نصوص أدبية

نبوغ الحُبّ

فمِن ( غوته ) إلى ( نيتشه ) فـ ( هاينه )

إلى ( هيلدا )(1) وما حُسِمَ الطوافُ !

وأستدعي ابنَ رشدٍ فالمعرّي

فـ ( رابعةً )(2) وفي العَدِّ اعتسافُ

أحيِّي الخالدين بكلِّ برقٍ

كأنّا تُرْبَةٌ وهُمُ انجرافُ

---

 

مضى العيد ...

الإنسان عندنا سحبَ من العيد تدريجياً مدلولاته الدينية وبات يرقبه ويحتفل به – إذا احتفل - كمناسبة اجتماعية وعائلية ولو تنفع الأمنية لتمنيتُ أن ينطوي العيد مستقبلاً على معانٍ وطنية فيصبح عيداً ينتظره ويحتفل بهِ العراقي غير المسلم والعربي غير المسلم مثلما يشارك الكثير من المسلمين أوروبا احتفالاتها برأس السنة الميلادية

وهذه علامة رُقيٍّ في الوعي والمشاعر فالشاعر الألماني الكبير غوته مثلاً كان لا يني يشير باعتزازٍ إلى تأثير الثقافة الشرقية والإسلامية على تكوينه المعرفي – الروحي حتى قيلَ عنه أنه ماتَ مسلماً !

والأمرُ نفسه مع الفيلسوف الشاعر نيتشه الذي استوحى من نبي الفرس زرادشت أحد أهم مؤلفاته وأجمل ما كُتبَ شعراً باللغة الألمانية في كتابه (كذا تكلَّم زرادشت)  وقد اخترتُ هذين الإسمين من التراث الفكري والشعري الألماني بسبب إعجابي بهما منذ سنوات الشباب الأولى ولأني أعيش في وطنهما وكذلك لأضيف أنَّ الأبيات الأربعة التي افتتحتُ بها موضوعي هنا هي جزء من تكملة لقصيدة بدأتُها بتحية لبرلين وبغداد قبل فترة قصيرة وكانت بعنوان: برلين – بغداد ... تناوُب وتذاوُب .

وبرلين التي تشترك مع بغداد بابتداء اسمها بحرف الباء وتَوافق النغمة أو إيقاع الإسم، حمَّلتني حين سمعتْ أني أفكر بزيارة إلى العراق قريباً، حمَّلتْني رسالة شفوية إلى بغداد ومنديلاً وزجاجةَ نبيذٍ معتقٍ يسمّى (جلو واين) وهو توليفة من الفاكهة والثمار عُتِّقت بتركِها لسنوات في سراديب رطبة مظلمةٍ لذلك أتت مضيئةً ! وهي في الحقيقة منحتني زجاجتين وليست واحدة فأمّا التي لي فقد انفردتُ بها على مصطبة رصيفٍ في أحد  شوارعها العريقة مراقباً نفسي فيما أدَّعي مراقبة الناس !

حالة الإمتلاء التي بعثها في داخلي لغطُ المشاة وحركاتهم التي تشبه الهلوسات ونشوةُ النبيذ جعلتني أتوق لمعانقة الناس بحرارة غير مفهومة .

الناس ...

إنني قد أختلف عن الباقين في أني أحبُّ الناس كلما فصلتْني مسافةٌ عنهم ويوماً ما في مدينة هامبورغ وكان الفصل صيفاً والوقتُ صباحاً انتابني نفس هذا الشعور بالضبط، نفس الدوار، فقد مررتُ بحديقة عامة واسعة تقع بين مسكني ومحطة القطار، حديقة تحيط بأحد أطرافها بحيرة زرقاء حدَّ الخُضرة، وأقول: حدَّ الخُضرة، لأنَّ نباتاتٍ كثيفة خضراء كانت تنحني بأوراقها الصغيرة على الماء وكأنها تريد أن تغترفَ منه، ولأنَّ البحيرة كانت معشوشبة بقواقع وحلازين تطرح أشكالُها على عينيك ألف سؤال ! وهناك لمحتُ مالك الحزين فأشعلتُ سيجارةً على عجلٍ ثم جلستُ على ضفة البحيرة وأخرجتُ دفتري وقلمي وبلا مقدمات:  

 

الحقلُ يأسرُني بمالكهِ الحزينْ

يا مالكاً،

مرآكَ يُسعدني وليس تشفِّياً،

صنوانِ نحنُ،

ألا ترى:

متباطيءٌ دربي،

وخطوي لا يَبينْ؟

دعْ حقلَكَ الواهي إذنْ

فغداً تُعَبِّدُهُ المدينهْ

وتعالَ تُوصِلكَ الدموعُ

لقعرِ روحيَ، قعرِها

فإذا وصلتَ

ترى حقولاً يانعاتٍ بانتظاركْ

وهوىً ربيعيَّاً

ومالكةً حزينهْ !

---

 

طبعاً لم أقرأ قصيدتي هذه عليه ولكنه بطريقةٍ ما سمعها فاقتربَ مني بعينين مبتسمتين فسألتهُ: لِمَ يسميك الناس مالك الحزين؟

أجاب بحميمية: لستُ حزيناً ولكن إذا حزنتُ فسأحزن عليهم !

قلتُ لهُ: قبل أيامٍ كتبَ لي أحد أصحابي يقول: أسيرُ في الشوارع، أبكي على الناس بينما هم يضحكون عليَّ !

ردَّ مالك الحزين: نعم، وهذه هي المحنة، فأنا أحبُّ أيضاً أبناء جنسي ولكني لا أستطيع العيش معهم .

قلتُ: ولكنني أريد الكتابة للناس فكيف؟

قال: لا تكتبْ للناس فتكونَ كالمُهرِّج، بل أكتبْ لنفسك وسترى أنَّ ذلك أقرب إلى قلوب الناس .

قلتُ لهُ: بديع ولكن لا بد أنَّ لك حبيبة؟

هنا صفَّق بجناحيهِ فرَحاً وأجاب: نعم ومن خلال حُبِّها أحبُّ أبناء جنسي وجنسك ثم لا تنسَ أنكَ دعوتَني إليها !

قلتُ: هذا صحيح وهناك سبب آخر مفادُهُ أنَّ هيلدا دومين تمنَّت أن ترى نحلة مبتلة بقطرات المطر فتدعوها لتجفِّفَ نفسها ...

تقول:

أعدُّ قطرات المطر على الغصون

إنها تبرق من غير أن تسقط،

حبال مضيئة على الغصون العارية.

هي الحديقة تنظر لي بعيون كبيرة

نوّار الصفصاف مبتلُّ القشرة

ولا

نحلةٌ تزورهُ ...

أريد أن أدعوها لتجفف نفسها قرب موقدي .

-------

 

وتقول في قصيدة أخرى:

أنت تعرف

كم بقيتْ الأصص

متروكة في حديقتنا

وكنتُ حينها أستطيع

أن أتحوّل إلى جدارٍ من النبيذ المتوهّج

من أجل نحلك .

-------

 

علَّقَ مالك الحزين: أفهم هذا الشعور، فهي ما قالت ذلك إلاّ لإدراكها بأنَّ مجد الكون يمكن أن يلمعَ على جناح نحلةٍ فلا كبيرَ هناك ولا صغير وإنما هناك دهشة فحسب

وهذا جزء من نبوغ الحُب وعبقرية الجمال ...

 

قال لي مالك هذا قبل سنواتٍ وسنوات وها هي كلماته تستحوذ على أولويات تفكيري وهواجسي: كيف تجعل من الحب كلمةً دائمة التجدد، كلمةً تُرجعها الألسن إلى القلوب؟ وحتى اللسان في تكوينه وشكله يُشبه القلب لذلك فأنت تقول أحياناً عن الحب: التفاني، فيقول القلبُ: هو هذا ولكن ليس تماماً وتقول: عطاءٌ، فيقول القلبُ: هو هذا ولكنه ليس كل شيءٍ ...

فهناك دائماً فاصلة ما، فاصلة نفسية بين الحالة واللغة المُعبَّر بها

لم أسافر ! وهذا إثمٌ آخر

ولكنني سأحتفظ بزجاجة النبيذ لموسم سفرٍ آخر بعد أن تتعافى بغداد فأسكب فوق أمواج دجلتها نبيذي النابض كدم العشاق،

لم أسافر هذا الموسم ولكن مَن أحبُّها فعلتْ هذا !

لا يهم إلى أين يسافر المرء، أنتظرُ أن تبسط بين ذراعَيْ لهفتي أحاديثًها المبتهجة كهذا الثلج، ثلج رأس السنة، وهو يتمدد على الغصون والشوارع بندفهِ البيضاء مثلما سحابة صيف،

وأقول لها:

العالم هو أنتِ فاذهبي أينما شئتِ، عانقي البشَر، داعبي الحيوان، لامسي الشجر، طوفي في البلدان البعيدة الضامرة الخصور، والممالك المكتنزة الأفئدة بسرٍّ عصيٍّ على البوح، إربطي البحر بخطاك، مُرّي بالمدن العريقة الروائح والمتكئة على أقواس السحب، والقرى العذراء البكرِ المشرعة الأذرع للشمس والطفولة، إفعلي كل هذا فلن تكتشفي إلا ذاتك ولن تتوغلي إلا في أنوارك أما أنا فيكفي أن أسمع بفرحكِ لأفرح وأسكبَ ضرام أشواقي على الثلج فيمور كدواماتٍ تلفظها براكينُ بلون الزنابق !

 

-----------------------------------

(*) نص من كتاب قصصي نثري شعري قادم بعنوان: النهر الأول قبل الميلاد .

 (1) هيلدا دومين: شاعرة ألمانية ذات أصول يهودية عاشت منفية وأغلب قصائدها تعكس حنيناً لوطنها .

 (2) المقصود: الشاعرة المتصوفة: رابعة العدوية .

---

برلين

كانون الأول - 2009

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1282 السبت 09/01/2010)

 

 

في نصوص اليوم