نصوص أدبية

الأسمر الوسيم

بدا صوت الموسيقى الحماسية صاخباً، لدرجة أنه بات مسموعاً من الآخرين الذين يواصلون تدربهم باجتهاد. لم يهتم أحد بالصوت الذي بدا معتادا، ولكن اهتمامهم كان بصورة صاحبته التي بدت وكأنها لاتشعر بالعالم حولها.

كانت تسمع انفاسها اللاهثة، مختلطةً بدوي الموسيقى الذي تصبه السماعات في أذنيها. وأمام عينيها بطلة كمال الأجسام الروسية الفاتنة، قدوتها الوحيدة في عالم الرياضة. كانت تعلم أن الطريق أمامها صعبٌ، خاصة وأنها لا تمتلك ذلك الشعر الأشقر الطويل، ولا تلك العيون الفاتنة. ولكنها تمتلك إصراراً أبهر مدرسيها في المدرسة الألمانية.

بشرتها السمراء الداكنة، وشعرها الذي جدلته جدائل رفيعةً طويلة، تجمعها ربطة شعر حمراء، كانا مثار سخرية لها عندما كانت في المدرسة.

ولكن أمها كانت مقاتلة بحق. قالت لها إحدى مدرسات مدرستها ذات مرة أن أمها ألمانية من طرازٍ خاص، يندر تواجده في هذا الزمن. لم تندهش دميانة لهذا القول، كانت تعلم لماذا. ففي هذا اليوم تحديداً حصلت أمها سوزن على حكم قضائي بإلزام المدرسة بحماية طفلتها من الاضطهاد بسبب لون بشرتها.

كان حكما مدهشاً في مدينة كوتبوس القريبة من الحدود البولندية. تلك المدينة التي شهدت قصة البداية، بين أمها القادمة من أقصى غرب ألمانيا، لتعمل ممرضة في أقصى شرقها. وأبيها القادم من أقصى جنوب مصر، حيث يلتقي النيل بالجبل في أرض النوبة.

كان أبوها ممرضاً في نفس المستشفى، جمعته مع أمها تلك النظرة المعادية للآخر. نفس الشعور بالاضطهاد الذي عاناه أيمن في بداية عمله، عانته سوزن أيضاً.

فالذي لا يعلمه كثيرون، أنه على الرغم من انهيار سور برلين الشهير، وبداية عهد الوحدة الألمانية الكبرى. فإن السور ظل مستقراً في القلوب لسنوات عديدة تالية، وربما أكثر مما كان متوقعاً. دخل الألمان الشرقيون إلى الحياة الغربية، وبقيت داخلهم رواسب عديدة، يفترض أن يمحوها الزمن.

نفس النظرات التي جلدتها، رأتها تجلد أيمن بقسوة أكبر. فهو رجل أفريقي داكن البشرة، ويعمل في مكان يجب أن يختلط فيه بكل البشر.

وقفت بجواره لأنها عانت محنته. خاضا معاً الحياة حتى ولدت دميانة. هو اختار لها هذا الاسم تيمنا بالقديسة المصرية القديمة، ولم يكن يعلم أنه سيكون سبباً للسخرية منها. بعد أن اعتاد الأطفال اختصاره إلى "دمي Dummie" التي تشير إلى الشخص الغبي باللغة الألمانية.

تركت الثقل الذي تتمرن به على الأرض، ثم اتجهت إلى جهاز تدريب عضلات الفخذين. وقبل أن تجلس عليه أشار لها مدرب الصالة إشارة فهمتها. فتركت هذا الجهاز، واتجهت لآخر يعمل على تقوية العضلة الضامة الخلفية في الفخذ.

شعرت بالفخر في تلك الأيام، بعد أن حصلت أمها على الحكم. كانت المدرسة قد خصصت لها مشرفا خاصا يتابعها، ويمنع عنها مضايقات التلاميذ. وظلت محاطة برعاية المدرسة، حتى انتهى العام الدراسي. كان يفترض أن تنتقل إلى المدرسة العليا في المدينة القريبة. ولكن أمها أخبرتها أنهم سيغادرون المدينة كلها، إلى العاصمة برلين، بعد أن حصلت على وظيفة بالمستشفى الجامعي بها.

مادت الأرض بها عندما مات أبوها. حملت هموم الدنيا من بعده. قفزت سنوات العمر بأمها فجأة. قالت لها سوزن ذات مرة أن موت أيمن أفقدها الرغبة في الحياة، كان دوما وأبداً بالنسبة لها الأمل في غد أكثر بهجةً وإشراقاً.

وماتت هي الأخرى تاركة إياها وحدها، تصارع أمواجاً ولا مجداف في يدها.

سنوات وحدة طويلة عاشتها. فقدت فيها غريزة البقاء، وإن لم تواتها الجرأة على الانتحار.

كانت تبحث عن هدف لحياتها. فالحياة في مدينة مثل برلين دون هدف، هي بالفعل قطعة من حجيم.

اعتادت في الأيام الأخيرة إعادة عرض الأفلام المصرية القديمة، التي كانت تشاهدها بجوار أبيها الراحل.

الأفلام تعرض دون صوت، مجرد صور متحركة على شاشة اللاب توب. في يدها كانت تطالع مجلة شتيرن النسائية، عندما شدها مشهد القبلة الحارة بين فاتن حمامة وعمر الشريف في فيلم صراع في الوادي. ليست القبلة هي التي شدتها، ولكنه المشهد الرومانسي كاملا. رفعت درجة الصوت لتستمع إلى الجمل الحوارية، ولكنها فوجئت بنفسها لا تفهمها بشكل جيد. تفهم بعض الكلمات نعم، و تستطيع أن تستنبط باقي الجملة من السياق. ولكنها أحست أن الكلمات العربية غريبة على أذنيها.

أخذتها الدهشة للحظة، وبدأت في محاولة تذكر فاشلة، لآخر مرة تحدثت فيها اللغة العربية، أو أية لغة أخرى بخلاف الألمانية.

أحزنها هذا بشدة. كان أيمن حريصاً أن يحدثها بالعربية طول الوقت، حتى في الشارع وبين أصدقائها يناديها دوما بلغته المحببة. هي أحبتها لحبه لها، وكما فعلت سوزن. تحدثت العربية بطلاقة وسرعة. ولكنها أدركت الآن أن لغتها المحببة أصبحت في طريق الاندثار مع قلة الاستخدام.

أزعجتها الفكرة بشدة، لن تسمح لنفسها بفعل هذا، ولكن كيف؟.

ظل هذا السؤال يدور بعقلها، حتى أجابتها صديقتها ماييڤا عليه وهي تنظر إليها بنظرة مكر أنثوية، قالت لها: "بسيطة، ارتبطي بمصري".

وماييڤا حالة خاصة في حياة دميانة. فرغم أصولها الفرنسية، إلا أنها تشترك مع دميانة في حب اللون الأسمر في الرجال. ومنذ جمعتهما الصداقة في المدرسة المتوسطة في برلين، وهي تردد لها، أنه لو كان أبوها أصغر قليلاً لتزوجته على الفور. كانت قلقة على دميانة حقيقة لا مجازاً. تصاب بالرعب لمجرد أن تتخيل أن صديقتها مصرية الأصول، يمكن تموت في شقتها وحدها، دون أن يشعر بها أحد.

وجدتها ماييڤا فرصة لإعادة فتح موضوع الارتباط من جديد. قالت لها: "هل تعرفين، بين كل من عرفت في حياتي، أنت الوحيدة التي لا تزال عذراء حتى هذه السن". أشارت دميانة بيدها كأن الأمر لا يعنيها، فأعادت ماييڤا الحديث: "من المهم ألا تبقي وحيدة يا ديمو، حياة الوحدة قاتلة". زفرت دميانة قائلة: "وماذا أفعل، أذهب إلى البار وأنتقي أحد السكارى لينام معي". هزت فرنسية الأصول رأسها وهي تقول: "ولا هذا، أنت تريدين استعادة لغتك المفقودة، وهناك كثير من العرب في برلين يريدون التحدث بالألمانية، تواصلي معهم. يمكن أن تجدي بينهم فارسك الأسمر الوسيم". حملت العينان السوداوتان نظرة غضب، في حين احتكت الأصابع السمراء بالشعر الأسود المجدول بقوة.

في طريق عودتها للبيت، سألت دميانة نفسها هذا السؤال. هل يمكن أن يكون هناك فارس أسمر وسيم يتحدث العربية، ويملأ عليها حياتها.

أمسكت كوب اللاتامكاتو الساخن، و تمددت على الأريكة تفكر، ثم اعتدلت قائلة: "ولم لا". على محرك البحث جوجل كتبت:"Tandem Partner Arabisch صديق محادثة عربي". صفحات كثيرة تجولت بها، حتى عثرت على إعلان يطلب صديق محادثة من برلين، لديه اهتمام بتعلم اللغة العربية، مع رقم للهاتف وبريد إلكتروني. نسخت الإعلان على صفحة جديدة، ثم كتبت له رسالة إلكترونية، تخبره فيها باهتمامها باللغة العربية، وتسأله حول بعض تفاصيل حياته، ومن أين أتى.

فهمت من ألمانيته المرتبكة، التي كتب بها رسالته الإليكترونية، أنه مصري جاء لدراسة الماجستير، ويسعى لتطوير لغته الألمانية، من أجل الالتحاق بالجامعة. كتب لها أيضاً أنه من محافظة جنوبية في مصر، تسمى بني سويف. بدا اسم المحافظة صعب النطق، مع وجود حرف W في المنتصف، وهو الحرف الذي ينطق بالألمانية ڤي V. معلوماتها الضعيفة عن مصر جعلتها تربط بين محافظة أسوان التي قدم منها أبوها، وتلك المحافظة التي يقول صاحبها إنها أيضاً جنوبية.

كانت ماييڤا صاحبة الاحتفاء بالخبر الذي اعتبرته سعيداً. في حين حاولت دميانة التظاهر بالهدوء، كانت ماييڤا تحثها وبقوة على الارتباط بهذا الشاب الذي لم يسبق لها أن رأته. قالت لها: "لو أنك لا تريدين مقابلته فدعيه لي، فربما يكون شيبهاً بأبيك الذي خطفه الموت مني".

بدهشة سألتها: "هل أحببت أبي حقاً؟"

احمر وجهها الفرنسي وهي تقول:"هل نسيت أني كنت أبيت عندك أكثر ما أبيت في بيتي، لقد كان بطل مراهقتي الأسمر الوسيم، كنت أغار من أمك عندما كانت تداعب شعره الأجعد بأصابعها".

قالت في نفسها بعد أن غادرتها: "مجنونة أنت يا ماييڤا". لم تشعر بأي غضب تجاه صديقتها التي صارحتها بحبها لأبيها. الوحيدة التي يجب أن تغار لهذا كانت أمها. أما هي فلا مانع لديها في أن تشاركها صديقتها الوحيدة، في نموذجها لفارس الأحلام. ولكن هل يكون هو. استغرقها السؤال كثيراً، حتى حلمت بأبيها في هذه الليلة، يجلس كالمعتاد في شرفة المنزل ليحتسي قهوته نفاذة الرائحة.

لم يكن الحلم يحمل أي مؤشرات، ولكن ماييڤا اعتبرته كذلك. أخذت تشجعها بشدة على مقابلة الفتى. قالت لها عبر الهاتف إن الأقدار أوشكت على الابتسام لها.

ابتسمت دميانة لحديث رفيقتها. تخيلت شكله في ذهنها. هو مصري، لابد أن يكون نيلياً أسمر، وطويل القامة. يجب أن يكون طويلاً. وماذا عن شعره، هل يكون مجعداً؟ وجدت أن أفكارها تأخذها قسراً تجاه صورة أبيها الراحل. نفضت رأسها بقوة. لالا يجب أن يختلف عن أيمن قليلاً. صحيح أنه كان غامق السمرة أجعد الشعر طويل القامة، ولكن الفتى الآخر يجب أن يكون مختلفاً. نعم يجب أن يكون أسمراً وسيماً أجعد الشعر له شارب رفيع، ولكن عينيه يجب أن تكون سوداء مثل عيني أيمن. هزت رأسها بعد أن برزت صورة أبيها من جديد.

نزلت على رصيف قطار الأنفاق قبل الموعد بخمس دقائق. تجاهلت السلم الكهربائي، قفزت درجات السلم برشاقة، حتى وصلت إلى الميدان المزدحم. تحت النافورة الكبيرة وسط الميدان وقفت فرقةٌ موسيقيةٌ تعزف لحناً أوروبياً قديماً. وجدت نفسها تهتز مع نغماته بنعومة.

نسيت الموعد مع اللحن، ثم عادت إلى الواقع بعد انتهائه. انتبهت إلى مرور خمسة عشر دقيقة بعد الموعد. بحثت بعينيها في الواقفين.

لا أسمرها الوسيم ليس هنا. هل نسي موعده؟ أو أنه تأخر على موعد الباص، و سيستقل الباص التالي. كان من الواجب أن يتصل ليعتذر عن التأخير. ستخبره هي بهذا، ستعلمه كيف يمكن أن يكون منضبطا على طريقة الألمان. ستتحدث معه كثيرا، وتستعيد معه الألعاب التي كانت تلعبها مع أبيها.

خمس وعشرون دقيقة بعد الموعد.

لا هذا كثير، لن تقبل منه هذا. ستنصرف وتتركه يرجوها لتحدد له موعداً جديداً. ولكن قبلها يجب أن تتصل أولاً. تخبره أنها انتظرته وهو لم يحضر.

رفعت الهاتف، دقت زر الاتصال، وهي تلقي نظرة أمل على الميدان.

لعله قد حضر. هي مستعدة للتسامح لأنها المرة الأولى. هل حضر؟

زفرت بقوة. لا لم يفعل. رنين الاتصال في هاتفها يطرق أذنها اليمنى. في حين تستقبل اليسرى رنين محمول يدق في إلحاح. بحثت عن الهاتف الذي يدق، فالتزامن غريب فعلاً.

"ألو"

صوت مرتبك يجيب. تسمعه بأذنها ولا ترى أحداً بعينيها.

بصوت حاولت أن يبدو حازماً، ولكنه خرج هو الآخر مرتبكاً ملهوفاً:

-أين أنت، ألم تصل بعد؟

بدا على الصوت الارتباك أكثر وهو يقول:

-لالا أنا هنا، أنا خلفك.

بلغت دقات قلبها سرعة لا توصف وهي تستدير وتغرق بعينيه.

ملامحه التي نقشت من الأبنوس، بدت مرتبكة معتذرة. وقبل أن ينطق بكلمة صرخت في وجهه:

-لماذا تأخرت؟

ثم ارتمت على صدره باكية.

بدا الشاب عاجزاً عن الفهم، وفشلت كلماته الألمانية البسيطة في طرح تساؤلاته وهو يردد:

-المعذرة أنا آسف.

وضعت يدها على شفتيه ليصمت، بعد أن رفعت له وجهها الغارق بالدموع، وقالت وهي تضحك:

-يجب أن تطلق شاربك عندما تأتي لمقابلتي في المرة القادمة.

هز رأسه موافقاً. في حين دفنت هي وجهها في صدره تبكي من جديد.

تمت بحمد الله

حسام الدين مصطفى جودة - برلين 

 

في نصوص اليوم