نصوص أدبية

خسوف

وكنت قد طلبت منه أن يروي لي قصصاً عن أيام زمان حيث أن حديثه عذب وأسطوري بشكل محبب. وكنت أقصده كلما أردت أن أسمع شيئاً جديداً غير حكايات الشاطر حسن والخيبات العربية المتلاحقة.

وترائت أمام العجوز أيام عمره صاخبةً وملتهبةً، وتجولت في محيط ذاكرته التي بدت قوية وغير متجزأة والتي حملته بدورها إلى أيام شبابه حيث ماضيه القاسي بتفاصيله المشرّفة وأيامه التي لا تنسى بين البطولة والشقاء. امتدت أنامله المرتجفة نحو صندوق التبغ، تناول منه كمية بعناية ثم وضع ورق السجائر بين أصابعه بطريقة محترفة وأخذ يلفّ سيجارته. أشعلها وكأنها الأخيرة في هذا الكون، جاعلا الدخان يتصاعد منها مالئاً المكان بجو قديم. جال بنظره إلى محيط بيته ثم مدّ بصره بعيداً حيث تلال زرقاء وحقول بعيدة، ودون أن ينظر إليّ، بدأ يتحدث:

كنت في مقتبل العمر حينها وكنّا نملك حقلاً نزرعه بالسمسم والقمح، وكانت البلاد نظيفة والنساء جميلات والأطفال فخورين بالشمس التي بدت وكأنها لنا فقط، وكان النهر على مقربة منا هناك وراء الحقل كانت أمي تجهز الخبز كل يوم لنا وللضيوف، إذ كان أبي مضيافاً لدرجة غريبة حيث كان وجود الضيوف شيئاً يومياً في منزلنا. وكان عندي مهرٌ أبيض أطعمه السكر فيصهل، ويملأ المكان بصوت حاد وجميل. كنا نحب القمر وكان مؤنسنا ومضيىء الحقول التي كنا نحصدها حتى في الليل مغنين أغانينا المفضلة بفرح ونشاط.

ذات يوم أصبح القمر هزيلاً، وعرف أبي ورجال القرية أن الحوت يحاول أكله  كما يفعل دائماً، حيث أن حوتاً كبيراً يختبىء في الكون ويتحين الفرصة كي يأكل قمرنا كل بضعة سنوات، وحينها  تجمع الرجال في الساحة عند بيت المختار وجهزوا بنادقهم بغضب وتأهب، فالحوت هذه المرة لن ينجو بفعلته، لن يأكل قمرنا الذي نحتاج له. النساء أيضا تجمعن في الفناء الخلفي لبيت المختار وأخذن يندبن مرددات بصوت عال:

 

يا حوتة يا منحوتة القمر كلاه الحوتة

يا حوتة يا منحوتة القمر كلاه الحوتة

 

وكان الرجال يسمعونهن بحنقٍ واضحٍ ورغبةٍ جامحةٍ في أن يثبتوا لهن أن القمر سينجو من فم الحوت كالعادة، فهم كثيرون وبنادقهم جاهزة، وسيجبرونه على الهرب دون أن يحظى بما يريد.

أخذ الرجال ينتظرون قدوم الحوت البغيض، وحين بدأ يقترب أطلقوا عليه النار  وأخذوا ينهرونه بصوت يختلط فيه الرصاص:

يا حوت اترك القمر

يا حوت اترك القمر

وظلوا يطلقون النار لساعات، إلى أن هرب مبتعداً، فالقمر قمرهم، وهم فقط من يدافع عنه.

 

ابراهيم العامري

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1282 السبت 09/01/2010)

 

 

في نصوص اليوم