نصوص أدبية

المتيم

جيلالي عمرانيحاصرتني بدايات كثيرة لقصة واحدة، إحداها الأكثر غموضا والتباسا، دخول همنقواي المشهد عُنوة. رأيتُ عندما تسلل من شقوق الجدار الإسمنتي، كلصّ، أراه في كل زوايا الغرفة، جاء ليتأكد من مصير تلك الأوراق التي بعثرتها على سطح المكتب. كان غاضبا من تصرفاتي أو تهكمي من بطل روايته التي نالت شهرة كبيرة. بينما جسدي أبدى رغبة ملحة في رقصة استثنائية ذاك المساء حينما حاصرتُ اللحظة المتوهجة إذ كتبت كل البدايات الممكنة، كلمات هنا وهناك على سبيل الاستئناس مثل:"نرجسي، متعال، منطو، عنيف، صدامي.." بالإضافة إلى تخطيط صارم حتى لا أضيع في متاهات الشيخ الكثيرة الموغلة في الزمن والأسطورة والتاريخ والسيرة. همنقواي يراقب ذلك بانفعال شديد. اعتذرت منه بصوت عال:"لا مفر من كتابتها" أقصد القصة.

****

عادة تبدأ أماسي عمي الشّيخ بسؤال يتكرر كلما زرته في خلوته، عند عتبة البيت أو داخل غرفته في الأيام الباردة، خاصة أيام الشتاء:"... وماذا بعد؟" الشيخ الذي ألقبه بعمي احتراما لمساره الطويل وعمره، لا فرق بين أن تناديه بالعمّ أو باسمه الحقيقي الذي التصق به منذ سنوات الجمر من عشرينيات القرن الماضي إذ والدته لجأت إلى اسم ثقيل لتعافه الموت الذي حصد العشرات في قرية إيفري، وهو الذي تحقق فعلا، عمي صمد ما يقرب تسعين خريفا ويطمع في المزيد. ماذا بعد..؟

يبدأ اللقاء بسؤاله الذي يتكرر كاللازمة، يتعمد أن يفتح كل أوراقه القديمة أمام أبنائه وضيوفه. قبل إجابتي بخطاب مفتوح على إجابات كثيرة، متعثرة، فضفاضة، باهتة أحيانا. أترك هامشا للمناورة.. حتى لا أغضبه، كوني أعرف بعض مفاتيحه السّرية، أتجنب المسالك الوعرة. مع ذلك يتذمر من هذياني، أتفهم قلقه، كما أفهم الشطر المضمر من بقية السؤال الذي لاحقته ممحاته مع مرور الزمن، جملته تلك كانت في الأصل طويلة، تأخذك إلى زمنه الوعر، حيث يفتتون الحجر، أو يقبضون الجمر بأيديهم وألسنتهم. تقلصت الجملة مع الصراع الأبدي في البيت، مع الأبناء ثم الأحفاد الرافضين لحكاياته التي يجترها يوما بعد يوم، يحرجونه أو يغضبونه، فاضطر إلى حذف الكلمات الزائدة واحدة تلو أخرى، إلى أن بقيت الكلمة الوحيدة: وماذا بعد؟

يسألك أسئلة روتينية عن رفاقه، عن أقرانه الذين فقدوا القدرة على الحركة، عن الذين فقدوا الذاكرة، أحيانا يضحك وأحيانا يتألم، نادرا ما نراه يبكي. بعدها يطلق العنان للحكي المستمر، يواصل من الفاصلة أو النقطة التي توقف عندها في الأسبوع الماضي، أو في الشهر الماضي، كأنه يريد أن يقول لنا: أن ذاكرته من حديد أو إنه لازال قويا.. إذ يصل بك في كل الحالات إلى الشام، والشام لمن لا يعرفه هي قريته "ايفري" المعلقة في جبال جرجرة، وقيل أن أجداده الأوائل يسمونها الشام رغم أن أحدهم لم يزر الشاّم، أحبوها أبا عن جد، الشام في مخيلتهم رائعة، هي مدينة المدن، الشيخ رغم أنه زار العديد من المدن منذ الثلاثينيات، ويعددها لتتأكد من صدقه آه لو تعرف مصير الشام وبغداد يا عمي! لن أقول له شيئا عن مصائر مدننا الكبيرة والصغيرة. زوجته تمنع كل محدثيه عن ذكر الأماكن التي أحب بسوء، أو بالمصير الذي آلت إليه مناطق الدفء التي أحب. لا زال يعتقد أن الشام هي الشام، وايفري هي ايفري.

كان الوقت ظهرا عندما قصدت بيته آخر مرة، زيارته أكثر من واجب. كانت زوجته عند عتبة البيت على غير العادة، رغم كل تلك السنين الهاربة إلى المجهول لا تزال تتصرف بعفوية، رتبت على كتفي كأني أحد أبنائها، ارتسمت على محياها علامات القلق والخوف.. توقعت الأسوأ في غياب ابنيها، عادة أجد عمي الشيخ في مثل هذا الوقت المثالي يترقب عودتهما من العمل.

قالت:

" عمك أحس اليوم بوعكة..كان يخاطب أشباحا، اليوم أتعبني، هو نائم الآن..أدخل"

دخلت غرفته التي تشبه متحفا، أدوات يدوية معلقة، تخصه كان يحتفظ بها ولا أحد يقترب منها أو يمسها أو يستعملها، معلقة كشاهد على زمنه وحبه: معول ومنجل.. أدوات يدوية لا أعرف أسماءها ولا كيفية استعمالها. سريران شكلا زاوية قائمة، أحدهما احتله والآخر الأقل فخامة لزوجته. نام كالطفل بعينين نصف مفتوحتين، تكور داخل نفسه، نائيا، بعيدا، لا أحد يعرف شيئا عن تلك التهويمات التي تزعجه ليلا.. يده اليسرى على عينيه كي لا يرى وجوها.. ويده الأخرى تشبثت بسرير زوجته كأنه يخشى أن تتركه وحيدا لهواجسه...

قالت:

-"اليوم أخافني يا ولدي"

رأيته ممددا كالطفل، بدت التجاعيد على وجهه وجبهته فجأة، كأنه الشيخ الذي لم أعرف، تراخت عضلات اليدين التي يفتخر بقوتها، التي يستعرضها أمام أبنائه وزواره. يقول بهذه القوة قهرنا أعداء الأمس. طفت كل الحكايات التي رواها عبر هذه السنين الأخيرة. حكايات لم يكن فيها بطلا، كان واحدا ممن صنعوا ملحمة القرية والبلد، حكاياته عن بلد برمته أو قريته الشام/ ايفري. حكايات كثيرة، عميقة، تمتد إلى أزمنة عليك أن ترحل معه في سفر طويل. متشعب.

أخذت مكاني قبالته كتلميذ يحسن الإصغاء، التزمت الصمت بينما زوجته تتمايل بثقلها في المطبخ بحثا عن شيء تضيفني به كما كانت تفعل.. لم أصدق ما أراه. نائم في عز الظهيرة! هو الذي لم يفعلها من قبل..قريني من أقصى الدنيا يقول بصوت عال: أنت في حضرة شخص غير عادي يا...شخص عاصر عظماء القرن العشرين....قدم في العشرينيات وقدم معنا..تخيّل ذلك. تخيل أن الشخص الذي أمامك اختزل حبه كلّه في الشام، شامه..تخيل هذا الجسد النائم وهو يجوب الأرض القاحلة مشيا على الأقدام، من ايفري إلى العاصمة"الجزائر البيضاء" هذا الذي ارتدى اللباس العثماني، والأحذية المصنوعة من الحلفاء والجلود..هذا الذي انظم إلى المقاومة دون أن ينال ورقة تثبت ذلك...هي لحظتك التي انتظرتها.. أخذت كامل وقتي في التأمل، في حين توترت حواسي بحثا عن كناشة أو منفذ، أقصى أمنياتي تلك اللحظة التي تشبه جمرة أن تكرمني زوجة عمي بصمت إضافي. الجمل التي اختفت في مكان ما داخل أعماقي بدأت تتطاير كالفراشات، أراها تتراقص في الفضاء من حولي، حول الشيخ الطفل المطمئن، تراقصني.. تكتبني..كل إمكاناتي المهدورة سابقا تجمعت في لحظة نادرة...كلما تكور أكثر داخل متاهته يعزلني المشهد عن كل المشاهد وكل المؤثرات الثانوية، حتى ارنست همنقواي الذي حضر فجأة، يتوعدني إن اقتربت من حقوله.. عمي هو الحكاية، كنت أقول له. عمي يختلف عن بطلك، صيادك هزمه الحظ طيلة الثمانين يوما، وعمي هزم الحظ تسعين خريفا ويطمع في المزيد.

استيقظ في وقت متأخر، كانت زوجته قربه، تفاجأ فعلا بحضورها، بقلقها، هزّها من قدمها اليسرى:

-" أنت هنا؟" كان سعيدا جدا حينما قرأ القلق في عينيها، وهي بقربه يدها على خدها. حدق في وجهها مليا خاطبها بمحبة غامرة:

-"لا تخافي أنا بخير..."

كاد الحياء يسقطها وهو يغازلها أمامي، تهربت من عينيه الوقادتين، تقول بانفعال:

-" لم أقلق.."

قال لي أثناء انفعالها المؤثر:

-" أتعرف عندما تزوجت خالتك؟ عمرها لا يتجاوز الثالثة عشر..ههه...ههه "

سكت برهة، كأنه يسترجع أسباب نومه، إذ يبدو سعيدا..

أردف مخاطبا بضمير الجمع رغم أني كنت وحدي في متحفه:

-......وماذا بعد؟

***

قصة قصيرة

جيلالي عمراني - قاص من الجزائر

 

في نصوص اليوم