نصوص أدبية

اختفاء أم رمزي

صالح الرزوقلم تكن لي حياة حافلة. كنت آوي للبيت في وقت مبكر، وبعد فاصل مسائي من القراءة أختم السهرة على فراندة جارتنا أم رمزي. وهي امرأة مسنة ووحيدة، مات زوجها القاضي منذ سنوات، وبعد الحرب هاجر ابنها إلى تركيا. وكان البيت في الجميلية خلف مدرسة الفاروق. ومن الفراندا لا ترى غير نصف الباحة. وهي أرض جرداء تسبب للناظر اليأس والهم. وكانت أم رمزي تتكلم عن ماضيها بحسرة، وتقول: كانت أشبه بخميلة. عدا الأشجار هناك عريشة ياسمين وفسقية ثم لبلاب زاحف أو متسلق.

ولم أكن أقاطع تيار هذه الذكريات، فالمرأة مغرمة بالماضي. وهل تضر الذكريات السعيدة؟. ولكن أحيانا كنت أسأل عن تفاصيل. مثلا: كيف ومتى اختفت العريشة. أقصد الياسمين؟.

وهنا أدين لكم بتوضيح.

معلوماتي بالنباتات زيرو على الشمال. فأنا لا أميز بين الفلة والياسمينة. كلتاهما في خيالي مثل خصلة من القطن لكنها ذكية الرائحة.

وعن مصير الخميلة كان جوابها محزنا. برأيها: ماتت بعد حملة النظافة واستعمال مبيد الدي دي تي.

فعلا!!. كلنا سمع بتلك الحملة في الستينات. وشردت قليلا مع أفكاري.

هذا العقار خطيئة دولية. بعد اكتشافه عام 1874 استعمله هتلر في إبادة اليهود، وأمريكا في الهجوم على فيتنام. وتسبب بأمراضم في الرئة وبحالات تسمم. وطبعا لم أفتح معها هذا الموضوع. من غير المعقول أن تعلم امرأة مثل أم رمزي شيئا عن الكيمياء أو السياسة.

***

وكانت أم رمزي صماء، لا تسمع، أو أن سمعها ضعيف. وأصيبت بهذه العاهة في العقد الثاني من العمر بعد خطأ طبي. وكانت تستعمل عوضا عن الجرس مصباحا أحمر. كلما ضغطت على الزر يضيء. ولتتكلم معها أنت بحاجة لخرطوم وقمع.. تضع القمع أمام فمك، وهي تضع طرف الخرطوم في أذنها.

أما لماذا لا تشتري سماعة؟.

من يعلم؟. الإنسان لغز. فما بالك لو أنه أرملة مسنة؟. ثم لم أكن أعرف شيئا عن حياتها في الماضي، وأصلا لم أشاهد لا الزوج ولا الابن. ومنعا للإحراج لم أسألها عن الأمور الخاصة، حتى لا ألمس جرحا لم يندمل، أو أزيل طبقة من الغبار عن رواسب دفنها النسيان. أنا أيضا لي خصوصيات، ولا أحب الكلام عنها. مثلا لماذا أعيش حياة عزوبية.. مع أنني في الخامسة والثلاثين؟. كان الكلام بهذا الموضوع يفجر عندي ينابيع الألم. وفي الواقع كنت مرتبطا وتأخرت بالإنجاب، ورفضت فكرة العلاج، واخترت الطلاق. يعني الانفصال. إنه هروب مهذب. أليس كذلك؟.. تاريخنا الحديث مليء بالحلول المهذبة. أحيانا أعتقد أنني خيال من رمزي، أو نسخة معدلة منه. كلانا هرب من مواجهة مصيره. أنا بالانسحاب وهو بالهجرة، كما فعلنا بعد حصار بيروت. غادرناها بالحافلات والبواخر كأننا شحنة أو بضاعة.

***

كانت أقصر سهرة تستمر على الفراندة لساعة. وخلالها أصيح بالقمع حتى تنتفخ حبالي الصوتية، وغالبا أكرر كل عبارة ثلاث أو أربع مرات. وأحيانا تهز المرأة رأسها، ولكن أشاهد على وجهها سحابة من الضباب. وأفهم أنها لم تسمع. فالقمع يخذلها في بعض الأوقات. حتى الملائكة تخيّب أملك في بعض الأوقات، فهل تستغرب أن يخذلك قمع بلاستيك؟. وكان صوتي مبحوحا دائما على شاكلة شباب المظاهرات أو مسيرات التأييد. ولكن ماذا بيدي أن أفعل؟. لقد تحول طقس السهرات إلى ضرورة للترويح عن النفس. واليوم حملت زجاجة عصير "فروتي" معي، عوضا عن شاي أم رمزي، فهي خفيفة وكثيرة السكر، كأنها ماء محلى، وقرعت الباب. لكن لم ترد. كررت الضغط على الزر، ثم انتبهت أن الباب موارب. دلفت بتردد ثم بشكل عفوي ناديت: أم رمزي!..

ونسيت أنها صماء، فقد فاجأني الباب المفتوح. وكان الممر يسبح في ظلام دامس، وفي الصالون قابلت خيالي على صفحة المرآة. ثم رأيت مجلدا سميكا على طاولة الوسط. واستغربت من ذلك، فأم رمزي لا تقرأ، وكان هناك أيضا القمع والخرطوم.

ترى أين ذهبت؟. سألت نفسي. لم يكن من الحكمة أن تبتعد دون هذه العدة. فهي صلة الوصل مع ما حولها مثل الموبايل عند شباب هذه الأيام.

ناديت مجددا بصوتي الخائب: أم رمزي..

لكن إذا سمعت هذه الجدران هي ستسمع..

تابعت نحو الفراندة. كان بابها مفتوحا على مصراعيه، و تهب منه نسمات ليالي حلب، و لمحت القمر في كبد السماء. وكان بلون وشكل برتقالة يستحيل قطافها. إنما لم ألمس أثرا لأم رمزي. وحتى الآن لا يعرف أحد أين اختفت...

 

صالح الرزوق

 

في نصوص اليوم