نصوص أدبية

كوابيس مبقعة بماء المطر

هيام الفرشيشيفي لحظات اليقظة صباحا والكوابيس تتخفى في نتوءات واقع خانق، وحين كان المبدع العظيم يرفع الستائر الداكنة ويبدع الضوء ويسكب النغم في تراتيل المطر وهو يهدهد الموج ليروي له حكايات قديمة على ايقاعات زخات ناعمة او متدفقة صاخبة، كانت روحي تنصت الى معزوفة كونها .. موسيقى توقظني من نومي لافتح قليلا شباك غرفتي واتشمم روائح السمك المملح تغري بحفل شواء، غير ان مشهد الرمل يمتص زعانفا يتقيؤها البحر من باطنه كانت تثير قلمي الذي يتثاءب على تموجات الخيال، ليتوه في رغبة حبر يتمرغ على الورق.. اتامل تقلبات الموج وعبثه. زخات المطر ترتب عليه برفق ليصغي الى حكايات اخرى قادمة من سحب الرؤى ...

يتثاءب الصباح في الغرفة. القطة التركية الناعمة تتمرغ على البساط، نظرات الكانيش الذئبية في عينين حمروين تراقبان جهاز التلفاز كانها تنبؤني باخبار جديدة. اضغط على الزر فيطل وجه المذيع جادا حازما مصدعا بان الجنرال قرر حسم المعركة.

كان يتوعد كل من مد يده للعدو، ليذبح عرقا نابتا في تربة الجبل، ليقتل رجلا يحرسه في الفيافي، ليدمي عيني ام ولدت من قسوة الطبيعة الشاقة ، ليسفك دماء زعيم يعتنق فلسفة الفقراء. كان يتوعد كل من يربي الذئاب في الجبل ويطلق النيران على الكلاب. يتوعد العصابات التي تذبح الرعاة وترسل رؤوسهم او تقص السنتهم وانوفهم واذانهم كي لا تنقل اخبارهم .. الرعاة هم عيون تحرس الجبل يرتوون من عيونه الجارية وينتشون بروائح نباتاته الشذية ويهدون اعشابه المعطرة لقطعانهم ودوابهم.

شعرت ان كلمات الجنرال التي اعيد بثها مرارا تخلع رداء الطمانينة، ركلت القطة المستلقية على السجاد امامي فانتفضت فزعة. حملقت في عيني الكلب المدلل ذي الفرو المجعد ، انبثق منهما وهج كاللهب ونبح بصوت خافت.

كان الجنرال يتحدث عن ذئاب تجوب الفيافي وتسكن مغاور الجبل، اخيرا نجح في رسم مشهد مربي الذئاب، لم يكن غير صديق الرعاة، عيناه لا تفارقان القطيع.

شريط الانباء متواصل تتخلله اغان وطنية "صامدون لا نخاف المحن .. " ، " بني وطني يا ليوث الصدام وجند الفدا" ، "ارفع جبينك للسماء، عدي حدود المستحيل". تتواصل الاخبار..صفر الجنرال لحكم لم يمتثل لشروط اللعبة. في اخبار الشارع ثمة رقم معطل لا يرد على مكالمات شعب مهدد. دمى جامدة تحرك خلف الستار شرذمة من ممثلين تخرجوا من مدارس تقياها الفن..تتبعهم جحافل من الخنافس تعودت على الاكل الملوث، سياسي امام المراة بشع كراقصة ملهى يتلقف الاوراق النقدية الدنسة من شيوخ العمائم. البصاق الذي تطاير عليه من الحشود الغاضبة كان اطهر منه..

رنات الساعة الصباحية توقظني من غفوتي، شعرت بثقل راسي جراء الهواء البارد المتسلل من النافذة، يبدو انني تركتها مفتوحة وانغمست في النوم، الامطار لم تنقطع ترفع الغبار عن الكون تعزف لحن الخلق المتواصل .. هل كنت بصدد الحلم؟ شاشة التلفاز غارقة في الظلام، وتلك القطة التركية قد تكون راكنة في حجرة صديقة تهوى الكتب ترتب عليها كلما حاولت ترويض افكارها.. فانا لا استئنس للقطط ولا الكلاب المهذبة وليس لي سعة البال ولا الوقت الكافي اصرفه للحيوانات والعناية باكلها واستحمامها ومداعباتها.. لم اتعود صباحا على متابعة الاخبار او ترصد صورة مفاجئة ..في هذا الجبل الذئاب لا تهاجم الرعاة وتنكل بهم، وبنادق الصيادين لا توجه نحو الكلاب ..والعصابات لا تنزل نحو الدور القريبة لتقيد الرجال وتغتصب النساء وتسرق مؤونة الغذاء... فالبحر يحاصرهم ويحد من تحركاتهم ...لعلها رسائل الصباح تاتي مشفرة كبقايا احلام ..هنا ارى شياطين الغابة يقتنصون الثعابين والافاعي ، يمسكونها من اسفل رؤوسها ، ينتزعون سمومها ثم يلاعبونها ويعلمونها رقصة المزمار ويسكنونها في علب قديمة لتؤدي عروضا امام السياح ، اما الذئاب التي تلاحقها الكلاب الضارية تتخفى في مغاور سحيقة تزدري خيباتها وتواسي نفسها بعدما اطردت من الغاب..

رن جرس الهاتف. فتحت عيني بتثاقل جهرهما ضوء الصباح يغمر الغرفة وينتشر بكثافة. انبعث صوت الدليل السياحي.. لقد انقطعت الامطار ونحن ننتظرك في بهو الفندق لنخرج في جولة صباحية ... لقد اتصلنا بك اكثر من مرة ولكن هاتفك لا يرد. اين كنت؟

- كنت .. نعم كنت هنا وهناك..

- ماذا؟

- هل المكان مؤمن .. اقصد هل الوضع امن؟

- انتم في حمايتنا.. كم تحتاجين من الوقت لتستعدي للنزول؟!

- اه عفوا، راسي ثقيل وحنجرتي تؤلمني.. لا تنتظروني!

- كما تشائين، اعتني بنفسك!

انهض واطل من النافذة لارى رغبة الحياة تستيقظ في اعين النبات والشجر، تمسح السخام العالق في فجوات الحلم، اشرقت الشمس لاسعة بينما بقيت قطرات المطر تبلل الشجر وتسترسل على بلور النافذة.. . امسحها بالمنديل واتوه مع صور الاحلام المتلاحقة التي انبرت في غفوتي...

اتجه لبيت الاستحمام لاتطهر من بقايا الحلم بعدما دونته على اوراقي المتناثرة على الطاولة المستديرة. انتشيت بمفعول الماء يعيدني الى حالة الصحو ، في تلك اللحظات كنت قد سمعت صوت الباب وهو يفتح، وخطوات تمشي في الغرفة..شعرت بقلبي يغوص بين اضلعي، تنشفت ورميت ملابسي بسرعة وفتحت باب بيت الاستحمام، رايت شخصا يجلس على المكتب ويقرا الاوراق .. تبينت ظهره وشعره الاسود..الذي تتخلله شعرات بيضاء. استدار ، بدا اربعينيا يلبس ملابس رياضية وكانه يستعد لتمارين العدو صباحا. وقال مطمئنا: لا تجزعي لست وغدا او عدوا ، اتيت هنا لنتحدث ...

سالته بغضب كيف سطا على مفاتيحي؟ ومن اعطاه اياها؟ وكيف يسمح لنفسه بالدخول للغرفة مهددة اياه بالاتصال بامن النزل؟!

اعاد تقليب الاوراق التي كتبتها من وحي الحلم ، وقال بعد صمت ثقيل:

من يملي عليك قصصك؟ تساءل الرجل المهوس بالقاء الاسئلة غارسا راسه بين الاوراق.

-الاطياف الغريبة، اجبت بهدوء، وقد علقت عيناي على اصابع مخاطبي يضغط على لوحة حروف هاتفه الجوال تركض وراء سر غامض..

تتنمر نظراته كقط بري محاولا تلقف الاجابة عن الاطياف الغريبة..

- تزورني في احلامي ويقظتي ولا اعرف ان كانت حقيقية ام اطياف خيال!

جال بعينيه بين كلمات معروضة على صفحة في الجهاز واستدرك

- لكنك لا تسكرين ولا تتعاطين حبوبا او مخدرات ولا تتعالجين في مصحات نفسية ولا تتعاطين العقاقير والاعشاب ولا تذهبين للدجالين، ولا نشاط سياسي لديك

- وكيف عرفت كل هذا؟

- تحريت..

اطلقت زفرة عميقة ودعوته الى المغادرة، فقد انتهت المحادثة..

- هل لديك اجابات اخرى يتساءل الرجل المهوس بمراودة الاسرار الخفية...

انظر له ببرود ، وهو يعود لجهاز الايباد منشغلا بالكتابة ..

ولكنه حول يده عن الجهاز الصغير الى كتفي محاولا ايقاظي بعدما تلبس صوته بنبرات ناعمة:

- افيقي رجاء ! هل انت بخير ؟

حملقت في الزائرة الغريبة بمنديلها الاخضر وملامحها الفزعة ..

- عفوا سيدتي دققت الباب اكثر من مرة، فذهبت لتنظيف الغرف الاخرى وحين اكملت عملي اعدت دق باب غرفتك ولكنك لا تجيبين .. فتحت الباب .. حاولت الاستئذان منك لكنني وجدتك تغطين في نوم عميق بينما كانت النسمات الباردة تغمر الغرفة.. فايقظتك.. فلتسمحيني رجاء لاكمل تنظيف الغرفة وانصرف لمنزلي ..لاطهو فطور اولادي..

نهضت قليلا، وضعت ظهري على الوسادة .. استرجع صور الكوابيس المتداخلة..

كانت العاملة تنظر لي بتعاطف وقالت : هل لي بمساعدتك في شيء؟

اجبتها بالنفي وانصبت عيناي على الاوراق المبعثرة على الطاولة المستديرة تستعرض مفاتن لغة لم اجسها كاملة، وقد عاد لي طيف الرجل الغريب يقلب الاوراق كلما تمعن النظر في حروفها ..

 

بقلم هيام الفرشيشي

 

 

في نصوص اليوم