نصوص أدبية
التعاضد الإنساني
حدثت حكايته في يوم من أيام تموز حينما كانت المدينة تختنق بالجنود والبزات العسكرية الامريكية والعراقية، كان القيظ يمتد ليشمل الليل والنهار. ننسى تبدل الفصول لفرط طول فصل الصيف. كان النهار يتثاءب على صفائح المدن التي يجللها في الليل قصدير الانتظار وتشظي الرغبات. تبدو المدينة عائمة على سطح من الفوضى واللامبالاة حتى ننسى أن بغداد كانت في يوم من الأيام زهرة الدنيا وعروسة المدن،تغتسل في حمامات العشق على أضواء دجله . دجله التي حملت من الهموم الكثير لدرجه أن مياهها لم تستطع إغراق الخطايا في موسم الفيضان.
كان الليل الثقيل يلقي بظل كثيف من عدم التميز على الدور المتراصة والأزقة الضيقة والفسيحة منها على حد سواء. انقطاع التيار الكهربائي وحرارة الجو وذرات التراب الخانقة تضفي منظرا أخرويا على المدينة المرعوبة .أنه مشهد قيامة بحق حين يوحي الغبار بانهيارات حتمية لأناس ومبان على حد سواء.
هكذا بدأت أذن وأنا أرقب المدينة التي تتنفس انكساراتها الليلية وهي تحاول أن تميط اللثام عن كل أنواع التهتك لليلة بائسة .في الليل، للمدينة وجه شبحي لم يعتد عليه أهلها وأن طال الأمد. مدينه خجولة،مكفهرة ومثقلة بالخيبة والذل .كيف يمكن للمرء أن يألف مدينة دون مواسم عشق ونساء. فقدت المدينة العريقة بريقها ولم تتزين واجهاتها بما يشي بجمال أو فتنة ما. فبدا الليل أذن كطقس جهنمي حيث فيه تنزوي جميع الطقوس إلا من زعيق العجلات العسكرية المجنونة.
لكن بدأ مشهد أخر مع أول ارتجا فات خيوط الفجر المندلع بحياء، إذ برز من زاوية الشارع الذي أسفر شيئا ما، رجل قد تجاوز الأربعين من عمره أو يكاد وقور الهيئة ورزين تثقل أجفانه هموم ليلة المنصرمة بشتى أنواع الاستلاب من الاستيقاظ الإجباري بسبب أزيز الإطلاقات المنفلتة في الهواء. كان الشارع هو الأخر قد بدأ يتنفس برئة الهمرات الأمريكية وزعيق مكابحها وصفارات الإنذار المنذرة بالشر، عبثا حاول خلع الوجه المرعوب لليلة منصرمة. طفق راكضا في الشارع فاقدا وقاره. كان يلتفت يمينا وشمالا كمن يترقب حدوث شيئا ما على غاية الأهمية، بيد أن الشارع ما زال متثائبا وهو ينفض آخر خيوط سباته القلق .كانت نافذتي المطلة على أرث المدينة المترامية فعرفت الكثير من الحوادث حتى صرت شاهدا عتيدا لمزيد من الوقائع رغم انفي.
لكن هذه المرة، كنت شاهدا اضطراريا ايضا على حدث ملغز وبسيط في عمقه. فبينما أنا قائم كذلك وإذا بفتاة سمراء لوحتها الشمس، كانت تسير بخطى متثاقلة رغم رشاقتها .أقترب الرجل اللاهث منها، أخذت أتطلع أليه باستغراب،ماذا يجول في ذهنه؟ لا أدري .صرت أتابعه بفضول. نظرت أليه بإمعان ثانية لم يأبه لأحد، بيد أنه كان منشغلا بأمر غابت عني معرفته . تقدم ليمسك بالفتاة وعانقها عناقا فاق تصوراتي كما بدا لي لأول وهلة وانأ المأخوذ بجمال المشهد وغرابته. أجهدت نظري لاتاكد ان ما يحدث أمامي حقيقة وليس من تخيلاتي .هل يمثل مشهدا في فليم؟ لم اعرف دواعيه، هل يحبها؟ هل هي عشيقته؟ لا أحد يدري.
بينما أنا على هذه الحال وكذالك المارة التي صارت في خواطر شتى أمام ما يحدث . لا أحد يستطيع أدراك سر عناق وان لم يكن خفي. حتى هذا العناق العاري أمامي صار سرا يا للنكبة ! ويا لسرية الكائن المقدس بذلك العري العصي والغامض على الفهم !
تحيرت أمام هذا المشهد العنيف في بساطته .بينما اخذ الناس يتجمعون والفتاة لم تستسلم لعناق أصم،بل حاولت الابتعاد دون إثارة ضجة لكن إصراره جعلها تضربه بعد أن فقدت قدرتها على الإفلات من يديه الواثقتين .نادت بما يشبه الصراخ المخنوق ...مجنون... مجنون. ما أن سمع الناس هذه الاستغاثة حتى احتشدوا لرؤية هذا العرض المجاني وهي تكرر مجنوووووون . فرد عليها بذعر قائلا "أني أردت ...أردت ... بينما كان اللغط يشتد من حوله،فلم يدعه يكمل كلامه .......
صاح أحدهم: "دعوه يكمل لنفهم ما عنده" ... وهي تصرخ "مجنون،مجنون . فقال أخيرا "أنا لست مجنونا، اقسم أني لست مجنونا،أني قررت ..."
قاطعته قائلة "قل ماذا قررت أيها أل ..."
كان يقطع الكلمات من الفوضى التي احاطت به وهو يشدد على الحروف " ق...ر..ر ت ...ت أن أأأعععععان أأأأووول قا ....."فقالت دون ان تدعه يكمل،والكل يصغي بانبهار وسخريه "وما شأني بقراراتك،آلا تخجل؟ "
فقال بعد أن استرد رباطة جأشه "...ولم الخجل وقصدي نبيل وغايتي شريفة "
أنفجر الجمع ضاحكا وأسمعه كلمات شتى،كل يعبر على شاكلته .في هذه الأثناء استطاعت الفتاة الإفلات منه،فازداد الجمع حنقا عليه. ربما لم يعتد الناس على امنية تتلبسها الفكاهة وحسن النية . فكم بدا غريبا ومذهلا هذا الفعل الخلاق في بساطته. رمقه ذلك القصاب حسدا على جرأته وقراره فقال "-ها،،،ها ووجهه يغلي بدم قان حقن وجنتيه المنتفختين من تناول اللحوم "قررت ...، هل العالم مرتبط بقراراتك وهل أنت مستر بوش "!وأخذ يقهقه ملء شدقيه .
والرجل منهمك بإنجاز مهمته الغريبة،شدوه بقوة بعيدا عن الفتاة من طرف قميصه حتى تقطعت أزراره
فقال أحدهم –"اقتلوا هذا المعتوه "
فصاح الجمع على إثره "إيه والله،اقتلوه "
انهالوا عليه ضربا كما لو انه يمثل للمؤمنين الأتقياء صورة الشيطان الذي يختبئ تحت برقع الفضيلة البالي ذلك البرقع الذي لا يصمد أمام الامنيات المحرمة ...
شعرت بالعجز وأنا انظر لما يحدث كنت احسده على دعابته وعلى امنيته، وقلت في نفسي عظيمة هي أحلام الرجال بيد أنه لا يمكن إدراكها مهما كانت بسيطة. لهذا يظل الحلم منطو على جزء كبير من السرية والغرابة مهما بدا للعيان .كم تمنيت أن امتلك تصميمه ! ثم ماذا يمكن لي أن أقول؟
أنا لست سياسيا ولا عضوا في البرلمان ولا حتى رجل دين كي أكون مؤثرا في الجمع،مع ذلك حاولت أن أدلوا بدلوي وأنا على يقين بان لا أحد يصغي لصوت العقل في مدينة تتخبط بدماء عذريتها مئات المرات،إنها تفقد عقلها يوميا،مرة أفترعها المغول ومرة السفاحون و ...و....لهذا يموت البشر كالخراف.
. هل اكتفي بكوني شاهدا رديئا على فصول مسرحية لم يكتمل حوارها !هل أتدخل؟ استولت علي الحيرة. من أنا كي أتحسب للإخفاق ؟ ثم كم هي المشاريع التي أخفقت فيها؟وأنا على هذه الحال انبرى احد الحاضرون، وهو بقال على ما يبدو
فقال "وماذا تريد أيها .ال...وأنت تبوس » ألبنيه « بينما قام شاب أخر وهو يركل ويضرب بكل ما أوتي من قوة لتحقيق العدالة المهدورة مع عناق مازال لا أحد يعرف طبيعته .كان الرجل قد فقد وعيه .حاول البعض ايقاظه آلا انه غط في غيبوبة طويلة على اثر الركلات التي تسببت في انبجاس شلال الدم من انفه وفمه.
ازدادت حيرتي وأنا الذي يجره الفضول لمعرفة ما يحدث قبالتي .
قال أحدهم" ألقوه إلى القمامة " وقال أخر دعوه على مكانته يرفس ليتعفن ويموت ككلب...و...و..." تدخلت في تلك اللحظة وأنا نهبا لأفكار شتى وقد دفعني حبي لمعرفة الحقيقة دون ان ابالي بان القى ما تحمله الرجل .لعله يحمل سرا فقلت " لنحمله إلى المستشفى "
ما أن سمع الناس بهذه الكلمات حتى تفرقوا عن بكرة أبيهم وتفردت أنا بهذا المتضمخ بعناقه الأليم ونقلته إلى المستشفى. رجعت إلى غرفتي ورأسي تمتلئ بهذا العناق،كم وددت لو انقضى الوقت بسرعة لأراه .ذهبت أليه ما أن راني حتى هب لاستقبالي مبتسما .حاولت أن اسأله في استحياء من أمري قائلا
– ما الذي دفعك لعناق تلك الفتاة،هل لك بها علاقة سابقة؟
أطرق بحياء " وهو يتلعثم كمن يهمس بسر لا يريد لأحد سماعه، فأدركت بان الحكاية تنطوي على سر وان بدأت غريبة. ولان الرجل لا يريد البوح بها.
"منذ أمد وأنا تحدوني، بعد أن رأيت القتل في الشوارع، رغبة عميقة وملحة أيضا في العناق .قد يبدو غريب أن تنتاب المرء مثل هذه الرغبات الخرقاء .أنها شيء أسمي بكثير من مجرد رغبة،لأن للرغبة منحى شخصي .أما لهفتي إذا شئت أن اسميها فهي شيء أخر .تقرران تعانق أول من يلاقيك في الشارع شريطة الأ يكون من المعارف ولا أقصد أني على استعداد لمعانقة مجند أو مجندة أمريكية حتى وان كانت زليخة يوسف في الحسن .ليس رغبة اكتشاف الجمال هي حافزي لأمر كهذا .بل قد أعانق أحد أفراد الشرطة أو الحرس الوطني حتى أن كان في بزته العسكرية ومدججا بالسلاح . قد أبدو غريبا أيضا فلماذا هذا الضحك المسموع،أنها ليست فكرة عابثة " –أليس كذلك،قال وهو يلتفت ناحيتي.
- أولئك الذين يقتلون بسيارات ملغمة أو بأحزمة ناسفة وبدوافع شتى، نعم فمن أين تتأتى هذه القابلية على القتل؟ لو لم يصور لمن يقوم بمثل هذه الأعمال بأنهم أعداء بحكم الدين أو الانتماء الحزبي و....و....يا أخي أن تفقد الأمل وتتوقع أن تموت شر ميتة،لهذا أنا لست على دين أحد..
- كيف؟
- لا كرامة في دين لا يبني الإنسان
- أذن أنت تلقي بالدين في سلة المهملات؟
- كلا،أنا لا القي بالدين في سلة المهملات،بل بالمتدينين،لان المطلق منزه والاتباع هم ال....
- أذن انك تستحق ما جرى لك
- نعم،قالها بهدوء وهو يلتفت ألي ثانية
راقني هذا الرجل بمقصده الجميل وانا افكر مليا بالقتلى من المضرجين بدماءهم والامهات والزوجات اللواتي سيذوين من الكمد .
قصة قصيرة
د. ستار جبار راضي العبادي