نصوص أدبية

المتصابية

جيلالي عمرانيدخلتُ النادي كما كان متوقعا تلبية لدعوة صديقي"ع"، للأسف لم أجده ينتظرني كما  ادعى، لعله سيأتي لاحقا، لا أخفي فرحتي بنصّ أخذته معي و أحلام سأرويها له، تمنيت لو يشاركني هذه اللحظة التاريخية بنشر المقال أخيرا "انسحاب..." أكيد لو كان معي الآن لتجمعت الحشود من حولنا، سيقدمني للعالم بشكل مختلف، بكلمات رنّانة، بمقدوره صنع البهجة  للتو.

سألت النادل عن مكان تواجد صديقي.

لم يتردد في الإجابة متهكما:

- السيد "ع"؟ طبعا لن يعود قبل ساعات...

النادي فسيح، مطلّ على البحر المتوسط، هو محطة لكتاب المدينة، تراهم فرادى وجماعات يلتقطون الصور أمام اللّوحات الفنية، خاصة أمام لوحة"طيور البجع" الجميلة، يثرثرون، يحلمون في كتابتها كنصّ استثنائيّ. ولوحات أخرى لسلفادور دالي و فان كوخ المقلّدة، لكنها تمنح لك الفرجة و المتعة. لم أفعل كلّ تلك الطقوس الغريبة، اكتفيت بالشرود، مسمرا أمام تلك الحشود البشرية، كأنهم في خلية نحل مصطنعة.

كنت قلقا و متحفزا جدا، يكفي أني سأغتسل بعد قليل من نفس الصنبور الذي اغتسل منه الكاتب الكبير "البير كامو" و سأطلّ بعد حين من الشرفة على الميناء مباشرة. و سأكتب عن هذه اللحظات المدهشة بعد أيام أو سنوات. كانت القاعة الكبرى غاصّة، كل الطاولات محجوزة تقريبا، باستثناء تلك الطاولة عند الركن قبالة الشّرفة العتيقة، احتلتها سيدة، كانت بمفردها،  وحيدة، مبتلة، تلتهم شطائر البتيزا  أو تحرق السّجائر، تشبه في جلستها المتشنجة لوحة سريالية،  ترددت في الذهاب نحوها كنت متوجسا لأن الركن محجوز منذ سنوات من طرف شلّة البوهيميين. آثرتُ الوقوف قبالة المرآة، أحدق أمامي وخلفي، كأني أحرك الكاميرا يمينا و شمالا، لأتحكم في الوضع ككاتب شاب يختلس اللّحظة المستحيلة للانقضاض على غنيمتي المشتهاة.

النادل يتحرك بحماس، بحركات سريعة الإيقاع في البهو بين الزبائن المنشغلين في تبادل التحيات و القبل علنا. أصوات، موسيقى، وشعر، في مشاهد متتالية غامضة، كغموض الفن و محنته الكبرى. أجساد رشيقة، مكتنزة، وجوه ناعمة لفتيان و فتيات. قصّة في الأفق تغازل نهمي للحياة. كنت مشدوها بدليل تلك الابتسامة المؤجلة إلى حين قدوم الصديق"ع" أو بعد دهر. طلبت قهوة من السّيد المتجهم، ثمّ ليس في مقدوري تأجيل موعد تناولها حتى و لو كنت بحاجة للحظات صفاء لأتابع الهرج الجميل، هذا يقرأ الشعر و الآخر النحيل يتغزل بشابة أنيقة تجلس قبالته غير مكترثة بالعَسس. أرى في الركن القصيّ عينيها اللامعتين. لم أتأكد بعد هل هما بنيتين أم سوداوين؟ هل تنظر إليّ تحديدا أم في الفضاء الذي تراه فارغا؟ لحظات كانت حاسمة، لأكتشف أن العينين لأنثى  مبعثرة و غامضة، تتشبث أو تنتظر أحدا ينقذها من الرّتابة. هل يصحّ القول أنها تتحرش بشاب يافع، لستُ أنا على كلّ؟ هي تحاول فعلا جذب أحدهم بلطف زائد، بينما هو يتحجج بالذهاب(هاربا) لعلي أبالغ في وصف المشهد. كانت مجرد شكوك أو تخيلات بفعل غربتي داخل متاهتهم  المضبّبة..

أخيرا، أراها تتمايل، تتصابى بحركات مضحكة، و تثرثر مع جليسها الهارب (لم أسمع الحوار كاملا) بالصدفة (أتحمل كامل مسؤولياتي في هذه الجملة) التقت عيناي بعينيها، هي وميض سريع كاللّهب، لم تنتظر كثيرا لتصرخ الجالسة في الرّكن القصيّ المظلم الذي ورثته بعد  معارك وهمية خاضتها ضدهم، في فترة وجيزة من تاريخها المثير حولته إلى مقام معطّر سمّته "مقام أبي نواس العظيم"  وهي هناك كالتمثال الجميل تتصدّر المشهد، لها مريدين كثر، صعاليك وشواذ بشعور طويلة، وسراويل قصيرة مزركشة، و قصاصات يرمونها للمارّة كلما هاج أحدهم شعرا أو نثرا و رقصا... أعرف شذرات من تاريخ النادي أي قبل هذه اللحظة المعقدة وفنجان القهوة بين أناملي، للعلم أني لم أرتشف بعد الرشفة الأولى.

:" ليش تنظر فيّ؟"

عينان سوداوان، كبيرتان، حادتان، مثقلتان بالكحل، كأنها ثملة تفتعل حركات لإثارة الهلع  لتتقاذفه الصحف والمجلات وألسنة السوء.

أسأل شخصي:"أنا؟"

تصرخ المبتلة:

-" .... تنظر فيّ؟"

اسأل الفنجان المرتجف بين أنامل يدي اليمنى:

-"ليش تحدق فيها يا..؟" مع أني رأيتها بالصدفة.

تقف على قدميها، مثقلة. تبدو في العقد الخامس. آه، صوتها، كأني أعرف هذا الصوت الأجش. الحزين جدا. تتقدم و تصرخ في أرجاء النادي:"ليش...يا أحمق" مع تضخيم متعمد للكلمة الأخيرة. هي تنظر جهتي، حيث أقف متهالكا متوجسا من الموقف، صوتها لم يكن غريبا على أذنيّ، سألت فنجاني القريب من شفتي أخيرا:

"هل هي؟ الشاعرة "ز" المحترمة؟"

تتسلل من بين الجموع بشيء من التمثيل، تتقدم في اتجاه الكنتوار، بينما عيون الزبائن كلها مصوبة إلى جسدي المرتجف، لا زلتُ متعاليا،  أتكئ على الحافة غير مبال. قد تكون هي. كيف أتجرأ على الفعل؟

توقف النادل وسط القاعة ينتظر الإيعاز منها. بلا شك كنت في موقف لا أحسد عليه، تحولتُ فجأة إلى هدف سهل المنال. كنت قريبا من خناجرهم و أظافرهم لاسيما من يديها النحيلتين الممدودتين في الفراغ في محاولة لخنقي. لم أتحرك إذ كان الترحيب بي غير لائق ولا يشرف بتاتا تاريخ النادي. هل القادمة إليّ هي؟

تتمايل كممثلة على الرّكح. بدليل انتباه الكومبارس المحيط بالشاعرة "ز" كانت عيونهم أكثر شراسة ثم أيديهم أكثر امتدادا من يديها الهزيلتين.. يتردد صدى كلماتها الجوفاء في الأرجاء. لكن كيف وأنا لم أفعل أبدا ولم أتحرش بها.  الفنجان معلقا لبرهة كما علقت الكثير من الإجابات في حلقي الجاف.  شتمها وصلني كاملا. لماذا؟ أنا الذي لا تعرفه و لا تتذكر الشّاب الخجول عندما التقينا قبل سنوات في مدينة داخلية تروج لديوانها، برفقة الشاعر الأنيق المدعو "ب" قدمني لها ككاتب والقلم بين يديّ "قاتل محترف" انتبهي يا "ز" من هذا الشقيّ الأسمر الطيب"

ضحكت  من مزحته الشعرية.

أضاف بغير قصد:

-" هي الشاعرة " ز " تكتب بقوة، تكتب بقلم سيال و بساقيها أيضا"

ابتسامتها ساحرة، حدّقت مليا في سمرتي، ثم وقعت ديوانها، بمقدوري تذكر كلماتها القليلة التي خطتها بقلمها الأزرق:" إلى الفاضل، القاتل بقلمه، مودتي و احترامي"

هل تتذكرني بعد كل هذه السنوات العجاف؟

-"شو...يا أحمق"

قالتها بلهجة سورية أو عراقية، قوية، تحمل زخات شعرية، تقف متعثرة بين أجساد مريديها، عيونهم تعري جسدي المتعرق، تمزقني إربا إربا، وقفوا كرجل واحد، أعرف معظمهم: مغني الرّاب، السيد الملقب بـ"الزير" بين شفتيه بقايا سيجارة منطفئة، والآخر ملتحي، يتوعدني  بكلمات نابية. لساني الخشبيّ يصرخ  في مكان ما:

-"لم أهتم بوجهك، ولا بشعرك، ولا بساقيك" وقفتْ قبالتي، اكتشفتُ ما تبقى من جمالها و ما آلت إليه من ترهل فظيع، رأتني وجها لوجه، كبدويّ، قلمي يقتل أبطالا لا يستحقون العيش. طبعا هذا من مزح صديقها الوفي"ب" قالها ذات مرة. أما بعلها الأنيق وصل في اللحظة المعقدة، استغل صمتها ليبعدها بهدوء، معتذرا لي نيابة عن السيدة"ز"، قائلا بتوتر:

-" تفهم توترها...آه هذا أنت؟ أين رأيتك؟ عموما حصل خير".

لم ينتظر إجاباتي الفضفاضة، عادت إلى ركنها رفقة الزير و الزوج، أما الشّلة المستنفرة صفقوا مطولا لخرجتها غير المتوقعة. لم أتأكد بعد إن كانت هي، ربما هو حلم مزعج،  مستحيل طبعا. الأدهى من كلّ هذا، رأيت صديقي  منكمشا في مكان ما غير معنيّ أصلا بالحادثة، لم ينتبه أو تجاهل بمعنى أدق ما تعرضت له قبل لحظات، مع أنه بالفعل كان هنا منذ الفجر كما ادعى.

سألني الصديق"ع" منزعجا:

-"أين كنت؟".

-"هنا، في مكان ما في هذا النادي".

-"مستحيل، هل كنت تحلم يا رجل"

قالها ضاحكا.

***

جيلالي عمراني - الجزائر

 

في نصوص اليوم