نصوص أدبية

أجواء القصر الأزرق (2)

صحيفة المثقفكان الأمر بديهيا في مثل هذا الجّو الملوث برائحة العفن الممزوجة بنسائم المكيفات التي لم تنظف منذ آخر رحلة قام بها مريض استرجع جنسه، كان يوما مشهودا حتى أن زوجته الموبوءة بمرض الكلام، بعثت برقية تهنئة لحاكم القصر الأزرق، تلاها على مسامع حاشيته الملوثين هم كذلك برائحة النذالة، كانت تتمنى له دوام حكمه وبقاء سلطانه، وأن يكثر موالوه،  انتظرت أن يكون لها وريثا بقدوم العام الجديد، لكنه لم يأتي أبدا لأنها اكتشفت بعد أعوام أن هول المشرط قد أفزع خاصرة زوجها فخمد بركانه بعد أيام وليالي قليلة فوضع هذا الحدث الجلّل حدا لنسلهما، فطلبت الطلاق متمنية لزوجها أن يكون له من غيرها ولدا يحمل هذا الاسم القبيح الذي امتزج بقرب نهاية نسل الرجل.

 كانت المكيفات قد امتصت رائحة الموت، والعفن لطوال السنين، وبعض روائح الغبار البالي، وزجّت بها في أروقة القصر، بينما يحكم الـحّـــر الشديد على شوارع المدينة في الآونة الأخيرة، أحد الخبراء الكثيرين بالقصر الأزرق والمقربين من الحاكم، الذي لم يصنف كمرجع في الأرصاد غير أنه صُنف بأشياء أخرى قد يصفها البعض بالبغيضة، أرجع هذه الحرارة إلى تزفيت الشارع المحاذي للقصر الأزرق، زيادة إلى نماء المدينة وكثرة الأنفاس الحارة المتلهفة إلى كل شيء، فهو يقول أن التمدن والأنانية والنزعة المادية أدّت مع التزفيت إلى حرارة غير عادية ويثبت كلامه بأن منزله بالبادية غير بعيد عن القصر الأزرق بالمدينة التائهة أو كما تسمى، القرية الخــرّفة لا حّــر فيه بل مازالت نسائم الشتاء حاضرة بأروقته، فلا زالت شجرة التين التي تتوسط باحة المنزل لم تؤتي الباكورة بعد، وفي خضم كلامه المشوش بنوبات في حراكه، فهو ينزع القبعة بيد ثم يعيدها على رأسه بيده الأخرى وينزعها باليد اليمنى ويبحث عنها فوق رأسه باليد اليسرى كأحجية لا تنتهي، ثم يستسلم هنيهة ليسوي سرواله الذي يخونه من حين إلى آخر، فمطلب  السروال الأسود واضحا، يريد التحرر من خصره، فتصيح أردافه النحيلة مستنجدة بيداه ليرجعه إلى مكانه، ويشد الحزام مرة أخرى، فقد اكتملت ثقابه وهو لا يفتأ أن يحدث ثقبا آخر بمناسبة محاولة سقوط السروال، ويسب أمين المشتريات الذي أعطاه قياسا غير قياسه.

وفي لحظات صمت مكدر بتفكير الحارس الخبير في الكيفية التي يرى بها سخط الله لأمين المشتريات، وأنه من فرط دعواته المتتالية سيصبح مريضا بمرض نادر يتهلهل منه جلده  وتصبح رائحته كرائحة الجيف، وبما أن السكوت أصبح  قديما  بعض الشيء،  سمع في آخر الرواق إلى اليمين في المكتب المواجه لمكتب حاكم القصر الأزرق تنهيدات، تلتها ضحكات ملونة مجلجلة كأفعى ثم مجنحة كتنين ينفث حمما، ثم ضحكات منمقة كاذبة، يكاد يعرف من مزاج الضحكات النساء اللواتي بالمكتب، حتى أنه يمكن أن يميزهن من ألف امرأة، لكنه فضل الصمت ومازالت تلفه حرقة مصطنعة إلى اليوم وقد تآكل جلده منها إلى يومنا هذا،  حتى أنه من كثرة حكهن انتفخن أو تورمن أو ربما فلّت وزنه بعد أن تبدل حاله.

وفي لحظات تخالطت فيها الحقيقة بالخرافة، أصبح هاتفه لا ينزل عن أذنه حتى أنه أصبح مهم أكثر من حاكم القصر الأزرق، ويحسب له ألف حساب، ثم ما فتيء يغتني شيئا فشيئا حتى أصبح مرجعا في الوشاية وحياكة الأكاذيب، وتحول حاكم القصر بشيء من الخيال، فقد تناقص جسمه من عملاق إلى نصف بشر بعد أن غزاه الشيب في كفه، عندما مدّ يده للتحية وفي هذه اللحظة بالذات انتبه له رجل يبدو عليه الوقار في لباس أبيض مسطر بخطوط ضعيفة الصفار، لا يمكن تمييزها لولا حدّة نظر أحدهم وقال بصوت مرتعد أن حاكمكم ظالم وقد بدا يتهاوى ورجح  الشيب الذي في كفه إلى كثرة الأموال الحرام التي تناولها بيمينه و قال بالحرف الواحد، إن رأيتهم كف يده اليسرى فستجدونه دون شيب واسترق الحارس الحكيم البصر فرأى يده خالية من أي شيب كما قال، ولكن شعر كفه الأيسر يكسوها السواد، فتنهد الحكيم ولفظ مقولته الشهيرة، سرعان ما يصبح الشعر أشيبا دون عناء، أما الحاكم فأزال الشيب والشعر الأسود من يداه بطريقة سهلة بسيطة اعتمد فيها على مستحضر بقي منه القليل في قارورة منسية كانت تستعمله زوجته عندما تستحم كل شهر في آخر كل عادة شهرية. 

وفي خضم هذا الحدث الذي رأى فيه واشي الحاكم أن من المفروض أن يذهب لطبيب مختص في الجلد، نظر إليه آخر مبتديء في الوشاية والذي كان يرى فيه خطرا قد ينزع منه مراتبه الأولى ورغم إسكاته له لعدة مرات تكلم فنطق بالحكمة دون الموعظة فقد سقطت منه سهوا دون ان ينتبه، قال أنه من الضروري أن يذهب الحاكم إلى قصر آخر  ويجدد إيمانه بنفسه وبقدراته المتناهية، فلم يبقى في هذا القصر ما يشد غير رائحة نتنة، استلذ رأيه وغادر دون رجعة لكنه ترك جمعا من كلابه تجوب برائحتهم أروقة القصر.....

 

الاطرش بن قابل

 

في نصوص اليوم