نصوص أدبية

مـوكـب صـامـت

"زياد الرافعي" قد انتحر. ارتدت ثوبا داكنا وغطت رأسها بشال، وأسرعت في اتجاه منزله.

 

 لقد زارت ذلك المنزل الغريب من قبل حين دعتها زوجته بعدما علمت أنها تعد رسالة بحث معمق حول أدبه وحول التحول الفني الذي شهدته كتاباته. ما أثار زوجته حين دعتها أن إحساسا غامضا انتابها جعلها تشعر بأن حياتهما تمر بمنعرج لا يمكن تجاهلة، وبات من الأجدى البحث عن خفايا الأمر الذي شبهته بالأزمة. فأي دافع جعل زوجها ينتقي شخصيات قصصه من السفاحين، ويشبه الإنسان بمومياء لا حياة فيها إلا بقايا الروح الخافتة؟ أين اختفت هذه الروح؟.

 

راودتها الرغبة في اقتحام عالمه. وحل أقفال كتاباته بحل رموز الأحداث الحاضرة بين طياتها أين أغلق مفاتيح حقيقته الغامضة بمفاتيح الريبة من المجهول. أخبرتها أنها كانت تتابع ما يكتب عن أعمال زوجها بشغف دون أن يلحظ عليها أي اهتمام، اهتمام يصل إلى درجة الهوس الذي يختفي وراء ذلك الهدوء المصطنع. ما أثارها أن كل ما كتب عنه وصف تحوله، فكتاباته أضحت مختلفة تشوه من حولها وما حولها، تحدث غرابة في تصوير الأمكنة وتمحو المشاهد المألوفة، لكن "هالة " طمأنتها: " ن زوجك ينحو منحى غرائبيا مسموحا به فنيا. إنه يشوه الواقع ليكون أكثر حرية فحسب". لم تبد مقتنعة يومها وهي تعيد تلاوة جملة يبدو أنها ظلت عالقة في ذاكرتها: "لقد زال الحلم على وجه الأرض وانبرى الموت كملامح الأيام العصيبة".

 

حدثتها عن حياتهما الخاصة: هو أستاذ جامعي وروائي وهي أستاذة جامعية تدرس الكيمياء وتجري التجارب المتواصلة. تعاهدا منذ زواجهما على الانفصال، على اكتساح كلاهما لعالمه الخاص الأشبه بعالم سحري حميمي. حياتهما رتيبة إذ لم ينجبا أطفالا على زواجهما الذي امتد عقدا من الزمن. لم يعبأ أحدهما بالإنجاب بل لم يثيرا الموضوع أصلا، وتجنبا الخوض في غماره وكأن الحياة لديهما تتواصل بالخلق الفني والبحث العلمي. لكلاهما خلوة. تتركب خلوته من غرفة منزوية تطل على الحديقة الخلفية، أما مخبرها فغرفة تفتح على الحديقة الأمامية.

 

لقد بدت عليها يومها علامات الضيق وهي تفتح بـاب غرفتـه التي يخلو إليـها. مـا شــد

"هالة" إذ ذاك تلك اللوحة المعلقة على أحد جدرانها، لقد عكست ألوانها الداكنة احتضار الحياة في وجه شاحب. الغرفة المبلطة بالاسمنت الأبيض بدت غريبة عن منزله الفاخر،  يبدو أنه يحرص على عدم نظافتها أيضا، فالهواء خانق والسخام كثيف.

 

  لمحت "هالة" بساطا  مبقعا ببقعة  داكنة بادية للعين المجردة، قبالته بنك خشبي قديم الطراز. ركزت نظرها نحو "الطاولة الصغيرة التي تفحمت فوقها بعض الأوراق فأحدثت بقعة سوداء كبيرة على الإطار البلوري". أردفت زوجته " لحسن الحظ أنها لم تتحول إلى رماد "، وحين سألتها "هالة" عن فحوى كلامها لم تعلق بكلمة واحدة. وكانت وجهتها التالية المخبر. أحضرت "ضوءا صناعيا وقطعة من المعدن الدقيق وقطعة من الورق البني السميك ومحلولا" لم تعرف "هالة" ما هو بالضبط.

 

*****

 

المقام عزاء. الشيخ الورع ما انفك يرتل القرآن بصوت خاشع. والرجل المسجى ينام نومته الأخيرة. المعزون صامتون، يرمقون الميت بحسرة، يتفحصون جثته كأنهم أضاعوا صورته أثناء الكابوس. الحداد صمت أبلغ من العويل: لا بكاء، لا صراخ، لا نواح... في حين التحفت الشوارع والأعمدة والجوامع والحسينيات بالسواد في العراق، ونكست الأعلام. لقد نقلت شاشة التلفزة صورا لرجال يلطمون، وشبان قمصانهم ممزقة يضربون ظهورهم وأجسادهم بسلاسل من الحديد. تساءلت: "كيف ظلت مواكب المشائين تشيع الحسين كل عاشوراء دون جثة توضع في صندوق وكأنها تشيع ميتا غريبا لا تراه العيون؟ ولم يبكي الشيوخ والرجال والنساء والأطفال الحسين الذي قتل منذ قرون في كربلاء؟ في حين تشح الدموع في هذا المأتم الصامت، وكأن الرجل المسجى على مقامه الفكري الرفيع غير محفور في القلب! المعزون يرتدون بدلات أنيقة لا آثار لثقوب عليها ولا أحد مزقها تحت تأثير الفاجعة.

 

قالت زوجته بحرقة تتوارى وراء ذلك البرود المتلبس بالوقار العلمي: "لقد أوصى بعدم اللطم حين يموت، وحذر من أي دمعة تودعه، ذلك ما كتبه في ورقة الانتحار".

 

هل صحيح ما تقوله هذه المرأة؟ تبدو السماء قاتمة من الواجهات البلورية للنوافذ لكن الأمطار لا تعرف الشجن !

 

بدا على وجهها الذبول والانمكماش وهي ترمق المعزين بنظرة تائهة، شدتها حالة الكآبة التي بدت عليها  وقد انسدل شعرها بفوضى. لقد داهم الكابوس حياتها وازداد ضراوة. تدرك "هالة" مدى إصابتها ببعض الوساوس، ولكنها كانت أشد تماسكا وأكثر نضارة.

 

واصلت: "الغريب في الأمر أنه قضى ليلة الحادث في خلوته، وحين نهضت صباحا لم أجده، بل لم أتفطن إلى خروجه أصلا، حسبت أنه غادر من الباب الخلفي ذلك أن سيارته لم تكن في المستودع. وحين عدت مساء من العمل ولم أجده حاولت الاتصال به على هاتفه الجوال فوجدته مغلقا، أعلمني صديقه في الكلية بأنه غاب عن حصص التدريس لأكتشف أنه انتحر في غرفته القذرة : "في حلقه جرح غائر وعلى صدره سكين حاد، ولا آثار على سواعده أو يداه، ولا آثار لجروح أو إصابات أو كدمات". لقد سيطر على أعصابه وهويختار الانتحار بمثل هذه الصورة الشنيعة !

 

تساءلت "هالة" : ـ هل تصدقين بأن الانتحار يتم على هذه الشاكلة؟

ـ لكنني عثرت على رسالة انتحار سلمتها للشرطة  !

ـ ولم لا تكون الورقة صفحة من رواية، ألم ينشغل الضحية بمواضيع القتل والانتحار في كتاباته الأخيرة؟

   *****

 

اندفعت الحشود الهائلة والجموع الصامتة تشيع الميت إلى مثواه الأخير. اندفعت الزوجة معهم. لم يقو أحد على نهرها. لم يقل أحدهم: "لا يجوز أن تشيع امرأة جنازة ". رافقتها "هالة" التي  باتت لا تستمع إلا إلى وقع أقدام مشيعي الجنازة... لا توابين، لا نواحين، ولا أحد ينادي باسم الميت.

 

 في الطريق إلى الجامع حدثتها الزوجة عن تلك الواقعة في ذلك اليوم الذي دخلتا فيه لخلوة المرحوم: "لقد رفعت الأوراق المتفحمة إلى المعدن مستعملة الورق البني بحرص شديد، ثم مررته إلى المخبر، وغمرت الأوراق المتفحمة بمحلول "هيدرات الكلورال" بنسبة 25 بالمائة وغمرتها بنسبة من "الجليسيرين"، تركتها جانبا في انتظار ما سيؤول إليه فحص البقعة الملطخة على البساط الجلدي، وإثر التحاليل عرفت أنها قطرة دم من نفس فصيلة دم زوجها وقد كان في الأوراق المتفحمة اعترافه بضجره ورغبته في الرحيل".

 

... الطبيب الشرعي لم يعبأ بهذه الأدلة: فشبهة القتل تكمن في عدم إصابة الضحية في خلوته، " فقد وقع تحريك الجثة كثيرا مما أدى إلى تخثر الدم في الجزء العلوي من جسمه ، كما أن حجم كمية الدم الكبيرة التي تلوث الغرفة والاتجاه الذي سال منه غير شكله الطبيعي، وأن تجلطه يدل على أنه غير دم الضحية". لكن من الفاعل؟ ما زال البحث متواصلا...

 

 "هالة" وحدها كانت تدرك بأن أستاذها مهدد، ربما من طرف جماعة... تمقت حرية التعبير الفني. كثيرا ما حذرها من هؤلاء الذين يهاتفونه ، ودعاها إلى الحيطة وهي تعد دراستها حول "تدنيس المقدس في أدبه". شهادتها قد تغير مجرى التحقيق وتفتح أبواب الحقيقة... وقد تشرع أبواب الجحيم على مصراعيها.

*****

 

لم تعد "هالة" عابئة بمواصلة البحث الأدبي بل صارت تتلمس بقايا روح قد تؤخذ منها. طوت الكتب الأدبية وطفقت تتأمل تموجات الروح بين طيات الجسد المتقد بالحركة. كتب الأدب ما عادت تقنعها. فتحت كتابا علميا. تصفحت صورة الجسد.. كان متجزءا تبرز منه الشرايين والأوردة، وتنتفخ فيه العضلات وتتراءى الأعضاء الداخلية كقطع معطبة، ولا حركة تدل على عودة الحياة إليها. إنها تشعر بالغثيان كلما تمثل لها الجسد على تلك الصورة. وتتقيؤ القبح المنبعث من داخلها كلما اكتست نفسها بالازدراء وتصرخ: "ما هكذا تواجهنا صورة الجسد".

 

تحرك أطرافها. تدير رأسها، يتمرد جسدها على الإجهاد، تنهض، تدفع إحساسها نحو حركاتها المتناسقة وتدور كفراشة تهوى اللهب. تطوق يديها بحركات دائرية، ثم تفتحهما فتنحل الدائرة، وتتشكل من جديد.. تتفتح الأيام وتنغلق. تواصل الأرض دورتها مستنهضة الجسد المتوثب و"هالة" قابعة في منزلها خائفة من مكروه قد يحل بجسدها.

 

خمنت أنه من الضروري القيام ببعض التمارين الروحية الصعبة، فقد عادت إلى كتب علم النفس العميق "لاوسبنسكي"، تمرنت من خلالها على تمارين اليوغا. أضحت حاجتها إلى قوة خارقة أمرا ملحا. فهناك عمل كبير ينتظرها. ذلك ما ردده" اوسبنسكي": " لا يمكن أن نقوم بعمل كبير ما دمنا مستسلمين لكل شيء عادي ومريح "، فما كان منها إلا الرغبة في القيام بجهد ما عوض استسلامها لحاجة جسدها المتعب.

 

فتحت شباك الغرفة. لمحت بعض الأشجار المتعانقة وقد انتشر عليها ماء المطر فأضحت أكثر نصاعة وخضرة. تناولت كأس الماء  وطفقت تنظر إلى الشجرة بتركيز. فثبتت عيناها في نفس الاتجاه. أبصرت بعض النقاط المختلفة تشكل صورة منقطة. بدت كمسامير دقت على لوح خشبي. توقف خيط تفكيرها وهي تربط هذه النقاط. النقاط تحولت إلى دوائر صغيرة، عمقتها قطرات المطر العالقة على الأوراق . توهجت لماعة فانبسطت أسارير وجهها وقد راودها جمال المشهد. انفتح فمها تدريجيا، وانبعثت منه أصوات هامسة. بدا لها أنها تتكلم لغة جديدة تستمد حروفها من تلك النقاط التي شدتها بقوة مغناطيسية. لم تع تقلص عضلاتها وتجمد الدم في عروقها وثبات وقفتها. ولم تعد تنتبه إلى ما يدور حولها. دق الباب دقات متتالية. ودخلت أختها، نادتها : ـ هالة...هالة، لكنها لم تعد تبالي بأي صوت بل صارت مشدودة إلى الشجرة. اقتربت منها وربتت على كتفها محاولة ايقاظها من حالة الذهول وإخراجها من دائرة الاستغراق.. فشهقت وسقط الكأس..

 

طلبت من أختها أن تتركها بمفردها، واتجهت نحو باب الغرفة تغلقه. ثبتت يدها على المفتاح لتشعر أنها محاطة بأسوار آمنة وبباب مغلق. ضغطت على رقبتها بكلتا يديها لتواصل تمريناتها. تمددت، أرخت عضلاتها وركزت انتباهها على حاسة الشم. تناهت إليها روائح الخشب القديم، وانبعثت في أرجاء الغرفة. حولت انتباهها نحو أذنها فتناهى إليها صوت الريح آت من بعيد وحفيف أقدام قريب من نافذتها. الرجل اليمنى صارت ثقيلة أما اليسرى فقد توهجت بالحرارة. تكورت اليد اليمنى كأنها تمسك كرة حديدية ثقيلة تمدها إلى الاخرى. في تلك اللحظة كانت تقاوم ارتخاء جسدها حين استمعت إلى نقرات المطر تطرق نفسها بإلحاح تطهر هواجسها وتؤكد لها أنها خارج ذاتها.

 

 الطقس في الخارج ينبئ بحالات متقلبة وحفيف الأقدام يزداد اقترابا. اندفعت زخات المطر صاخبة ترتطم بالجدران وتقتحم غرفتها كأمواج البحر العنيف. وانكشفت صورة الرجل الذي يقترب من نافذتها. بيديه قفازات، وعلى وجهه قناع. تراءت السماء مظلمة. واليد المقنعة تمتد إلى الجيب وتخرج سكينا مما جعل "هالة" تتوجس الأذى فقد جثم الخوف على أنفاسها وكاد يشل حركتها واندفعت إلى ذهنها تخمينات مزعجة كادت تفقدها توازنها...

 

اخترقت الحي الهادئ صرخة داوية، وتخبطت "هالة" في بركة من الدماء، ولم تفق إلا في المستشفى. ألفت نفسها في غرفة صغيرة، وقد لف وجهها وجسدها بضمادات، ورفعت رجلها اليمنى إلى الأعلى. حاولت "هالة" التحرك ولكنها لم تستطع. دخلت الممرضة في تلك اللحظة ونظرت إليها بمواساة، وحذرتها من محاولة النهوض بنبرات خالية من العطف. جالت بنظراتها في سقف الغرفة وقالت بصوت مرتعش:

 ـ أريد رؤية أفراد عائلتي.

ـ حين تتحسنين سنسمح بزيارتهم...

 

في تلك اللحظة عادت إليها صورة جسدها وهويطعن، و ينزف، ويفقد الوعي.. لم تكن تتمنى وقتها أن يكون موكب عزاءها صامتا. فمأساة الفكر الحر اكتست أبعادا تراجيدية لا تقل عنفا عن واقعة موت الحسين والتمثيل به. 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1280 الخميس 07/01/2010)

 

 

 

في نصوص اليوم