نصوص أدبية

كتاب "الحلاج"

باسم الحسناويإذ أنامُ يكونُ القلبُ حجراً أسودَ في كعبةِ هذا العالم

فأرى الأقمارَ والنجومَ

تطوفُ حولَ الكعبةِ أشواطاً

وتقبِّلُ الحجرَ الأسودَ بمزيدٍ من الحزنِ والبكاء

حتى تتحوَّلَ في نظري على الأقلّ

إلى مجرَّدِ ريشٍ في جناحِ الملاكِ جبرائيل

وهو يحلِّقُ في السماواتِ العُلى بعيداً بعيداً

مرتِّلاً في الأثناءِ الآياتِ التي اقتبسَها

من قرآنِ الفؤاد

***

ليسَ هذا أوان الموتِ تفخيخاً أو رمياً بالرصاص

ما زالَ أمام الحلاجِ ما يفعلُهُ حتى الآن

لكنَّهُ ليسَ بالذي يحسُّ بطعمِ أنَّهُ حيٌّ أبداً

إلا بصفته يمثِّل الوجهَ الآخرَ للموت

الموتِ الذي هوَ لؤلؤةٌ طبعاً في جيدِ الحياة.

***

دعني أحدِّثكَ عن آخرِ رؤيا رأيتُها في النومِ أيُّها المريد

رأيتُ كأني أحملُ فوقَ كتفيَّ كوكباً

وكانَ للكوكبِ منقارٌ من تبرٍ

ليس هذا مهمّاً

فالمهمُّ في الرؤيا كلِّها

هو أنَّ الكوكبَ لم يكن لينقرَ من رأسي موضعاً

إلا وتبزغ منه آلافُ المدن

فكان أغرب ما فيها

هو أنَّ ساكنيها يتصارعون

فيقتل القويُّ منهمُ الضعيفَ

من دون أن يؤنِّبَهُ ضميرُهُ على ذلك

فهم خلقٌ معتادون على مثل هذه التحيَّةِ أثناءَ اللقاء

***

ليسَ السؤالُ عن أنَّ الحلاجَ في السَّماءِ أو في الأرضِ

هيِّناً أبداً

هو في الأرضِ لا يختلفُ في شيءٍ

عن جذعِ النخيلِ مثلاً

لا سيما عندما يكونُ ملتهباً بالنّار

وهو في السَّماء

غداةَ يكون معلَّقاً على هذا الجذعِ بالذات

ليست السَّماءُ بمختلفةٍ عن الأرض

إلا في شيءٍ واحدٍ

وهو أنَّ رأسَ المرء

لا يكونُ رأسَهُ تماماً

إلا عندما يكونُ مستودعاً واسعاً للكواكبِ والأقمار

على أنَّ الكواكبَ والأقمارَ ليست في النهاية

إلا ما يفوهُ به الإنسانُ في لحظاتِ الدعاء.

***

لكي يكونَ الحلاجُ

في أفضلِ حالاتِهِ على الإطلاق

يحتاجُ إلى أن يرى دمَهُ

طيراً محلِّقاً في الفضاء كلَّ حين

***

سيّانِ أن يكونَ الحلاجُ حاكماً أو محكوماً في نفسِ الآن

ما يفكِّرُ بهِ الحلاجُ فعلاً

هو أن يكونَ أقربَ ما يمكنُ إلى الهاوية

الهاويةِ التي تعني أنَّهُ في ذروةِ السماءِ طبعاً

تلكَ الهاوية التي لم يتجرَّأ حتى جبرائيلُ نفسُهُ

على أن يكونَ فيها مع سيِّدِ الأنبياء

***

لكَ أن تقولَ إنَّ الحلاجَ فقَدَ الرشدَ تماماً

إذ رأى قمراً مضرَّجاً بالدِّماء

فشاءَ أن يكونَ له بُراقاً

لكَ أن تقولَ هذا بالطبعِ

لكن ليس لكَ أن تقول

إنَّ القمرَ المضرَّجَ بالدماء

لم يكن بُراقاً بالفعل

بدليلِ أنَّ الملاكَ جبرائيل

لا ينحني لغيرِ اللهِ أبداً

إلا في تلكَ المرَّةِ التي انحنى فيها لآدمَ

بوصفِهِ فَلَكاً للنبوّاتِ العظيمةِ ليسَ إلا

ومعَ ذلك

فإنَّ الملاكَ جبرائيل

يؤدِّي الآنَ أعظمَ سَجَداتِهِ على الإطلاق

وهوَ جالسٌ قبالةَ هذا القمرِ المضرَّجِ بالدماءِ

على وجهِ الخصوص.

***

في كلِّ شيءٍ روحٌ تتحرَّك

حتى في الجماداتِ

فإذا ما مررتَ على قبري

في الترابِ أو في الماءِ أو في الهواء

فتحدَّث معهُ قليلاً

لتسمعَ منهُ الإجابةَ

عن كلِّ ما يجولُ في خاطرِكَ أيُّها المريد

من الأسئلةِ التي لا يحسنُ الإجابةَ عنها جيِّداً

إلا العرفاءُ الذينَ أحسنوا

أن يكثِّفوا معنى العالم كلِّهِ في القبور

***

لا أثقُ إلا بالكلامِ الذي لا يُمحى

رغمَ كتابتِهِ على صفحةِ الماء

ولأنِّي أشكُّ في أيِّ كلامٍ غيرِ هذا

صارَ الغرقُ هو المهنة المحبَّبة إليَّ

لأنِّي واثقٌ من أنَّني في قاعِ البحرِ حيٌّ لا أموت

***

في الإنسانِ جوهرٌ عميقٌ عميقٌ أيُّها المريد

جوهرٌ لا يكتشفُهُ الإنسان

إلا بمزيدٍ من الموتِ من أجل تكثيفِ معنى الحياة

أو بمزيدٍ من الحياة

ليشفَّ كثيراً كثيراً معنى الموت

لا تكن أيُّها المريدُ عن هذا غافلاً

فتعضّ على يديكَ ندماً يوم القيامة

وتتمنّى أنْ لو كنتَ تراباً

***

لا يكن موقفُكَ من ذاتِ الشيءِ واحداً

فقد يكونُ الشيءُ شيطاناً حيناً

ويكونُ إلهاً حيناً آخرَ

هذا ما علَّمنيهِ وقوفي

في حضرةِ الأشياءِ طويلاً

حتى عرفتُ بها في وقتٍ واحد

سرَّ الألوهيةِ

وسرَّ أن تكونَ نسخةً طبقَ الأصلِ من الشيطان

***

ليسَ عندَ الحلاجِ وقتٌ للموتِ أو للحياة

الحلاجُ الآنَ يموتُ

لكنَّهُ يموتُ موتاً فوقَ مستوى الموتِ طبعاً

الحلاجُ الآنَ يحيا

لكنَّهُ يحيا حياةً فوقَ مستوى الحياة بالتأكيد

***

إن كانَ الحلاجُ أرضاً

فلا يمنعُهُ هذا

من أن يكونَ التاجَ الموضوعَ

على رأسِ السماءِ السابعة

إن كانَ الحلاجُ هوَ السماء السابعة ذاتها

فلا يمنعُهُ هذا من أن يكون

هو القلب النابض في الرملِ والماءِ والهواء

إلا النار

فإنَّ الحلاجَ يعلمُ أنَّها تتضمَّنُ أنفاسَ النور

إلا أنَّهُ ينتظرُ فلا يكونُ هو عينَ النار

حتى تتخلَّصَ مما فيها من عوارضِ الفناء

***

كانَ لقاءُ جبرائيلَ بالحلاجِ عنيفاً

عنيفاً جداً

حتى أنَّ الحلاجَ توسَّلَ مراراً

لإعفائِهِ من مسألةِ العناقِ

على مشارفِ الجنَّةِ أو الجحيم

لم يكن الحلاجُ بحاجةٍ إلى عناقِ جبرائيلَ أساساً

ليعرفَ أنَّ الجنَّةَ والجحيمَ كلتَيهما

بلبلانِ يغرِّدانِ في القفصِ المعدِّ لروحِ الإنسان

***

ليسَ هناكَ ما يدعو إلى أن يحزنَ الإنسانُ أساساً

بداهةَ أنَّ الفرحَ ليسَ في تصوُّرِ الإنسان

لو أنَّهُ شاءَ أن يعقلَ

ولهذا كانَ الحلاجُ حصيفاً

إلى درجةِ أنَّهُ عندما ساقوهُ إلى الموتِ

كانَ يبتسمُ برقَّةٍ وأحياناً يضحَك

ليسَ لأنَّهُ يعيشُ حالةَ الفرحِ أو أنَّهُ حزينٌ أيضاً

بل لأنَّهُ كانَ يدركُ تماماً

أنَّ الموتَ هو الحالةُ

التي يتعادلُ فيها الفرحُ والحزنُ بالضبط

حتى يكونا معاً الطقسَ الملائمَ

للحياةِ الحقيقيةِ التي يبتغيها الإنسان

***

أعينُكم تخطئُ فلا تبصرُ الحقيقةَ واقعاً

إنَّ الحلاجَ لم ينزف دماً أبداً

كانَ الحلاجُ ينزفُ كالعطرِ معنى الحياة

***

لا يسيرُ الحلاجُ على الماءِ مثلَ المسيحِ فلا يغرق

لا يجيزُ الحلاجُ هذا

بل يأمرُ الماءَ أن يتحوَّلَ رجلاً

فيمشي عليهِ هوَ

إذ يتحوَّلُ هوَ إلى ماء

***

نَظَرَ الحلاجُ إلى نفسِهِ في المرآة

لم يرَ نفسَهُ واقعاً

بل رأى المرآةَ ذاتَها في ذاتِها

فلم يجِدْ بُدّاً

من أن يشفَّ كثيراً كثيراً

حتى يكونَ هوَ أيضاً نقطةَ ضوءٍ

في زجاجِ المرآة.

***

لونُ الدَّمِ النازفِ من رقبةِ الحلاجِ

ليلٌ متزوِّجٌ بالشمسِ

على غيرِ عادتِها في الزواجِ بالنَّهار

ليلُ الحلاجِ مضيءٌ جداً جداً

إلى درجةِ أنَّ جبرائيلَ

وهو ضوءٌ كلُّهُ من رأسِهِ حتى أخمَصِ قدَمَيهِ

مروراً بالجناحَينِ

يتمنّى لو أنَّهُ يستعيرُ قطعةَ ليلٍ من دمِ الحلاج

ولهذا فإنَّ جبرائيل نفسه

لا يقوى على اصطحاب الدمِ المضيء

إلى حيث يرتفعُ الحجاب

***

عندما كانَ الحلاجُ صبيّاً بعدُ

كانَ لا ينامُ مطلقاً ما لم يكن على وضوءٍ

حينما بلغَ الحلاجُ سنَّ البلوغ

فصارَ أشبهَ ما يكونُ

بسيفٍ يقطعُ هاماتِ الأبطالِ وهو ساجدٌ

لم يعد الوضوءُ يستقرُّ على جسدِ شيءٍ في العالم

ما لم يكن متوضِّئاً بدماءِ الحلاجِ قبلَ ذلك.

***

ليسَ الجسدُ الإنسانيُّ تراباً

أو قل إنَّ الجسدَ الإنسانيَّ ترابٌ يتوهَّجُ نوراً

حتى أنَّ ملائكةَ الرحمنِ رأَوا آدمَ في أعينِهِم قمراً

كانَ ينيرُ ينيرُ ينير

لم يملكْ أحدهم إلا أن يسجدَ

أو أن يفنى من سكرٍ في ذاتِ الإكسير

 ***

 

باسم الحسناوي

 

في نصوص اليوم