نصوص أدبية

ديباجةُ الكفِّ التي شرَعت تتراخى

فراس تاجيعندما استيقظ نسيم وجد نفسه يتألم من وجعٍ في صدرِه في ردهةٍ تعجُّ بالروائح المُطهِّرة.. على جانبيه أسرَّةٌ تضمُّ أقراناً مثلَه يتألمون. وأمامَه يخطرُ أناسٌ يرتدونَ الصداري البيضاء . بعضهم يُعلِّق على صدرِه سماعةَ فحصٍ، وآخرون يمسكونَ ضَماداتٍ، وقنانيَ حقنٍ، وطَبَلات يطالعونها عندما يقفون أمام الأسِرِّة ... بعد قليل يتولون معالجةَ جريحٍ فُغِرَ جرحُه فنزَّ عن دمٍ قانٍ، ويحقنون آخرَ بحقنةٍ مُهدِّئةٍ فيتركونَه ينعمُ بالارتياحِ ؛ وينام .

البياضُ ينتشرُ على الجدرانِ ؛ أمَّا النوافذُ فزرقاءُ بلونِ السماء ... يقتربُ منه رجلٌ طويلُ القامة، محمَّر الوجه . والعينان تعجُّ بسوادِهما . يرسمُ ابتسامةً لطيفة، ويخاطبه :

" ها .. شلونَك اليوم ؟ "

فيردُّ بفمٍ ملآن يعبِّر عن امتنانٍ :

"أحسن مِن أمس .. ولكنْ هل زالَ الخطرُ، يا دكتور ؟"

يترقرقُ سوادُ عَيني الدكتور :

" زالَ إلى الأبد ."

" يعني هل ستَّتصِلونَ بأمي لتأتي لزيارتي ؟ "

ابتسامةٌ رحيمةٌ يُمطرُها سوادُ العينين :

" لا .. لا .. لم يبقَ الا القليل . سنمنحكَ اجازةً مَرضية طويلة ... لا داعي لطعنِ قلبِها .. عندما تستلم اجازتَك لا تخبرها بما جرى ... احسب نفسكَ قادمٌ من وحدتِك العسكرية ."

" ولكنّها ستشاهد الجرحَ وإنْ التأم ... الجراحُ تتركُ اثراً لا يُمكن محوُه، يا دكتور . "

" ما هذا ؟! ... أنتَ تتحدَّث مثلَ الشعراء .. هل أنتَ شاعر ؟ " تتكرَّس غمازتا وجهِ الدكتور وهو ينتظرُ الرَّد مُندهشاً .

يبتسم من تحتِ ساترِ الضَّماد :

" لا، يا سيدي . لكنَّ الحروبَ تُفجِّر قرائحَ النفوس ... كان استاذي في الاعدادية المركزية في العشَّار يكتبُ الشِّعرَ ويقرؤه علينا عندما ينتهي من المحاضرة ويجد فسحةً تسبق فرصةَ ما بعدَ الدرس . "

" أتقصد السيّاب ؟"، يقولُها بابتسامةٍ تنمُّ عن رغبتِه في مواصلةِ الحديث .

" لا ؛ انما هو متأثرُ بالسيّاب، لكنَّه يكتبُ شعراً مُختلفاً ... البصرةُ طوال عمرِها تُثمرُ مبدعين ."

" سأضيف لإجازتِكَ يومان على هذا الجواب .. أعجبتني !"

" شكراً لقلبِك الرحيم ! "

" ولكن قبلَ ذلك ؛ هل تحفظ لأستاذِك ذاك من شعرٍ .. شوَّقتني لسماعه ."

" قليل .. قليلٌ، يا دكتور ."

" أسمعني من القليل .. هيّا . "

ويروح نسيم من بين ثنايا الجرح، وجهدِ الرئتين للتنفس، وشوقِ القلبِ للحديث مع أمِّه يُردد :

" القلبُ هو

تلكَ الأوراقُ المُكدَّسةُ

بمواجهةِ الريح   ."

" الله! .. الله ! ... وبعد ! "

" كان قويّاً يقارعُ الشوكَ

ودهاءَ الذئابِ، وأعاصيرَ المخالب

التي تقولُ الشرَّ، وتتركُ أثارَها

أحزاناً لا تنتهي .

ومع ذلك لم تثنهِ الأخاديد ؛

ولا ألقَت به كفُّ الأقدارِ

إلى سدرةِ الأمان .

قال : أقمتُ الذراعَ على قَبضةِ الكفِّ القويةِ .

أسرجتُ حزني على جوادِ الريح

أوسعتُ أبوابَ الكهوف، ونلتُ المنى .

قلت للمقادير :

ما عدتُ أطيق سمومَ القيظِ،

ولا آبهُ بضغائن الفِخاخ .

لذا صاحبتُ المتنبي رفيقاً،

واستعنتُ بحكمةِ

رهينِ المحبسين .

اتخذت الطريق ممسكاً بمشكاة ايقاظ النيام،

والنهوض من رقدتهم الطويلة،

فالبيدرُ استُبيح َ

والسنابلُ ديست بأقدامِ الظلام . "

" الله ! الله .. ما أعذبه من شاعر ! .. هل تتذكَّرُه الآن ؟ "

لا يدري سريع ما قاله للدكتور ... ولا يتذكَّر ردَّ فعله ...

ذلكَ أنَ الجلطةُ الدماغية التي ضربته قبل ثلاثة أعوامٍ أطاحت بمملكةِ ذاكرته، وهشَّمت لديه خمسينَ عاماً ؛

فتركته هائماً يتعثرُّ بأيامٍ تمرُّ كالهَباء، وبعينين تسكُبان رثاءهما على ديباجةِ كفِّه التي شرعت تتراخى .  

***

 

فراس تاجي - البصرة

 

 

في نصوص اليوم