نصوص أدبية

صوتُ اللغةِ المكسور

عاطف الدرابسةقلتُ لها:

اكتشفتُ أنَّني كاتبٌ فاشلٌ، لا أُجيدُ الكتابةَ في السَّياسةِ أو الاقتصادِ أو علمِ الاجتماعِ أو فنِّ الطهو، واكتشفتُ أنَّني لا أُجيدُ الغزلَ أو الهجاءَ أو مسحَ الجُوخِ والحريرِ، أو الأحذيةِ الفاخرةِ ذاتَ الجلدِ الآدميِّ، وأدركتُ أنَّني لا أُحسنُ النَّقدَ ولا المعارضةَ ولا العملَ الحِزبيِّ أو النقابيِّ فلكلِّ حِرفةٍ أسرارُها وخفاياها وتقنياتُها ودهاليزُها ومنعرجاتُها وأغوارُها، فأنا لا أُجيدُ السِّباحةَ في المياةِ الرَّاكدةِ ولا أجيدُ سبرَ الأغوارِ السَّحيقةِ، فمنذ أن وُلدنا تعلَّمنا أن نلعبَ على السَّطحِ أو فوقَ السَّريرِ أو فوقَ الطَّاولةِ، فأنا يا حبيبتي لا أُتقنُ اللَّعبَ تحتَ الطَّاولةِ أخافُ على حجرِ النَّرد أن يعاندني .

تعطَّلت منذ زمنٍ ذاكرتي، كم حاولتُ أن أستعيدَ صوتَ أمي أو بعضاً من ملامحِ صورتِها التي حلَّت في نفسي منذ كنتُ طفلاً أمارسُ رياضةَ الرَّضاعةِ لأُدرِّبَ شفتيَّ على نُطقِ بعض الحروفِ الصَّعبةِ أو على البكاءِ، لأنَّني كنتُ أعتقدُ بزمنٍ سيأتي نحتاجُ فيه إلى البكاءِ .

ها هو البردُ يتسلَّلُ إلى صوتي مثلَ لصوصِ ليبيا واليمنِ، أو مثل لصوصِ بغدادَ والشَّامِ فتفجؤني ارتجافةٌ أو ارتعاشةٌ ألمحُ فيها تاريخاً من الانكساراتِ والغباءِ، وأرى فيها ظِلالاً لصورٍ تقفُ صمَّاءَ لا تهشُّ ولا تنشُّ يحطُّ على رأسها الذُّبابُ من كلِّ مكانٍ فتَّتسعُ أحزانيَ أكثرَ وأشعرُ بأنَّي يتيمٌ لا أرضَ لي ولا وطنٍ .

ليتني أمتلكُ أظافرَ ويدينِ لأنبشَ التُّرابَ، وأستخرجَ من ذرَّاته بعضاً من عظامِ أبي أو لحمهِ، أو أن أجدَ بعضاً من عيونِ أُمِّي لأعدو إلى الوراء، هرباً من مستقبلٍ كأنَّه السَّرابُ .

ليتني أمتلكُ مِعولاً، لأهدمَ زنازينَ غربتي ووحدتي، ثمَّ أسيرُ في رحلتي نحو ثورتي بقطعةِ ضوءٍ من عيونِ أُمِّي .

لم يزل في صدري بقايا من صعلوكٍ جاهليٍّ، خلع ذاتَ يومٍ القبيلةَ، وفي صدريَ الكبيرِ ما زالَ هناكَ مُتَّسعٌ لكلِّ صعاليكِ المدينةِ، وما زلتُ أمتلكُ عُوداً واحداً من الكبريتِ لعلَّهُ يكونُ شرارةَ المُبتدأ لنهايةِ شعوبٍ وقبائلَ وطوائفَ خُلقت للتقاتلِ والتناحرِ .

أحاولُ يا حبيبتي أن أطلبَ موعداً من الصَّباحِ فكلَّما ذهبتُ إلى هناك قالوا لي غداً يُشرقُ الصَّباحُ، أحاولُ أن أسرقَ موعداً من عينيِّ امرأةٍ بطعمِ الصَّباحِ، فينسكبُ الأسى في خاطري وتتَّسعُ الجِراحُ .

يا حبيبةُ لا تتَّبعي أثرَ الجرحِ النَّازفِ لأنَّه سيأخذكِ نحو مقابرِ أهلِ التاريخِ وأهلِ الكتابِ والغنمِ، وهناكَ ستجدينَهم يطوفونَ ويُكبِّرونَ ويُهلِّلونَ لألفِ ألفِ صنمٍ، كلَّما مات منَّا صنمٌ نُفاخرُ الأُممَ بولادةِ صنمٍ.

 

د.ع

 

في نصوص اليوم