نصوص أدبية

خلف اسراب الفراش

 الملكي يوم الخميس ....فتحت شباكي الأخضر فتراءى لي سرب فراشات مضيئة يرمح نحو قباب ذهبية بعيدة ....

 

وقبل أن امتطي صهوة حلمي نحو أمل حضوري،تذكرت أن الوقت يكبلني فلا املك أن احلم بينما واجبات الدار تناديني لجلي الصحون وتنفيض المراتب وكنس الأرضية ووو....

 

وبينما أنا أتوه في خطط فصل الحمص عن العدس الذي خلطه القدر لي.... وجدت قلبي رغما

 

عني يحلم بمدينة النور وبقصرها المتلألئ بقاعاته ورياشه، حل المساء ذاك اليوم سريعا ولم تزل التفاصيل الصغيرة تغرقني في غمارها حتى لا أجد فكاكا ً،المنافض تنتظر بملالة متهامسة لبعضها عن بطئ عملي، الأواني والقدور تلتزم طابورها الطويل منتظرة بصماتي، زجاج النوافذ يتطلع لأغاني الوهج التي تسكبها راحتاي على أديمه بشغف ...الكل يتطلع لهندام اجمل تحيكه راحتاي ولا احد ...يمنحني هبة اكتفاء من رمق روحي،فقط هي فئران قبوي الصديقة كانت تتسمع بتنصت لذبذبات روحي مجارية برقصاتها ترانيم قلبي الحالم ...

 

حلت العتمة على الأكوان،انتهى اليوم ولم ينتهي عملي وبفتور طاقتي افترشت حشية الرمل أمام موقدي التماسا ًللدفء والراحة،كانت السنة اللهب فيه تعرض لي آخر رقصاتها المترافقة وتكتكة الخشب المتدفق ضيّا ً وحنوا ً،بدأ النوم يزحف لحدود عالمي بجيوشه الجرارة التي تديم احتلال اراضيَّ دون مقاومة من شعبي،وجدتني القي مريلة مطبخي و الملم أطراف ثوبي لأخوض في زرقة بحر الكرى ألمس موج النعاس بأقدام متهيبة تتوق للإبحار والانغمار في لجته المتوهجة عند الأفق البنفسجي البعيد...هي ثواني قليلة وصلت فيها لعرض البحر وعند آخر زعقه لنورس تائه ابتعد كثيرا في عرض البحر ....أفقت مرتعبة حينما انتفضت دفتي الباب الخشبي الشائخ الأوصال زاعقة بألم،وإذا بعرابتي الجنية الطيبة تنتصب أمامي بعصاها السحرية وابتسامتها الأخاذة آمرة إياي أن أفيق سريعا لأكون هناك في القصر الكبير عند مهرجان النور ...

 

وبين تمتمتي المتيقنة باستحالة حلمي وقبل أن أعي قوة تصميمها على تحقيق أكثر أحلامي روعة واستحالة ....كانت تشدني بيد حديدية نحو الحديقة الغارقة في موج العتمة،وبعصاها السحرية لمست يقطينة هناك في ركن قصي فتحولت الأخيرة لعربة ذهبية متلألئة،واستطالت أربع سحالي كانت تراقب المشهد مذعورة لأربع حراس بملابس أنيقة،أما جرذ القبو البدين فتحول بنقطة من حقّها لحوذي بشوش بشاربين لطيفين...

 

وأنا أطرف برموشي غير مصدقة أن القدر الغاشم الذي أدام خلط الحمص والعدس بالفاصوليا لي هازّا ً سبابته بوجهي منذرا إياي بجزيل عقابه إن لم افلح في تنقية الأصناف ضمن زمن حدده مسبقا ....قد نام اليوم بلمسة من عصا عرابتي تاركا لي مسرات حضور مهرجان النور ...

 

تطوع أصدقائي (فئران القبو وعصافير الحقل ) متراكضين بكل الاتجاهات للقيام بمهام الدار عني ...و عرابتي الغالية لوحت بعصاها للفضاء فتناثرت نجوم حولي لأجدني مرتدية رداءا سحريا ًبلون زهر المرجان وبينما هي تدفعني للعربة المتلألئة وتتحفني بنصائحها سورت جيدي بقلادة من نجوم ورن صوتها ألجرسي الالِقُ حول مركبتي المحلقة نحو القصر البعيد أن :

 

ـ لا... تتأخري يا بان ففي الساعة الثانية ظهرا ً ستعود العربة الذهبية محض يقطينه وستسقط أرديتك السحرية تاركة لك رداء المطبخ المترب ....فلا تنسي .... !

 

فُتحت أبواب القصر الذهبي على مصراعيهما وتوالى دخول النجوم لقاعة الحفل،كان المنادي ينبئ بصوته الحاد الواضح الحضور بأسماء الداخلين ...

ـ الدوق فلان،السيد فلان،الكونت ...،السيدة... والأميرة ....،....

وحينما دخلت أنا اكتفى بابتسامة ترحيب وجدتها أجمل من كل الألقاب...

 

وأنا اخطر في ذلك العالم المسحور الممتلئ نورا رأيت كل النجوم هناك،أنا اعرفهم كلهم،تلك هي نجمتي اللامعة التي أحب قصائدها هي تقود خطاي دوما لأنظر من شباكها فأرى القطة تلعق وجه القمر وذاك هو نجم أحفظ حديثه العذب واضحك بسري متخيلة حوض أسماكه الملونة الصغيرة ذاك النجم أخي تطل من جاكيتته أرنبة صغيرة هاتان النجمتان أختاي أحداهما ترسم وروداً والأخرى تركب جبالا ذاك النجم يصلي لي والآخر يبارك خطوي وهذا النجم يدور مختالا بفخر وخيلاء بينما الآخر يطرق مبتسما بتواضع،نجوم اقتربت سلمت علي ّ فألجمني بريقها، أنا اعرف كل هذي النجوم اعرف كل هذا الالق،أدور بينهم بسعادة كأنني البس طاقية الإخفاء،أعجبني كثيرا أن العب لعبة أن أكون ولا أكون أن يراني الجميع ولا يبصرني احد،بينما أنا أرى وأبصر الجميع وأتوهج بسعادتي ...

 

نامت الأضواء بين الكراسي واشتعل المسرح بالنور وهو يتلقى صعود النجوم المتوالي إليه،سلال الورد في أيادي الحوريات قرب درج الصعود كانت تسرقني وكلما قطف احد النجوم وردة رشقها في خارطة العراق الشامخة الناصعة المنتظرة نتاج يد نجومها على أديمها،وجدت روحي تتملص من جلستي لتنتقي أربعة ورود بدل واحدة تغرس الأولى في أقصى الشمال والثانية في أقصى الجنوب وواحدة أقصى الشرق وأخرى أقصى الغرب ...لآخر إنسان يعيش في أطراف الحدود...

 

 وأنا ما زلت أسبح في موج حلمي متلقية رذاذه الوردي، دوى صوت من المنصة باسمي أفقت على منظر عرابتي الطيبة كأنها الشمس تقف على المسرح أمامي تسلم لملك النور جائزتي مشيرة لي بالصعود للقمة ...وكأنني امشي في نومي ارتقيت السلم ورشقت وردة يتيمة في خاصرة العراق جاد بها خجلي ورهبتي من سطوة الأضواء، وتردد لسمعي صوت عرابتي تهمس بفخر لملك النور ...

ـ هي ذي با نتي....!

بابتسامة كبيرة من جلالته تسلمت هويتي الجديدة الأضواء كانت تنيمني في لجتها المبهرة مهدهدة إياي وصوت عم حبيب يتقن أغاني فيروز وزرع النارنج يهمسني وهو يلتقط صورة للذكرى

ـ مبروك تستحقين ...!

أفقت حينما أومض فلاش العم على الساعة الكبيرة للقاعة تدق دقتين، فذعرت باستفاقة ذاكرتي الناسية،نظرت من شباك قريب فألفيت العربة الذهبية عادت يقطينة تقبع بحزوزها الطولية قرب الأسوار،وقت الرحيل أزف ...لم يكن الوقت يسمح أن أعود بنفس الطريق الطويل لكرسيي أمام كل الأضواء والكاميرات تلك،أحسست بسحالي الحديقة تتراكض حولي ولمحت من شباك قريب ذلك الحوذي يتلمس شاربيه بدهشة،خفت أن تسقط أرديتي لأعود برية دون تشذيب المدينة المحبب للجميع همست لعرابتي وسمع همسي الملك مستغربا ً: ـ

ـ من أين اذهب؟ كيف اخرج من هنا...؟

ومرّ بين لحظة الدهشة المتلألئة تلك سرب فراشات مضيئة كأن وميض أجنحتها يبرق بشارات سحرية توجهني لوجهة معينة فتسارعت خطواتي مقتفية طيرانها المبعثر نحو ستائر قريبة لما وراء الكواليس،درت مقتفية أثرها طويلا في ممرات ودهاليز كثيرة حتى انفتحت كوة السماء فجأة فاحتضنت الأفق بأجنحتها الصغيرة العاكسة للوهج،ووجدتني أقف بمواجهة شارع خلفي للبناء الفخم، على رصيف أمامي كان جرذ بدين بشاربين كثيفين يرمقني ويبتسم ....

 

وأنا أخطو راحلة عن حدائق القصر المتلألئ تلمست جيدي فافتقدت قلادتي الماسية،وهتف فيّ هاتف أن أعود لأبحث عنها لكنني تلمست مريلتي المتربة وتذكرت التماع نجوم النور وسطوة الأضواء هناك فعدت لعالم الواقع واكتفيت ببريق حطّ في قلبي دون جيدي،وبفرحة طفقت أعدو في شوارع المدينة عائدة من حيث أتيت....

 

قبل أن أصل لمنزلي الصغيرفي أطراف المدينة ....فوجئت برشقه ماء بارد من يد زمني الغاضب وهو يصرخ بي لأستيقظ من نومتي فصباح جديد يفتتح سمائنا الزرقاء،وإذا بي ما أزال افترش حشية الرمل أمام موقدي المطفئة جمراته بينما فئران قبوي تتقافز من حولي سعيدة بطول تبسمي في غفوتي ...

 

كان صباح اليوم التالي ممتلئا ً بسعاداتي التي جنيتها في أمسي عاد النور يسكب أمواجه في راحتي ّوطيور الحقل تجاري غنائي،كنت أتابع تشذيب أوراق أشجاري واطعام سناجب حديقتي الصغيرة،بينما المح قباب القصر البعيد المتوهجة بنورها تأتلق في خافقي، أتحسس ثوبي المنزلي فأحسني ارتدي غلالة الحفل ما أزال ....بت اردد حديث نجومي لأواني مطبخي واغني اغانيّ السعيدة لجمهورمن أشجار حديقتي،أدور أراقص مكنستي الرشيقة بينما يصفر لي إبريق الشاي فرحا لسعادتي ....وكلما تلمست جيدي أكاد أبصر قلادتي الماسية تبرق نورا على ارض الدهليز المتشعب هناك ....خلف ستائر القاعة الكبيرة...حين رفرفت بفرحتي ..... مقتفية اثر سرب فراشات مضيئة ....حلقت في سماء قصر سحري ...ذات صباح.... من هذا الزمن ....!

 

بان ضياء حبيب الخيالي

[email protected]

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1282 السبت 09/01/2010)

 

 

  

في نصوص اليوم