نصوص أدبية

الرواية الأولى

عبد الستار نورعلياستهلال: القصيدة كُتبتْ عام 1971 ونُشرت حينها في مجلة "الثقافة" التي كان يصدرها في بغداد المرحوم الدكتور صلاح خالص وزوجته الفاضلة الدكتورة سعاد محمد خضر. نشرتها ثانية عام 2011 في صحيفتنا الغراء المثقف، وقد أثارت اهتمام الأخوة المبدعين، بعد أن كنتُ أخشى نشرها بعد هذا الزمن، إذ كانت ولادتُها وأنا في الثامنة والعشرين من العمر. وقد أجرت الأخت ميادة أبو شنب والأخ جلال الجاف حواراً طويلاً معي حولها في المثقف.

أحببتُ نشرها ثالثةً ليطلع عليها مَنْ فاته من الأخوة الأعزاء مبدعي المثقف. لقد كتبتُ القصيدةَ بنَفَس واحد لم ينقطعْ، وبليلة واحدةٍ لم يطلع الفجر عليها إلا والقصيدة مكتملة. أنا أعتبرها ضمن كبار ما كتبتُ، إنْ لم تكنْ أكبرها، لأنها خلاصة تجربة حياتية لتلك الحقبة الزمنية، واستشراف للمستقبل القادم. كما أنني كتبتُها بدم القلب والفكر والأحاسيس.

       *   *   *   

الرواية الأولى:

وفي صمتٍ طويتُ البحرَ في عيني

وفي صمتٍ حملْتُ البيدَ في قلبي سرايا

نحو هاجرة الهوى ، رُحتُ أصلّي

أرفعُ الراياتِ للعباس ، أستجلي

رسومَ العشقِ في صحراء أغنيةٍ ترابيهْ ،

رميتُ شِباكَ شوقي اصطدْتُ ريحاً

صرتُ أحصدُها ، مررْتُ أناملي فيها

تقصّيْتُ الحقيقةَ عنْ رؤىً في عِرقِ أمنيةٍ سرابيهْ ،

*

وتلكَ روايةٌ حمراءُ تروي قصةَ الماضين في رَهَبِ ،

صحارى تحملُ الواحاتِ انجيلاً من السَغَبِ ،

*

أتلك روايتي ؟

قالوا : نعم !

ولكنْ تلكمُ الراياتُ سودٌ ، والرماحُ لظىً ،

وخيلُ الشوقِ قد هُدّتْ أعنتُها ،

*

فهامَ الفارسُ الغافي على صوتِ الشجا يروي ملاحمَهُ

ويحكي قصةَ الانسانِ في حبِّ المرايا

يرتمي في نبضها يغفو على هزِّ الأراجيحِ

فتاهَ وما خيولُ الشوقِ عادتْ منْ حصارِ البيدِ ماعادتْ ،

*

يتصلّبُ الهواءُ على وقع سنابكِ الفارسِ المرميِّ في أحضانِ العشقِ المراقِ دمُهُ ، ينامُ على فراشِ الثعالبِ تحملُ أوزارَ الشوكِ النابتِ في قلبِ أمنيةٍ تلوحُ على راحةِ الليالي وتختفي في أزقةِ النهارِ الجائع للمصابيح ،

أينَ دمُهُ ؟

الترابُ يمتصُّ الدمَ قانياً

يروي عطشَ الديدانِ في زوايا ممالك النملِ والعقارب ،

*

وتلكَ روايةٌ عمياءُ عن حبٍّ يلوحُ على حبالِ مشانق الرغبةْ،

يموتُ الرسمُ فوق جدار حلمٍ راقصٍ في ساحةِ النشوةْ،

يذوبُ الصوتُ في وهجِ التراتيلِ

تلوحُ الرايةُ الخضراءُ في صمتِ المواويلِ

وتسقطُ في الهزيمةِ خنجراً يُدمي رواياتِ الأناجيلِ

عن الحبِّ، عن الصفعِ، عن الصفحِ،

عن الانسانِ في لغةِ السماحاتِ،

تموتُ دلالةُ الرؤيا، وترتفعُ التراتيلُ الصديديةْ

تنزُّ هوىً بطياتِ الحكايات الطفوليةْ

عن العشاقِ هاموا في سماء الوجدِ مارجعوا صواباً

غيرَ أنَّ دماءَهم زُفّتْ عرائسَ في حشودِ الموجةِ الكبرى

إلى أرض المواعيدِ

فغابوا في حسابِ الخدعةِ العظمى، وغنوا جوقةً،

عادوا هياكلَ ترتوي طينا،

وتشربُ من كؤوس الخدعةِ الأولى،

*

ايا آدمْ،

سليلَ الطينِ، يأكلُ نسلُكَ الطينا،

أيا آدمْ،

لقد ضيَّعتْ فينا كلَّ أسرار الرسالاتِ

وأشبعتْ السلالاتِ

بكلِّ الحبِّ والتوقِ إلى دنيا المراراتِ،

أيا سُحُباً، ومدَّتْ ظلَّها الأجوفَ

في عينيكَ ياحبّي ويا سهري،

هذاكَ الخِصبُ في جسدِ العرايا ضلَّ صاحبُهُ

وجفَّ الغيثُ في قارورة اللهبِ،

*

وتلكَ روايةٌ هزّتْ أسانيدَ الأحاديثِ

وتلكَ روايتي!

قالوا : صدقْتَ.

*

غاب الصوتُ في الحلم الذائب في رجع الصدى القادم من بين السطور ، فأكل آدمُ التفاحةَ راضياً مرضيّاً ليضيع في متاهات المرئيِّ.

*

منحتُ الفارسَ الغافي تعاويذي

أدارَ يديهِ في قُفلي فما فتحَتْ

فصارَ يطوفُ في شُهُبٍ على روحي

وألقى الرحلَ في لغةِ المراراتِ

وفي حِممِ الخطيئةِ راحَ لونُ الشمسِ منطفئاً،

فيا حواءُ، هذا ابنُكِ قد شُلّتْ بقاياهُ،

تعوّدْتِ الخطيئةَ في انطلاق النارِ منْ حَلْقِ الأباطيلِ

ومنْ وترِ الأضاليلِ،

رميتِ ابنكِ في الشارعِ ظلاً للخفايا

رُحْتِ تلتهمين فاكهةَ الخطايا

تحملينَ أجنّةَ الشيطانِ في الحشرِ

وتلتقطينَ نجمَ العشقِ تسليةً وتحتلمين بالبدرِ،

فلا كانتْ رياحُ العشقِ، لا كانتْ، ولا بقيتْ،

فمنذُ تآكلتْ روحُ البريّةِ منْ تماديها

فقد حالَ الرحيقُ العذبُ مُرّاً

تاهَ عزفُ النور في وترِ الأقاصيصِ ،

وهذا اسمُ الطريقِ تغرُّبٌ، صمتٌ على الأجيالِ يهبطُ ينشرُ الغفوةْ،

وهذا اسمُكَ، يا آدمُ، صنوُ القمةِ الشوهاءِ

في جبلِ الطحالبِ، في غروبِ الأمسِ واليومِ ونيرانِ الغدِ،

وهذا اسمُ الخطيئةِ في انحدار السفحِ نحو قرارةِ الوادي المشاعِ

لكلِّ ذي عينٍ تمجُّ اللونَ في خضرةِ أثمارِ

وتنفرُ من بذارِ السعدِ في رَحَمِ المسراتِ

وفي سِفرِ الرسالاتِ،

*

أيا صوتَ الرغائبِ،

تلكَ ملحمةٌ تئنُّ على صراطِ القلبِ تروي ظلَّنا صمتاً

يداعبُ سمعَنا المشحونَ بالنومِ،

*

صُلِبَ الوجهُ على وجهِ الرصيفِ ومرّتِ العرباتُ وقرعُ الأقدامِ فوقه ... تصبّبَ العرَقُ في شعابِ العينين ... فشربتِ الشفتانِ كأسَ الملحِ ... تصلّبتا على شفيرِ الكأسِ ... سقطتا في مزالقِ التمنّي .....

*

أيا وجهاً رواهُ الحزنُ،

طافَ على ملامحهِ اصطخابُ الدهرِ بالأحلامِ والنشوةْ

رحلْتَ على عيونِ الآخرينَ شربتَ

منْ كأس المرارةِ رحلةَ الغصةْ

وعُدْتَ على بساطِ الجوعِ والعطشِ

تحمّلْتَ الشرائعَ فوق كاهلكَ

أخذتَ تهزُّ نشواناً على انشادِ سُمّار السلاطينِ

رجعْتَ مُسمَّرَ العينينِ والشفتينِ والأذنِ

وقد مسخوكَ أغنيةً ومرثيةْ

فتاه الصوتُ في الشفةِ الرماديةْ

وتاهَ عويلُ حزنكَ بين ضحْكاتِ الأباطيلِ،

أيا وجهاً رواهُ دمي ونزَّ عليهِ صوتي واقتحاماتي

وروّيْتُ الجفافَ على بقاعكَ خضرةً، خِصبا

ودُرْتُ على ميادينِ المغافلِ رؤيةَ الغاوي

وعشْتُ مع المغانم صورةً خرساءَ

لا لونٌ ولا أُطُرُ

فديسَتْ رحلةُ الأيامِ في حربِ المسافاتِ

وغابتْ طرقُ اللهفةِ في سيلِ الأحابيلِ

فقالوا، ثم زادوا :

آهِ يا قصصَ الحناجرِ في التهامِ العشقِ،

هذا ابنُ المزاميرِ صدى الواحاتِ لم يروِهِ نبعٌ

جفَّ في حلقهِ نبتُ العشقِ ،

وانطفأتْ شموسُ الرغبةِ الأولى ...

***

 

عبد الستار نورعلي

1971

....................

للاطلاع

نص وحوار: مع الشاعر عبد الستار نور علي ونصه: الرواية الأولى / ميادة ابو شنب

 

 

 

في نصوص اليوم