نصوص أدبية

قَابَ الكشف ..

صحيفة المثقفبعد غياب لا إراديّ زرتُه هذا البحر المترامي يكسر فضول البصر كلّما حاول بلوغ مداه.هلّل وأنا أحطّ الرّحال عنده، مدّ يديه أمواجا متسابقة في شغف الولهان والعتاب باد على محيّاه، غمز الزّبد : لا تأبهي، عتاب مشتاق له يضحك السّعد فيكابر فرحته ومناه.

هو يعرفني منذ اللّقاء الأوّل مولعة بلونه وهمسه وحتّى زئيره، يعلم أنّه مرآتي العجيبة فيها أختبر الأزمان وأكشف المستور، شفّاف هو كما النّجوى، أمامي يطرح خواطري الدّفينة، يستعرض زمني الغابر والحاضر ويرسمُني على صفحة الآتي حلما شفّافا .

كان اليوم رغم عبث الرّيح حريصا على الهدوء يشحن أمواجه السّاعية إلى الشّاطئ إحساسا رقيقا ينثره عند قدميّ . خبير هو يعرف مِنْ أين يلجُ النّفوس فيدغدغ أحاسيسها لتستوي على إيقاع موجه نوارس حالمة.

رماني بطعمه فابتلعته عن رغبة، وكلّما تمادى في المشاكسة تماديت زحفا إليه، لحظة فلحظة، غمسة فغمسة، أنا والماء والزّرقة تحت هالة الشّمس لوحة فريدة لا تدركها ريشة بيكاسو ولا تطولها أقلام فطاحل الشّعراء،هنا تشكيل من نوع مُغاير، الماء والإنسان والطّبيعة البكر، أحجية أزلية تتماهى على إيقاع الشّوق، وتتمادى توْقا إلى كسر الحواجز والمثبّطات، لا شيء هنا يحجز الحركة أو يحدّ الصوّت الهادر من الأعماق سفَرا حثيثا نحو منابع البدء.

أغراني فأمسكتُ بتلابيبه وهمستُ في خاطره : يا لك من نفيّ أيّها البحر، هاكَ يدي أيّها الماهر فأنتَ دليلي، قُدْني إلى المحاريب الخفيّة، هناك الخلوة الحقّ، هناك نمارس عبادة مُثلى و نسجد سجدة تلغي المسافات، تزيح الضّباب المتراكم ويصبح " البصر حديدا "، لقاء الأسفار، محطّات الرّحلة البشريّة، طريق موحّدة والمقصد ينبوع الحق .

دَعْني ألجْ عالما تهواه الروح، دَعْ مراياك تعكس الخفايا علّ هذا العقل يدرك وترتسم أمامه الحقيقة عارية، صورته المنقوصة وإن رام الكمال، دعْني أكرعْ من حوض الاكتمال، أمنية الملْء تروم المآل.

قَابَ الكشف هدهدتني الأمواج، قبّلت الشّمس جبيني وهمْهمَ الزّبد :انظري هناك. . في حركة لا شعوريّة سرح بصري فرأيته يُسرج مطايا الزّمن، يُلقي السّلام ويبتسم بينما مراوح الرّيح تهتزّ على جانبيّ والموجُ على محفّة اليمّ يدفعني رويدا نحو الشّاطئ.

 

جميلة بلطي عطوي - قليبية

 

 

في نصوص اليوم