نصوص أدبية

بيت الأم

صالح البياتيتبديل الأسم: عندما كنت في السابعة عشرة من عمري، كان اسمي إجباري، لم أكن احبه، واتضايق منه كثيرا، حين ينادونني به، خاصة اصدقائي،  اشعر انه لا يروق لهم، وأنهم ربما يستهزئون بي في سرهم، فصممت ان أغيره، وكان اصراري هذه المرة قويا، ليس كالمرات السابقة، التي اواجه بالرفض، أو بجواب غامض من أمي، عندما اسألها لماذا اخترتي لي إسما قبيحا، هل ندرت الأسماء ولم يبق سواه، فالصقتموه بي كقطعة من القار، فكانت تقول ستعرف السبب يا بني، ولكن حين يأتي الوقت، لم استسلم كما في السابق، وطلبت منها ان تغيره، قبل انقضاء العطلة الصيفية، وابتداء العام الدراسي الجديد، واستجابة لأصراري، وافقت اخيرا، واتفقنا على الذهاب غدا لمحكمة المدينة، سألتني ما الأسم الجديد الذي اخترته انت لنفسك؟ فقلت متحمسا: نوح، ابتسمت واحبت ان تعرف، كيف خطر لي وفكرت باسم جميل كهذا؟ 

حكيت لها عن تلك الليلة الشتائية، التي انهمر فيها المطر غزيرا، وتدفق فجأة من الباحة المكشوفة للسماء، الى الحجرتين الاوطأ مستوى في البيت، فغمرتهما بسرعة جنونية، سمعتُ صراخ الدهلة تستغيث بنا، كان ابناها سعيد ومقبل يحاولان عبثاً، وقف المياه المتدفقة، لا زلت أذكر يا أمي برد شتاء تلك الليلة القارص، وقصف رعودها المخيف، وبروقها التي كانت تصفع كسياط نارية وجه السماء الشديدة الحلكة.

انطبعت تلك الليلة في ذاكرتي الطفولية، كالوشم الأزرق الذي يزين أصابع كفيك، خُيل اليَّ في تلك الليلة، أني أسمع صوت المرأة يأتي من المجهول، مخترقاً حجب الغيب، كانت تصيح "أغيثونا.. طوفان.. راح نغرق"

التقطت اذناي كلمة "طوفان " وكنت آنذاك صغيرا وشغوفا بقصصك المثيرة، الماتعة والمدهشة، وعلق بذهني الشيء الكثير منها، وقد اعجبتني خاصة، قصة الطوفان الذي غمر الأرض، وأدهشني أكثر سفينة نوح العجيبة، التي كانت من ألواح، وهي تجري بين أمواج كالجبال، عظمت في مخيلتي الطفولية، ما قام به النبي نوح من عمل بطولي، في إنقاذ البشر من هلاك محقق، فنظرت الى تضحيته، بإكبار وإجلال، وأحببته كثيراً، كنت أحلم أحياناً بتلك السفينة وأتخيل نفسي واقفاً بجانب النبي العظيم، ربان السفينة التي تمخر البحر الهائج بحمولتها الغريبة، وهو يدير دفتها بحذق نحو بر الأمان، تداخلت تلك الصورة مع صراخ الدهلة المستغيثة من المطر المنهمر مدرارا، ومنذ تلك الليلة وأنا أحلم بالاسم الجميل، الذي سيأتي اليوم المنتظر الذي أسمى به.

 تأثرت أمي ودمعت عيناها الصغيرتان، وظهر الوشم على ظاهر كفيها الأبيضين أكثر زرقة، وأقرت أن حان الآوان لأسم جديد احبه.

 في اليوم التالي وقفنا أمام قاضي المحكمة، في محلة السراي بمدينة العمارة، واجابت امي بأنها موافقة على تغيير اسمي، وهززت انا رأسي مرتين، حين سألني، أتريد انت تغير اسمك، أمرني القاضي أن أجيب بنعم أو بلا، فهتفت بحماس لفت نظر القاضي، نعم أريد تغيير أسمي، فسألني: لماذا تريد ان تغيره؟ فكان حماسي اقوى: لأني لا أحبه.

  ابتسم القاضي، حول نظره للأوراق التي أمامه. وأشار الي بالقلم الذي كان بيده اليمنى: انت من اخترت هذا الأسم، هززت رأسي للأسفل مرتين، هذه المرة لم يقل القاضي شيئا، ابتسم لي مرة أخرى، وقال، أحسنت الاختيار بني، أسم مبارك لنبي عظيم، أبي كان اسمه إجباري أيضاً، ولو كان حياً ويمتلك نصف حماستك، لبدله في الحال، ولكنه لسوء الحظ، جُند في حملات السفر برلك ولم يعد.

عدنا من المحكمة بعد الظهيرة، شعرت كأني محارب قاتل بشجاعة فأنتصر في المعركة، سرت صامتا بجانب أمي، أفكر بما ذكره القاضي عن السفر برلك، دون أن أفهم شيئا، انتظر الوصول للبيت، لأسأل أمي عنه، وفي الطريق التقيت بزميلي أنور، فأخبرته اني بدلت أسمي، ضحك وضربني على كتفي، لم أدر لماذا؟ قلت: سنلتقي قريبا في إعدادية العمارة، ولكن تألمت، عندما أخبرني أنه سيترك المدرسة، وسيعمل مع ابيه في محل الحلاقة الذي يمتلكه، كنت متحمسا لمساعدته، أكدت له اني سأقنع والده بالعدول عن رأيه، والسماح له بمواصلة الدراسة معي

أعترض يائساً ألا افعل، فوالده كما يعتقد سوف لن يستمع الي، كما رفض تدخل الخال الذي حاول أن يثنيه عن قراره، ولم يستطع، لأنه  قد تغير تماما، بعد الزواج من امرأة أخرى..

عند عودتي للبيت، نسيت في غمرة الفرح مشكلة أنور، ولم أفكر بشيء آخر سوى وثيقة الاسم الجديد، وعندما استلمتها طرت من شدة الفرح، احتفت امي بالمناسبة بغداء، دعت اليه الدهلة وبعض الجيران، طبخت دجاجا بالمرق، واشترت خبزا ساخنا من أم حنون، جارتنا الساكنة في الخربة الملاصقة لبيتنا، وقفت امي وسط المدعوات، وأعلنت لهن عن أسمي الجديد، وأشارت نحوي، أخواتي نادينه منذ الآن باسمه الجديد نوح.

ثم التفت الي بجد وحزم، ارتسم على وجهها وظهر في صوتها العميق، الذي يتفجر قوة، تكسر حدته رقة الأمومة، طلبت مني ان اعدها اني سأكون جديراً بهذا الاسم طوال حياتك. فوعدتها واقسمت بالله على وعدي.

وبمرور الوقت، اعتدت على اسمي الجديد، الذي أخذ يحل محل القديم، في البداية كنت مرتبكاً ومشوشاً، أخلط بين الإثنين عند مناداتي به، ولكن عندما تم تدوينه في سجل المدرسة، وراح المدرس يناديني به، عند اخذ الغياب في بداية الدرس، تلاشى الاسم القديم تدريجياً، كقطرات الندى بعد شروق الشمس، وغاص في أعماق اللاوعي، ولكن الاستثناء الوحيد، الذي قاوم ذلك، كان يتمثل في جارتنا أم حنون، التي أصرت بعناد أن تناديني بإسمي القديم، عندما تبعثني لشراء ما تحتاج من السوق القريب، كانت تتودد الي لكي البي طلبها: يمه إجباري فدوه لعيونك، فدوه لطولك.

 فكنت ألبي دون اعتراض أو تقاعس، ولكني قررت يوما أن أمنعها من مناداتي بالاسم القديم، وهددتها بأني سوف لن استجيب لها اذا نادتني بأسمي القديم، ولكي اقرن تهديدي بالجدية، قلت: منذ اليوم لن يستجيب لك إجباري، لأنه مات ودفناه.

أفزعتها، نظرت ألي مندهشة، أسم الله عليك.

فبسطت لها الكلام لتفهم ، الله يخليك خاله إنسيه، ناديني نوح.. الواقف امامك نوح، لم تفهم ما قلت لها، فاعترضت، لماذا؟، لأني بدلته باسم جديد. كيف، هل الاسم مثل الثوب القديم، نبدله بجديد عندما يعتق، نعم ، صحيح، هكذا كما في العيد نبدل ملابسنا القديمة بآخرى جديدة ونظيفة.

 لم تفهم ذلك أيضاً، ولا تزال الخالة أم حنون رقماً مستعصياً في معادلة الزمن الجنوبي الذي لا يهزم بسهولة..

لا زلت أتذكر الخالة أم حنون، وما حدث منذ اكثر من عقدين ونصف، كلما نظرت الى وثيقة تبديل اسمي المؤرخة في العام 1957، وعليها إمضاء القاضي عبد الهادي إجباري، الذي صار من أعز أصدقائي رغم فارق السن الكبير بينا، مرت تلك الذكريات القديمة كشريط سينمائي أمام عيني، نزعت نظارتي الطبية، وضعتها أمامي على المكتب، سمعت طرقاً خفيفاً على باب غرفتي، قمت لأفتحه، فسمعت أمي من وراءه، تسألني:

- هل ستذهب اليوم لصلاة الجمعة؟

- سأذهب.

وعندما خرجت وجدتها قد عادت لسريرها، اغتسلتُ ثم ارتديت الدشداشة البيضاء، هدية التاجر موسى الكيال، عندما عاد من حج هذا العام، وبه أكمل الحج الثالث، لبيت الله الحرام.

 عندما حل الربيع في مدينة العمارة، انتشرت حكاية غريبة، عن حرب وشيكة الحدوث مع الجارة إيران، ورغم أني قد سمعت بها قديما من صديقي هلال، إلا أنني نسيتها تماما، مع مرور الزمن الجنوبي البطيء، والآن عادت بقوة مرة أخرى، تتناقلها الألسن دون وعي، وكأنها نبوءة داموسيه عن نهاية العالم.

 

صالح البياتي

 

في نصوص اليوم