نصوص أدبية

مدينة الأشجار النائمة

زوليخا موساويدخلت تلك المدينة أول مرة. لا أعرف كيف وقع هذا. كانت مثل كفّ اليد.كل الشوارع تفضي إلى شارع واحد ووحيد  في شبه دوامة مخيفة، شرطي واحد وديكتاتور بألف رأس يكتم أنفاسها من أيام عاد وتمود. يتحرّك سكانها بتثاقل كأنهم خلف كاميرا في فيلم بالأبيض والأسود.

حين وصلت إلى نهاية شارع يفضي إليه شارع آخرأو العكس أي أن الشارع الآخر هو الذي يفضي إليه، استوقفني شرطي بإشارة من يده. مددت بصري في محاولة لاستجلاء ما يجري خلف كتفيه العريضين لكني لم أر شيئا. عمدت إلى حيلتي المألوفة: أبتسم في وجهه وأصطنع عدم الفهم. لكنه فطن إلى حيلتي فقطب حاجبيه في وجهي. لم أستطع أن أفعل شيئا أمام وجهه المغلق بإحكام فعدت أدراجي بعد أن فهمت من حركات يديه ورأسه أن المكان الذي وصلت إليه هو نهاية السير وأنه عليّ أن أعود من حيث أتيت ففعلت.

تعودت حين أدخل مدينة لم يسبق لي أن زرتها من  قبل أن أرى أحوالها على قسمات الناس  وفي حركاتهم وسكناتهم لأنها مصدر زاخر بالمعلومات أكثر من كتب التاريخ وعلم الاجتماع.

 لكي تعرف مستوى حضارة شعب ما عليك إلا أن  تنظر جيدا في بؤبؤ عينيه.

الناس في المدينة يتحركون بوجوه عابسة، جباه تكاد تصل إلى الأرض وعيون لا تركز في شيء. مماذا يهربون؟ يبدون طبيعيين جدا: ينامون، يأكلون ويتناسلون. يحزنون ويفرحون ككل الناس في كل بقاع الأرض.

لكن حين نعطي أنفسنا فرصة النظر أبعد من النظرة قد نخطئ أو نصيب وقد نتلمس طريقا على درب الاحتمالات المتعددة  كتفسير لهذه الشفرة: قدرمحتوم موشوم على الجباه مثل ما كان يحدث للعبيد حين كان اسم سيدهم يحفر بالنار على أماكن معينة من أجسادهم.

كدت أختنق رغم السماء المفتوحة لهذه المدينة الغريبة، فقررت المغادرة. ما الذي أبقى من أجله في مدينة  لا تشبه أي مدينة؟ لكن من اين الخروج؟  نهاية الشارع  الوحيد ذلك اللولبي كمصران كلب أعور، المؤدي إلى لا أدري من مصائرغامضة محروس بتفان من طرف الشرطي المغلق الوجه الذي تغلق كتفاه العريضتان مجال الرؤية وتحجب عن المدينة خيوط الشمس. كدت من فرطة دهشتي أن أشك في أني غادرت المجموعة الشمسية التي تنتمي إليها الأرض ووقعت لا أدري كيف في مجرة أخرى ومجموعة شمسية غريبة. لماذا تبدو الشمس شاحبة ومنخفضة تكاد تلامس التراب في الظهيرة؟

أخيرا لا شرطي في المكان. عليّ أن أنتهز الفرصة وسأمرّ إلى الجهة الأخرى دون أن يشعر بي أحد. لكن ماذا لو كان الأمر مكيدة دبرت لي كي أقع في الفخّ؟ وإن وقعت فيه ماذا سيكون مصيري وكيف سأواجهه وأنا لا أملك شيئا ولا أعرف هنا أحدا يمكن أن يمد لي يد المساعدة. كل هذه الأفكار كانت تدور في رأسي وأنا أحاول أن أمشي على أطراف أصابعي كي لا أوقظ الأشرار من نومهم.

بقيت لي خطوة واحدة وأصبح خارج هذه الدائرة المقيتة.  ارتطمت جبهتي بشيء بارد وصلب. شيء شفاف لدرجة أني لم أستطع أن أراه لكن حين مددت يدي ارتطمت  اصابعي بصلابته وصقيعيته.

نظرت ورائي. سكان المدينة لا يأبهون لشيء. ينصرفون إلى أعمالهم بحركات وئيدة ونظرات فارغة. كل واحد  منهم في المكان المخصص له، يقوم بالحركات التي عليه أن يقوم بها، يتمتم بالكلمات التي  يحفظها وفي الخلف صوت موسيقى حزينة ورتيبة  لكن حين بحثت جاهدا عن مصدرها لم أعثر على شيء كأنها منبعثة من السماء أو نابعة من أعماق الأرض.

لماذا لا أرى نساء؟ بل كل سكان المدينة ذكور. ذكور من كل الشرائح العمرية.

زاد إصراري على إيجاد مخرج. رفعت بصري أستجلي محيط هذا السور العظيم الشفاف والسميك، قد أجد فيه نقطة ضعف أتسلل منها إلى حريتي.

توقفت الموسيقى الرتيبة فجأة فعمّ لبضع ثوان صمت أعمق من صمت القبور. وكما توقفت الموسيقى الحزينة فجأة، انطلقت فجأة موسيقى عسكرية تصم الآذان عقبها صوت خشن عبر مكبر الصوت:

الزعيم يخاطبكم.

ظهرت صورة تغطّي كل الحائط أي تغطي المدينة  لرجل ضخم الجثة، مشذب اللحية، ينفخ في نرجيلة وجسده الضخم متهالك على وسائد وثيرة. كان يضحك بصخب. ينظر إلينا عبر الحائط الشفاف ويستلقي فوق الوسائد على ظهره من الضحك.

هذا الحائط الشفاف الذي اصطدمت به وصدّني عن محاولة الخروج من هذه المدينة الورطة ليس إلا شاشة عملاقة وأنا محبوسة داخلها أقوم بدور لم أختره وليس لي الحق في رفضه ولا حتى طلب مغادرة هذه الشاشة العملاقة. شاشة بحجم مدينة.

***

زوليخا موساوي الأخضري

 

في نصوص اليوم