نصوص أدبية

سفر الى المجهول

صحيفة المثقف....ما إن استهل الطريق حتى أقسم أن لا عودة، بعدما ماتت من كانت تشُده إلى هذا الوطن ...استسلم إلى الفرار، نظر خلفه إلى منزله البائس بين أكوام العفن ثلاثون عاما من عمرها تنتظر وعود الباطل بسكن لائق يحفظ كرامتها، وينتظر هو بسمة على محياها الذي أرهقه صعود تلك التّلة عبر أكوام الطوب والحجر وأكياس الزبالة..بعدما فقدت أنيسها في تحرير البلاد وفقدت بكرها مريضا دون أن يجد مكانا يعالج به.. حررها الزوج وتركهم في الاستعمار ينتظرون وينتظرون ويسبق العدل الوعد الذي قطعه مسئول البلدية الذي كان بالأمس جارهم قبل أن يركب الريح..

يلملم كل ما بقي من أثار أبواه وجدّته في مخيلته، ويبيع الباقي ليشتري تذكرة نجاة من بؤس هذه المدينة، يضع بعض الصور وقليلا من الزاد في حقيبته البالية بعد أن لّف الكل بالبلاستيك... ويلامس بقدمين حافيتين الشاطئ الذي كان يحلم بالاستحمام في بحره ..حلم كان بالأمس صعبا سهلته الظروف غير أن الوقت شتاء ليتنعم بمياهه، وموعد الذهاب بات وشيكا، يصطف الجميع مقدمين عطاياهم لمنقذهم الذي ينتحل اللثام ولا يكلف نفسه حتى عناء التكلم ..كبارا وصغارا ولدانا وشيبا، نساءا ورجالا،تساوت التذكرة.

يرتقب مع المرتقبين قدوم الناقلة بعدما رأى كثرة المسافرين ليرى في عتمة الظلام مركبا يدنو من الشاطيء ..شباك الصيد مازالت عالقة على جوانبه .

ربما أخطأ الرسو ليُطلب منهم الصعود ..الواحد تلو الواحد يلتصقون بجوانب القارب تمسكهم أجسادهم بعضهم إلى البعض.. يضعون أمتعهم في حجورهم ويسلك القارب ممرا في البحر، وتتلاشى صورة أضواء المدينة الخافتة شيئا فشيئا، لتبدأ حكايات الليل ..مآسي العشرات من الهاربين تربطها علاقة واحدة ظلم العباد للعباد ..مآسي حركت فيه الشعور بالظلم لينفجر بالبكاء أمام الجميع ، دموع من دم ونار تكوي خدوده لتصنع مسلكا تهوي منه على أرضية المركب لتحرق ألواحه وينفجر الجميع بالبكاء كلٌ تسربت همومه عبر أحزان  - حمودة -  كما كانت تناديه جدته، وعلى بعد أميال من الشاطيء، ينبثق من البحر نور الشمس.. يستبشروا علّهم ينعموا ببعض الدفء ويتلاشى ما بقي من ظلام الليل بوهج النور ..أمل جديد في أفق حجاج أوربا.

بعد ليلتهم الأولى في البحر.. ترآى لهم الحلم وشيكا لتصفع الأمواج الهائلة التي تصد طريقهم ترفض قدومهم ينادي قبطان المركب هلعا بأن يرموا أي ثقيل عندهم وتنظر الأعين إلى بعضها مستغربة هذا القول فلا ثقيل هنا إلا أكوام البشر وتعصف الريح بهم تجزر السفينة توحي إليها بالعودة ويأبى الجميع العودة.. ليعودوا جثثا.

***

الاطرش بن قابل

 

في نصوص اليوم