نصوص أدبية

سمكة النبي يونس

صالح الرزوقلم أفوت فرصة للاستجمام. وغالبا ما أفضل المنتجعات في الغابات الخضر. فهي توفر لي فرصة للتفكير والاسترخاء. وفي هذا العام ذهبت إلى الشاطئ الأزرق. البحر برأيي غابة أيضا لكن من المياه، ويساعد الإنسان على شحذ البصر وتوسيع الإدراك. وفي أول يوم حملت كرسي حمام الشمس، ومعي لوح إلكتروني فيه روايات للقراءة. وهناك التقيت بولد صغير. كان بين السابعة والعاشرة، ومعه سنارة صيد. كلما رفعها أشاهد شكل الطعم. وكان غريبا كأنه لؤلؤة. تصور. كانت الشمس تتخلله مثل أشعة إكس.

ناديته بتحبب: أنت. يا شاب. ماذا تفعل عندك؟..

نظر لي بوجه أرستقراطي، ثم قال: وهل أنت أعمى؟ أصطاد.

بلعت الإهانة بروح رياضية. فهو صغير وعلى الغالب مدلل. وهل يأتي إلى هنا غير المرفهين؟.

بعد ذلك أردفت: وما هذا الطعم؟.

ألقى السنارة في الماء، وقال وظهره لي: جيلي البحر.

في هذه المرة انتابني التحسس. إنه قليل التهذيب فعلا. لديه عقدة الاستعلاء. لذلك أهملته وطمرت رأسي بالكومبيوتر، وبدأت بقراءة رواية لآيريس ماردوك Iris Murdock. كنت معجبا بها لأنها تدافع عن كاتبي المفضل سارتر. فهي ترى أنه رسول وليس فيلسوفا فقط. ثم مرت حوالي ربع ساعة، خلالها لم أسمع غير ارتطام السنارة بسطح الماء. وبعدها سمعت صوت الصبي يطلب النجدة. رفعت نظري إليه، ورأيته يجر السنارة بقوة كأنها مربوطة بحجرة ثقيلة أو أنها مرساة. تركت ما بيدي وأسرعت نحوه. لكن في تلك اللحظة رفع القصبة، ورأيت الخيط يتدلى، وفي نهايته الفلينة البائسة.

تبادلنا نظرة حزينة، ثم قال بصوته المتعالي: هربت.

- ماذا هرب؟..

- السمكة!.

رد دون أن يتنازل عن كبريائه. واستغربت هذا الجواب. هل السمكة تحتاج لكل ذلك الصراع قبل أن تفر؟.

وأخيرا سألته: متأكد أنها سمكة ؟..

قال بلا تفكير: طبعا. سمكة النبي يونس!.

لكن لم أسمع بها. وتخيلت أنها قوية وعنيدة، وربما من فصيلة القرش أو الحيتان. وللتأكد سألته عن حجمها. ولأول مرة رق صوته، وأخبرني أنها بطول سبع بوصات، ولونها أخضر، وأسنانها أحجار كريمة. وكنت أستمع له وأنا أبتسم. هذا الولد تركيبة، قلت بنفسي. من أين جاء بهذه السمكة؟. إما أنه طفل حالم أو أنه يكذب. ويبدو أنه قرأ أفكاري، فقد سألني: ألم تسمع بها؟. أسنانها فقط كنز!!.

ورماني بنظرة لها معنى، ثم أضاف: تعال معي.

***

رافقته وأنا أضحك من نفسي. فعلا هذه العطلة غريبة. أسرتني فيها مخيلة ولد بعمر ابني. وهذا القول على سبيل المجاز. فقد كنت عازبا، ولم أجد شريكة العمر، وكلما عزمت تحصل منغصات، ويموت المشروع في مهده مثل مشاريع التنمية عندنا. تولد ميتة. وحين وصلنا لمنطقة الشاليهات توقفنا عند شاطئ المياه الرقيقة. وهنا حسب كلامه، سأجد بيوض هذه الأسماك.

تأملت صفحة الماء. كانت ساكنة، ويتخللها ضوء النهار، ويكشف ما تحتها. ولكن لم أشاهد غير شرائح ميكا وكوارتز، مع سمكة فضية ميتة. وكانت تعوم على خاصرتها، وتنظر للسماء نظرة عتاب وألم.

رسمت ابتسامة على وجهي، ولم أرغب بجرح مشاعره. حتى الكبار أصناف. هناك من يدمن على الكذب لينسى مأساته، أو من يعيش في عالم موهوم بغرض التسكين والتناسي. وتذكرت بعض الجيران. يتخيلون أنهم أبطال مع أنهم في الواقع تكملة عدد. وكان معي موظف في المؤسسة، بسيط، وقلبه أبيض مثل الحليب. لكن يبني عالمه بالتمني، ويصر أنه إنسان له شأن، مثل البرغي في الآلة.. إذا خرج من مكانه يشل النظام عن العمل. ولم أجادله على الإطلاق، ما دام الخيال يفيده لماذا نحرمه منه. الكذب الذي لا يضر لا عتب عليه.

***

عقدت مع الصبي أواصر صداقة. وكانت كبرياؤه تذوب بالتدريج، وهو يكلمني عن مشاكل البحر وأنواع السمك. وتعلمت منه الفرق بين الجندول والسفينة. وأخيرا عند الغروب تبادلنا العناوين للتزاور. وهنا تلقيت أول صدمة. فقد كان يسكن في البرج الذهبي. وهو مكان للأثرياء. لأبناء الطبقة المخملية أو كبار السياح. وجبة واحدة هناك تكلفني كل راتبي. وشملت البرج من مكاني بنظرة عجز ونقص، ولاحظت كيف أنه متجهم السحنة، بالرغم من اللون البارد الذي يصبغه.

ثم سألت الولد: هل أهلك أغنياء؟.

هز رأسه بخجل. كلا.

فقلت له: إذا أنت مع أقارب؟.

قاطعني: بل مع والدي.

- وماذا يعمل أبوك؟.

أشار لرأسي بأصبعه، وقال: بم، بم.

وأغرق بالضحك، وأضاف: لواء في المدفعية.

وكأن أحدا سد فمي بفلينة كبيرة. لنقل بفلينة صيد مبالغ بها. فقد خرست، وارتبكت قليلا. لم أكن أحب الاحتكاك بهذه الفئة. كلهم مشاكل. إذا تنفست يحسبون عليك أنفاسك.

وأسرعت بالهرولة لغرفتي المتواضعة، وأنا أفكر: يا للمهزلة. الحرب مستعرة. وابن ضابط في سلاح هام يطارد سمكة في خياله. ولكن لم تنته المشكلة عند هذا الحد. حين وصلت لمكاني اكتشفت أن الكرسي مفقود هو والكومبيوتر. وشعرت بالدمع ينبجس من عيوني. كذب وسرقات في وضح النهار. ومتى؟؟. بعد ارتفاع سعر العملة الصعبة. لقد أصبح سعر الكومبيوترات خياليا. أعلى من خيال هذا الصبي المدلل. وبدأت أندب حظي بصوت أبكم: أتيت لأستجم فسرقني اللصوص.

***

ولم يكن أمامي غير تسجيل بلاغ في المخفر. وهناك استقبلني شرطي بلا كتافيات، وكانت فوقه مروحة سقفية، وشفراتها تدور حول نفسها دورات مجدبة. فهي لا تلطف الجو، ولكن تحرض زوبعة من الغبار واليأس. وقدم لي استمارة شكوى، وفورا طمرت رأسي بين صفحاتها، وتهت بين الأسئلة المحيرة، فأنا هنا وراء كومبيوتر، والأسئلة تشمل أسماء أفراد العائلة، ومكان العمل، ونوع المهنة، إلخ..

ما هذا الروتين الفارغ؟..

وتفاقم إحساسي بضياع الجهد والوقت كلما قفزت من سطر لما بعده، ثم وصلت لبند شهود على الواقعة، ولم يكن هناك غير الولد.

سألت الشرطي: هل تقبل بشهادة طفل؟..

رد بنظرة بليدة. ثم انفجرت أساريره بالضحك، وبدأ يضرب المنضدة بيده، وهو يقول: تقصد ابن اللواء؟.

وفاجأتني بداهته. قلت له: نعم. كيف عرفت؟.

تابع الضحك وهو يقول: يا رجل. عيب. أين نظرك. الولد حرامي. وهذا خامس بلاغ ضده.

***

غمرني الخجل. وشردت بالورقة أمامي. ولد متشرد يسرق أشيائي الشخصية. وداعش وإسرائيل تنهب ما تبقى. وبخت نفسي بهذا الكلام الضار وأنا أستمع لأنين المروحة....

 

صالح الرزوق

آب 2018

 

في نصوص اليوم