*كانتِ النفسُ عنه في السائلاتِ:

(ذلك الشيخ من يكون؟ فإني*خِلـْتُ نفسي إياه في التـُرَّهات ِ

فلسفاتٌ قد حَـيَّــرتْ مِنْ قديم ٍ*كلَّ مَنْ قدْ مضَى ومَنْ سوف يــاتي

***

 

أ .د : نورالدين صمود

06/22/06/2018

 

في نصوص اليوم